ثقافة وأدب

نزف من زيتون، قصة واقعية !

صالح موسى الحمزة

محام وكاتب سوري
عرض مقالات الكاتب

أتى أمْرُ الله فلا اعتراض على حكمه،
توفي العم أبو حاتم ولابدّ من دفنه في مسقط رأسه « كفر تخاريم »، هذا ما تعارف الناس عليه :
« الموتى يدفنون في مقابر أهلهم ».
مع غياب شمس ذلك اليومِ كانت جثّتهُ قد توارت تحت التراب.
نادى احدُ الأقارب :
بيتُ عزاءِ الرجال في منزل « أبو فراس ».
من هو أبو فراس هل أعرفه؟ شاهدتُه لأوّل مرةٍ يستقبل المعزيين عند باب منزله.

رجلٌ خمسينيٌّ تركت الأيام في وجهه أخاديداً عميقةً ، وطغت السكينة والوقار على محياه ، فزادته هيبةً واحتراماً ، يطيل الشرود لتشعرُ أنّ له عالما آخر غير عالمنا هذا .
هادئٌ، متزنٌ، قليلُ الحركة، قليلُ الإلتفات.
لم يتكلمُ أيام العزاء الثلاثةِ إلا ما اقتضتهُ مجاملات العزاء.

  • ساقني الفضول ، فسألتُ عن عمله؟ قال لي احدهم همسا :
    « كان في بيت خالتو »
    مصطلحٌ ترعيبيٌّ يعلم اهل سوريا فقط معناه :
    اي كان مسجونا .
    قلت: وأيّ سجنٍ؟
    قالوا: سجنُ تدمرٍ، لبث في السجن ست عشرة سنة ونيف .

طيلة أيام العزاء كان أبو فراسٍ يسرقُ نظراته نحوي تارةً ثم يطرق رأسه في الأرض ويعود إلى شروده المعتاد .

شعورٌ ما دفعني للإقتراب منه، تجاذبنا أطراف الحديث البسيطة في سياق التعارف.

أحسستُ للوهلةِ الأولى أنّه يعرفني، وكأنما رآني سابقاً.

في اليوم الرابع وبعد انتهاء مدة مراسم العزاء انفردتٌ بهِ فأخذ الحديثُ معه مسلكاً مختلفاً، قال لي:
كان في السجن معنا كثيرٌ من شباب الجزيرة، منهم: أطبّاء مهندسون – محامون – قضاة دعاة، جلّهم يحملُ درجةُ علميّة، من أهل العلم والأخلاق والأدب، كما إنّك تشبه في ملامحك الدكتور : علي الحسين، لدرجة أنّي ظننتك الدكتور علي أو أحدُ إخوته.

الدكتور علي الحسين أجرى أكثر من عملية جراحية في السجن، وكلّها كانت ناجحة، (يا أخي دكتور جراح مبدع قليل أمثاله) قالها بنبرة غيرت ملامح وجهه .
قلت له: أخي على مهلك لو سمحت عمليات جراحيّة ؟
و في السجن؟!
قال : نعم وكنت أساعدهم في تثبيت المريض .
قلت له : ( أخي خذني على قد عقلي ) !
عملية جراحية يعني تعقيم ومشرط وخيط و أدوات ومستلزمات طبية كثيرة ……إلخ.
قال : يتركون المريض حتى يموت ولا يتم إسعافه أو عرضه على طبيب..
لذلك كان الأطباءُ المسجونين يَجرون عمليات جراحيّة بما يتوفر بين أيديهم من أشياء بدائية. مثلاً: المشرط من سير الساعة المعدني، يحفُّ على حائط السجن فيتحوّل إلى مشرط حاد ، وأمّا التعقيم بالماء وما تبقى من ملح الطعام، وخياطة الجرح من كيس الخبز « النايلون » نشدّه على مهلٍ ونَجدلهُ فيتحوّل إلى خيطٍ رفيعٍ يخاط به الجرح.

يكمل أبو فراس حديثه : أكثر من عملية استئصال زائدة شهدتها وساعدتهم فيها.
هنا سكت أبو فراس وعاد لحزنه وشروده وصمته .
حدثني هذه القصة بلا انفعال أو تأثر بمجرياتها، حديثٌ من اعتاد رؤية هذا الأمر . ومثله وأشدّ منه على مدى ست عشرة سنة، مات فيها الإحساس بالألم وتبلدت لديه المعاني و تحجرت فيها المشاعر !!
ستة عشرة سنة كافية لتقتل فيك كل ما هو انساني .
حديثٌه لا بشبه حديثنا عن أسعار الخضروات وفاتورة الكهرباء وزيادة الراتب.

توقفت الدمعةُ في عينيّ تلك اللحظةِ، جفّ فمي والتوى لساني، وصمت مع صمت أبي فراس، وشردت مع شروده. ولدقائق معدودةٍ عشت في عالمه.

هذا غيض من فيضِ تلك المآسي التي عاشها من كتب الله له النجاة من سجن تدمر .

ذلك السجن الذي جمع به حافظ الأسد نخبة المفكرين والعلماء والأدباء والدعاة من أهل السنة ومن لم يدخل السجن منهم تم اغتياله وتصفيته، ومن حَسُن حظُّهُ وساعدته ظروفه نفد بجلده وهرب إلى خارج سوريا.

أنظر الى وجه أبي فراس واتمتم في خفايا نفسي :

لا تَشْكُ للناس جُرْحًَا أَنْتَ صَـــاحِبُهُ
لا يُؤْلِمُ الجَرْحُ إلا مَن بِهِ ألَــــــــــــمُ

في الحزن الدفين في طيات أعماق ذلك البيت الشعري لم تعد حال أبي فراس وآلاف الرجال من أمثاله مجهولة ( جهالة قائل هذا البيت من الشعر ) بل صارت جزءاً معلوماً ومحسوساً في ثقافة السوريين و همسهم نعم حتى الحديث عن المآسي كان همسا . لماذا ؟
لأنّ الحيطان لها (آ ذانٌ ) هذا ماكنا نسمعه وما تربينا عليه في زمنِ الطغيان

وتبقى القصة غصة مستمرة…..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى