مقالات

الثورةفكرة،والفكرة لا تموت

صالح موسى الحمزة

محام وكاتب سوري
عرض مقالات الكاتب


يذكر الدكتور أحمد توفيق قصة حدثت معه عندما كان طبيبا في وحدة ريفية، جاءته حالة فتاة تعرضت يدها لالتهاب شديد فامتلأت بالصديد . كان عليه أن يشق الجلد ويخرج هذا الصديد طبقا للقاعدة القديمة: « حيثما يوجد صديد فلا بد من التخلص منه » .
قام الطبيب بتطبيق هذه القاعدة الطبية واستخرج كميات كبيرة فعلا من الصديد جعلته يتِيه فخرا بنفسه. على أن فرحته لم تدم طويلا.. لقد عادت الفتاة بعد ثلاثة أيام وقد ارتفعت درجة حرارتها بتلك الطريقة المحمومة المجنونة التى تدل على وجود صديد مضغوط، وكانت ترتعش، وأدرك ساعتها أن التهابا أقوى كاد يدمر يدها. وأخذها على الفور لجراح بارع فى المستشفى الجامعى. رأى ما قام به فقال ضاحكا :
«المشكلة هى أن قلبك رهيف جدا ولا تملك الشجاعة اللازمة.. كان عليك أن تفتح أنسجة أكثر وتمزق أكثر وتتوغل أكثر».
وذكّره كذلك بقاعدة أهم هى أن عدوى اليد خطرة جدا، ولا يجب التهاون معها بأى حال. القاعدة الأخيرة هى أنه يجب العمل تحت مخدر عام، لأن الفتاة لن تتحمل ما سيحدث

وفى ذهول راح يراقبه وهو يُولج مبضعه، فيمزق الحواجز الصفاقية ويخترق أقسام اليد.. ورأى أنهارا من الصديد تتدفق . وهو الذي حسب أنه أجاد التنظيف ، وعندما ضمد الجرح ووضع الفتيل، كانت حرارة الفتاة قد هبطت فعلا.. وبعد يومين كانت ضحكتها تشرق كالشمس .

يتشابه هذا الموقف و ما وصل إليه حالنا اليوم بسبب الثورة التى لم تكتمل. لقد نجح الثوار فى أن يزيلوا جزءا من الصديد و لكن ما زال هناك الكثير جدا منه.. صديد يحتاج إلى جراح محترف، ويحتاج إلى قسوة وإلى حزم .
يجب أن يعترف المرء بأنه كان مخطئا عندما اعتقد أن النهاية السعيدة جاءت في ٢٠١٣ عندما سيطر الثوار على ثلاثة أرباع سوريا ، والحقيقة أنها كانت البداية، وكان يجب أن يستمر كل شىء إلى أن يتحقق ما يريده الثوار . الخلاص من بعض الدمامل لا يعنى أنه لم يعد هناك صديد..
لم تكن الثورة بزخمها الشعبي بحاجة إلى السياسة المدنية ( معارضة الخارج ) قدر حاجتها الى السياسة العسكرية وفرق كبير بين الفندق والخندق وإن تقاربت الأحرف ومن عارض النظام من فندقه ليس كمن عارضه من خندقه .تسليم زمام الثورة لمعارضة الفنادق كان القاصمة التي أصابتها في مقتل ، كمن يعطي رقبته لجلاده ، الأصل أن يقود الثورة أولياء الدم وليس أولياء الدولار . فأولياء الدم لن يفرطوا بثورتهم مهما ارتفع سقف الدولار على عكس جماعة الفنادق النطيحة والمتردية الذين يرضيهم الفتات ومابقي من الفضلات .
نصف الثورة ليست ثورة بلا أدنى شك ، إنها مقتلة ، ومشكلة الثوار كانت في عدم الصبر و التعجل في قطف الثمار قبل بدو صلاحها .
كانت الثورة في أوجها واستطاعت أن تحظى بتعاطف إقليمي وعالمي ، حتى تسلق عليها ادعياؤها كل يحمل هم مشغله وداعمه لا هم وطنه ، فانحرفت عن مسارها وتشتت طاقتها .

كانت « ولا زالت » هناك ثلاث قواعد أساسية في العمل الثوري صرخنا بها منذ البداية حتى جف الحلق ونبت الشعر على اللسان لو طبقت بحذافيرها لأختصرت الكثير الكثير من الدماء والخراب ، ورحم الله أمير المؤمنين عليا بن أبي طالب كان يقول : لا رأي لمن لا يطاع .

القاعدة الأولى :
الدولة تسقط بسقوط العاصمة لا بسقوط المدن الصغيرة والأرياف .

العاصمة هي مركز الثقل السياسي والعسكري والبشري .
كان على الثوار بكل سوريا التركيز على إسقاط العاصمة بشتى الوسائل فماذا استفادوا من تحرير الرقة أو دير. الزور وحتى حلب ؟! سوى الكثير من الدماء والإقتتال الجانبي على النفط و الغنائم وظهور أمراء الحرب وتجار الأزمات ؟ .

القاعدة الثانية :
إقطع على عدوك مشروعه .

يمتلك النظام الطائفي خطة مرسومة مسبقا لمواجهة الثورة إن ظهرت شرارتها في أي مكان وزمان ، و مع انطلاق الشرارة الأولى تعامل معها النظام وفق آلية مدروسة ، كانت المهام موزعة بشكل معروف وكل ضابط وصف ضابط ومسؤول طائفي كانت لديه معرفة ومهمة واضحة ونقطة انطلاق وكان هدفه الأول حماية كل نقطة جغرافية فيها علوي ومشروعهم الطائفي يمتد ليشمل مدينة حمص بالإضافة إلى اللاذقية وطرطوس فكان لابد من التركيز على تحرير حمص بعد العاصمة وبذلك تكون قلصت عليه المساحة الجغرافية وحصرته فقط في جغرافيته المكانية الضيقة ، وقطعت له أذرعه و أعميت عليه بصيرته .

القاعدة الثالثة :
هده عدوك كما يهددك .

إلى اللحظة لم يتم تهديد النظام في عقر داره بشكل فعلي ولو سقطت على مدنه وقراه عشر قذائف مقابل كل قذيفة يسقطها على المدنيين العزل لتسابقت كل دول العالم تتوسل الثوار وتقف صاغرة ذليلة عند مطالبهم .

تطبيق هذه القواعد الثلاثة لم يكن بالأمر الصعب وخاصة مع تنامي قوة الجيش الحر وقتها و قبل ظهور التنظيمات المشبوهة العابرة للحدود والتاريخ .
العملية الجراحية التي قامت بها الثورة عملية سطحية تجاهلت المرض الحقيقي العميق الكامن تحت العروق والأوردة والذي التهب من جديد وبقوة ولا زال يهدد حياة الثورة .
ثلاثة قواعد لو طبقت بحذافيرها لاختصرنا على انفسنا كل تلك الدماء و التشرد والخراب :
_ الدولة تسقط بسقوط العاصمة
_ اقطع على عدوك مشروعه الطائفي
_ هدد عدوك كما يهددك واضربه في عقر داره .
مازال في الثورة بقية خير وأمل والثورة فكرة الافكار لا تموت ، وقد تحتاج الثورة ذاتها إلى ثورة أخرى أكثر نضجا وخبرة وقسوة تستأصل فيها مابقي من ورم وصديد .

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. لمزيد من الغوص في واقع المشكلة حتى يتسنى الوصول إلى تشخيص دقيق لها يعقبه علاج ناجع فيه الشفاء بعون الله : جوهر المشكلة يتعلق بالعقيدة ، حيث حين يكون مطلوباً منا الإيمان باليوم الآخر فمعنى ذلك أن المطلوب تصديق جازم عن يقين . واقع الأمر أن أكثر الناس في أمتنا حالياً لديهم اعتقاد سطحي ينطبق عليه قوله تعالى: ( بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون ). في هذه الآية الكريمة ، يقول بعض المفسرين و على رأسهم ابن عباس ، رضي الله عنه ، أي غاب علمهم عن الآخرة . هذا الغياب نقصان يؤدي للشك في وجود الآخرة بل و يقود إلى العمى بشأن حدوثها .
    إذا وجدت بيننا أعداد غفيرة تؤمن بالآخرة حق الإيمان فعليها أن تدرك ما سيحصل فيها من حساب مثلاً . باستثناء الأنبياء الكرام و من يدخلون الجنة بغير حساب ، بقية الناس عليهم الإجابة عن أربعة أسئلة حول (العمر ، الجسد ، العلم ، المال) حيث في الحديث الصحيح قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ عَن عُمُرِه فيما أفناهُ وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ “ . ما أجمل أن نفهم أن 3 أشياء عليها سؤال واحد ، بينما المال عليه سؤالان نظراً لخطورة دوره في مسار حياة الناس و على الأخص أمتنا و نحن نرى أن رسولنا الكريم تحدث عنه بمصاحبة دعاء منه – و معلوم أن دعاءه مستجاب – كما ورد في حديث صحيح البخاري ” تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وإنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وإذَا شِيكَ فلا انْتَقَشَ …” ففي هذا إخبار و دعاء ، يَعني: عَثُرَ هذا الشخص وسَقَطَ على وَجْهِه أو انقَلَبَ على رَأْسِه ثم دُعاءٌ عليه بالانتكاس أي بالخَيبةِ والخُسرانِ و فقدان القدرة حتى على إخراج شوكة من بدنه.
    انطبق هذا الحديث المخيف على ما حصل في ثورة شعب سوريا الحبيبة التي امتطاها لا أقول قادة و لكن “قوادون” و هؤلاء باعوا أنفسهم و أمتهم بثمن بخس فمنهم من كان يحرس العاصمة مثل (جيش الأفلام) و (فيلق الشيطان) لمنع اقتحام الأبطال الأحرار لها و منهم من كانت غرفتا (الموم و الموك) تحدد له حركته مقابل المال و منهم من كان يمتنع عن غزو الساحل و يجعل المعارك في بلدات المسلمين لتهديمها و منهم من كان يريد من السيطرة على مناطق جمع المال مع الاستعداد للتسليم و للرحيل .
    نال هؤلاء القوادون بترودولارات و ريالات و دراهم و طومانات ، لكنهم انكشفوا و الحمد لله راجين من الله أن لا يبقى شيء من هذا الصديد . مهما كانت عبقرية الرجال فإن النصر هو فقط بيد الله وحده في نهاية المطاف و ينصر من يشاء على من يشاء متى ما يشاء و كل ما على المخلصين الأخذ بالمستطاع من الأسباب و التوكل على الله نعم المولى و نعم النصير .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى