مقالات

الطريق إلى الإسلام-3 مع محمد أسد في رحلة الإيمان

د. عثمان محمد بخاش

باحث في الفكر الإسلامي والقضايا المعاصرة
عرض مقالات الكاتب

فلا عجب، إذن، أن أسد، المثقل بهذه الأزمة الروحية العميقة على مستوى العقل والوجدان، شُدِه بما رآه من سلوكيات المسلمين اليومية، والتي تعكس انسجاماً تاماً بين إيمانهم بربهم و تصريفهم لشؤون الحياة اليومية بشكل متناغم سلس يعكس الطمأنينة التي يشعرون بها، ومن ذلك:

-وصفه العمال العرب، في الخان القريب من بيت خاله الذي نزل فيه في القدس، كيف يقومون بعملهم اليومي في استقبال الجمال المحملة بالخضار والفاكهة من القرى المجاورة، ثم يقومون بتحميلها على الحمير لتوصيلها إلى الأسواق الضيقة في المدينة..” لقد كانوا فقراء لا تستر أجسامهم سوى ثياب رثة بالية، ولكنهم كانوا يتصرفون كالسادة العظام. وعندما كانوا يجلسون معا لتناول الطعام على الأرض، ويأكلون أرغفة الخبز مع قليل من الجبن او بعض حبات من الزيتون، لكن لم أكن أستطيع إلا أن أعجب بنبل جلدهم واحتمالهم وهدوئهم الداخلي: كنت تستطيع أن ترى أنهم يكنون الاحترام لأنفسهم ولأمور حياتهم اليومية” (100)

– فحين كان يراهم يوقفون أعمالهم و يصطفون وراء إمامهم لأداء الصلاة بشكل منظم جدا في دقة حركاتهم كالجنود، انزعج من تلك الصلاة العميقة مقترنة بحركات جسمانية آلية فسأل الإمام-القائد “ألا يكون من الأفضل للمرء أن يخلو بنفسه وأن يصلي إلى الله بقلبه؟ لم حركات جسمك هذه كلها؟” ولكن جواب الحاجي- الإمام جاءه صادما لغفلته الروحية المثقلة بعقد المجتمع الغربي:” بأي طريقة أخرى يجب أن نعبد الله؟ ألم يخلق الجسد والروح معا؟ وإذ كان هذا كذلك أفلا يجب أن يصلي الإنسان بجسده كما يصلي بروحه؟” (101)

  • هذا التفسير البسيط من الحاجي فتح لأسد أول باب للدخول في دين الإسلام.” لقد قابلت وجها لوجه إدراكا لمعنى الحياة كان جديدا بالكلية بالنسبة لي، فلقد بدا لي أن هناك نسمة دافئة إنسانية تسيل من دم هؤلاء العرب إلى أفكارهم وحركاتهم خالية من أي تلك الصدوع الروحية المؤلمة، تلك الأشباح من الخوف والنهم والكبت التي كانت تجعل الحياة الأوروبية بشعة جدا ولا توحي إلا بالقليل من الأمل…  ومع الزمن أصبح أهم شيء بالنسبة إليّ، أن أفهم روح اؤلئك المسلمين…لأنني وجدت فيهم الالتئام العضوي بين العقل والأحاسيس، ذلك الالتئام الذي كنا نحن الاوروبيين قد فقدناه. أفلا نستطيع عن طريق تفهم حياة العرب تفهما أفضل أن نكتشف الصلة الخفية بين ما يكابده الغرب من انعدام الوحدة الذاتية، وبين جذور هذه المكابدة وأسبابها؟ أن نجد ذلك الشيء الذي جعلنا نحن الغربيين نهرب من حرية الحياة المقدسة التي يبدو أن العرب يملكونها، حتى في انحطاطهم وانحلالهم الاجتماعي والسياسي ” (112)
  • ويروي أسد مغامرته حين قرر الذهاب من حيفا إلى دمشق سيرا على الأقدام، مستفيدا من كرم القرويين العرب و حسن ضيافتهم.” ألا تحب أن تشاركنا طعامنا وتقضي ليلتك في بيتنا؟” إنهم لم يسألوني من أنا ولا إلى أين كنت أقصد، وما كانت غايتي. ونزلت تلك الليلة ضيفاً عليهم. ما أجمل أن ينزل الإنسان ضيفاً على العربي! حتى الأطفال في اوروبا يسمعون بحسن ضيافة العرب. أن تكون ضيفا على عربي إنما يعني نفاذك لبضع ساعات نفاذا صادقا إلى صميم حياة أؤلئك الناس الذين يريدون أن يكونوا أخوة لك وأخوات. وليس هذا من قبيل تقليد قومي نبيل يحمل العرب على أن يكونوا مضيافين بهذه الطريقة الفياضة، بل هي حريتهم الباطنة. إنهم متحررون من الشك والريبة في أنفسهم إلى درجة تجعل من اليسير عليهم أن يفتحوا قلوبهم إلى أي إنسان آخر. إنهم ليسوا بحاجة إلى أيما قدر من أمن الجدران الكاذب، تلك الجدران التي يقيمها كل شخص في أوروبا بينه وبين جاره”(125 بتصرف).
  • ومع أنه لم يكن يملك في جيبه غير 55 قرشا صرف منها 35 قرشا لشراء هوية لتجاوز الفيزة الفرنسية اللازمة للعبور، و20 قرشا اجرة الطريق من قطنا الى دمشق بعد اسبوعين من السفر. وهكذا تمتع باستضافة العرب له من قرية إلى أخرى.” وعندما رقدنا لننام – وكنا نحوا من دزينة من الأشخاص في غرفة واحدة- أحذت أحدق في الدعائم الخشبية فوق رأسي، التي كانت تتدلى منها خيطان مشكوكة بالفلف والباذنجان المجفف، وفي الكوى الكثيرة التي في الجدران، وتساءلت ما إذا كان باستطاعتي أن أحس بالأمن والارتياح أكثر لو كنت في بيتي” (126).
  • “وبانفعال نفسي تواق إلى تفهم جديد بعينين مفتوحتين على أشياء لم أكن أتخيلها من قبل كنت أتجول إبان تلك الأيام الصيفية في أزقة السوق الرئيسية في دمشق، ووقفت على ذلك الاستقرار الروحي في حياة سكانها. إن أمنهم الباطني كان يمكن أن يُرى في الطريقة التي كان أحدهم يتصرف بها نحو الأخر: في الاعتبار الكبير الذي كانوا يلقون به ويودعون به بعضهم بعضا، وفي الطريقة التي كان اثنان منهما يمشيان معا، يمسك أحدهما بيد الآخر كالأطفال، لا لشيء إلا لأنهما كانا يشعران بالود كل نحو صاحبه”(137) [1]
  • وبعد أن حضر صلاة الجمعة مع مضيفه الدمشقي في الجامع الأموي، وانقياد المصلين وراء الإمام، “في تلك اللحظة أدركت مبلغ قرب هؤلاء القوم من ربهم ومن دينهم.إن صلاتهم لم تكن منفصلة عن يوم عملهم مستقلة عنه، بل كانت جزءاً منه، لم يقصد بها أن تساعدهم على “نسيان” الحياة، بل على ذكرها عن طريق ذكر الله بطريقة أفضل. وقلت لصاحبي ونحن نغادر المسجد:ما أغرب  وأدهش أن تشعروا أن الله قريب منكم إلى هذا الحد! أود لو استطيع أن أشعر نفسي بهذا الشعور! فأجابني:وكيف يمكن أن يكون الأمر غير ذلك، يا أخي، أليس الله، كما يقول  القرآن الكريم، أقرب إلينا من حبل الوريد؟”(139 بتصرف)
  • وهكذا بدأت قطع الأحجية ترتبط في مواقعها، كل جزئية تدعم الأخرى، في فهمه للإسلام والأجوبة التي يقدمها لصياغة العقيدة وطريقة العيش العملية في الشؤون اليومية،” لقد أجفلت بعض الشيء في أول الأمر لا لاهتمام القرآن بالأمور الروحية فحسب بل أيضا بكثير من وجوه الحياة التي كانت تبدو تافهة دنيوية أيضا. إلا أنني مع الزمن بدأت أفهم أنه إذا كان الإنسان حقا وحدة كاملة من جسد وروح –كما يؤكد الإسلام- فإنه ليس هناك وجه من وجوه حياته يمكن أن يكون من التفاهة بحيث لا يقع داخل نطاق الدين”(140)
  • وهكذا قدم الإسلام الحل الأمثل للمعضلة الكبرى: التشريع العملي الذي يمكن الإنسان من الانسجام الفطري في تسيير أعمال حياته اليومية منطلقا من الزاوية الإيمانية التي لا تغادره،”إن الإسلام لم يبد لي ديناً بالمعنى الشائع للكلمة بمقدار ما بدا طريقة في الحياة…ليس هناك من أثرللثنائية في اعتبار الطبيعة البشرية[2]، ذلك أن الروح والجسد يعتبران وحدة متكاملة”(140)  فالإسلام لا يعني بإكمال الفرد روحيا فحسب، كما تفعل النصرانية، بل يهتم “بخلق الظروف الاجتماعية التي يمكن أن تكون باعثة على النمو الروحي عند الناس جميعا بحيث يستطيعون أن يحيوا حياة كاملة.(140)
  • هذا الاحتكاك المباشر مع العرب، وما عايشه أسد من مشاهدات فرضت عليه المقارنة بعمق ما بين أسلوب حياة العرب والحياة الغربية، جاء بمثابة شرارة من نور انقدحت في ذهنه دفعته إلى التفكير عن العوامل وراء هذا الاختلاف البيّن..وبعد سنة ونصف أمضاها بين العرب عاد إلى ألمانيا عبر تركيا فالبلقان فإيطاليا بالقطار…” ولقد أحسست بصدمة ما عندما أدركت أنني كنت أنظرإلى تلك المشاهد الأوروبية، التي طالما كانت مألوفة لديّ، بعين الغريب. لقد بدا الناس في عينيّ بشعين جدا، وحركاتهم حادة خرقاء دونما أي صلة مباشرة بما كانوا يريدون ويشعرون حقا: وفجأة عرفت، بالرغم  من ظهورهم بمظهر الذي يعرف هدفه في كل ما كان يصدر عنهم، أنهم كانوا يعيشون، دون أن يدركوا ذلك، في عالم من الادعاء والتظاهر. وكان واضحاً أن اتصالي بالعرب كان قد بدل بالكلية نظرتي إلى ما كنت أعتبره جوهرياً في الحياة…”(144)

[1] كنت أشرت في الجزء الأول إلى قول الكاتب إن حياة العرب المسلمين التي تتضمنها صفحات الكتاب قد تحطمت تحت وطأة اجتياح الحضارة الغربية التي حملت معها تحديات وخلقت عوامل هدم للهوية الحضارية للمسلمين. و أدعو القاريء للمقارنة بين هذه المشاهد التي يصفها أسد وبين الواقع الذي صرنا إليه بعد الانضباع بالمعيشة الغربية وانتشار النظرة المصلحية المادية وسط الكثيرين منا.

[2] يشير إلى النظرة النصرانية القائمة على “الخطيئة الأولى” الموروثة التي يولد معها الإنسان، ومن ثم دعوة النصرانية إلى الخلاص لتخليص الروح من درن الجسد!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى