مقالات

الطريق إلى الإسلام-2 مع محمد أسد في رحلة الإيمان

د. عثمان محمد بخاش

باحث في الفكر الإسلامي والقضايا المعاصرة
عرض مقالات الكاتب

دائما، في كل مشهد نعيشه مع أسد في رحلته، نجد رابطاً مباشراً بين الحياة في الغرب، بكل تفاصيلها الاجتماعية والفكرية والثقافية والحضارية، وبين الحياة مع المسلمين وفي ظل الحضارة الإسلامية، فالكتاب يُعد، بحق، ضمن “حوار الحضارات”، حتى وإن كان حواراً ذاتياً يدور بدون توقف في ذهن المؤلف، المضطر لإجراء هذه المقارنة المتواصلة بين ما يقع عليه حسه، ويجهد عقله في فهمه من الحياة بين المسلمين، و المشهد المقابل من الحياة الغربية التي خلّفها وراءه حين غادر أوروبا. فالكتاب يسرد التحول العقلي في ذهن أسد والذي أوصله، بشكل تدريجي بطيء، إلى اعتناق الإسلام…هذا الاعتناق الذي أدرك أسد  جيدا أنه يعني قطع ما تبقى من جسر الروابط التي تربطه بالمجتمع الغربي. أو ، بتعبيره،” أما أنا فقد عرفت أني غادرت الغرب لأعيش بين المسلمين، ولكنني لم أعرف أنني خلفت ورائي ماضيّ كله. فمن دون أيما انذار، كان عالمي القديم يقترب من نهايته، عالم الأفكار والمشاعر والتخيلات الغربية.كان هناك باباً يقفل ورائي بهدوء، بهدوء كبير إلى درجة أني لم أشعر به ولم أدركه”.(317).

في جوابه لأحد الفضوليين عن كيفية إعتناقه للإسلام أجابه أسد:”لقد تكشف لي الإسلام رويداً رويداً من حديث هنا وكتاب هناك، من نظرة هنا و ملاحظة هناك- بروية وبطء إلى درجة لم أشعر معها بهذا التكشف…”(196) “..ذلك أن الإسلام قد دخل إلى نفسي كما يدخل السارق إلى البيت دونما صوت أو جلبة، إلا أنه يختلف عن السارق من حيث إنه قد دخل إلى نفسي ليبقى إلى الأبد”.(197)

وهذا الجواب يلخص المعاناة في رحلة أسد  العقلية من الشك إلى الإيمان..ويوضح أسد الخلفية الفلسفية التي قادته، في فورة شبابه وتطلعه إلى ما يقنع العقل ويطمئن القلب، إلى الشك في الديانة اليهودية، وهي نحلة آبائه وأجداده وقد درس تعاليم التلمود بناء على إصرار والده، و ببلوغه الثالثة عشرة من العمر تمكن من القراءة بالعبرية بل والتحدث بها (68) ولكن هذه الدراسة لدين الآباء والأجداد أدت إلى إحداث قطيعة بينه وبين كل الأديان….بعد أن استغرب إنشغال الإله( في التوراة) بصورة غريبة بمصير أمة واحدة، الأمة العبرية (68)، خاصة وأن تلك الأمة لا تحمل رسالة عالمية للإنسانية بل تحصر همها بشعبها من دون الناس. وساعدت البيئة الفكرية من حوله، والتي راجت في المجتمع الأوروبي حيث انتشرت فكرة تصادم العقل مع الوحي الالهي ،على انجرافه بعيدا عن تقبل المنظومة الدينية.(69).

نفوره من ديانة آبائه، اليهودية، جعله، لوهلة،  يلتمس الخلاص في المسيحية:”عندما أصبحت قانطاً من دين آبائي وأجدادي فكرت في المسيحية بعض الشيء. لقد كان مفهوم المسيحية عن الله، في نظري، أسمى وأفضل إلى حد لا نهاية له من مفهوم العهد القديم، ذلك أنه لم يقصر  اهتمام الله ومحبته على أية جماعة من الناس، بل افترض أبوته للإنسانية جمعاء.بيد أنه كان هناك عنصر واحد في النظرة الدينية المسيحية ينتقص من عالميته: تمييزه و تفريقه بين الروح والجسد، بين عالم المعتقد وعالم الشؤون العملية” (147). هذا الفصل بين الروح والجسد دفع بالإنسان الغربي الى أن يفقد كل إيمانه الحقيقي بالمسيحية التي أخفقت في تحقيق “المهمة الرئيسية لكل دين: أن يبين للإنسان لا كيف يحس ويشعر إحساساً وشعوراً صالحين فقط بل كيف يحيا حياة صالحة أيضا”.(147).

ويستفيض أسد في وصف الفراغ الروحي في المجتمع الأوروبي الذي وسم العقود الأولى من القرن العشرين:

– “لقد كان في الجو شعور من الهشاشة والخطر، إحساس مسبق بالجيشان الاجتماعي والعقلي جعل المرء يشك في ما اذا كان من الممكن أن يكون هناك مرة أخرى أيما استقرار في أفكار الانسان..ولم تستطع الحيرة الروحية لدى الشباب أن تجد لنفسها موطيء قدم ، وبسبب فقدان المقاييس الأخلاقية الموثوق بها، لم يستطع أحد أن يقدم إلينا، نحن الشباب، أجوبة مرضية عن كثير من الأسئلة التي كانت تحيرنا…(70)

– ” لقد بدا أن الأوروبي العادي- سواء كان ديمقراطيا أو شيوعيا أو عاملا يدويا أو من رجال الفكر- كان يعرف دينا إيجابيا واحدا: عبادة التقدم المادي…وكانت معابد ذلك الدين المصانع الجبارة و دور  العرض السينمائية ، والممختبرات الكيمائية وقاعات الرقص و المشاريع المائية والكهربائية، وكان كهانها الصرافين والمهندسين والسياسيين ونجوم السينما، والإحصائيين و زعماء الصناعة، والطيارين ومفوضي الشعب..”(84)

– “…وذلك الحنين الشره الى السلطة واللذة، لقد أدى بالضرورة إلى انقسام المجتمع الغربي إلى فئات متخاصمة مسلحة حتى أسنانها، مصممة على أن يسحق بعضها بعضا متى وحيثما تضاربت مصالحها وأهواؤها. وفي الجانب الثقافي، كانت النتيجة خلق نموذج إنساني اقتصرت فضيلته على مسألة النفع العملي وحده، وكان النجاح المادي مقياسه الأعلى للصواب والخطأ..”(84)

– “كذلك رأيت مبلغ اضطراب حياتنا وشقائها، وقلة الحياة المشتركة بين الإنسان والإنسان بالرغم من هذا الالحاح الضار، الذي كان يتميز بالهستيرية، على “المجتمع” و”الأمة”، ومبلغ خروجنا على غرائزنا السليمة، ومبلغ الضيق و العفن اللذين أصابا أرواحنا…” (85)

-” إن التركيز الغربي الحاضر في التقدم المادي والتقني الصناعي لم يستطع مطلقاً أن يحول، وحده، الفوضى الحاضرة إلى شيء يشبه النظام. لقد تبلور اقتناعي الفطري أيام الشباب بأنه “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان” إلى الاقتناع العقلي بأن “عبادة التقدم” التي كانت سائدة في تلك الأيام لم تكن أكثر من عوض سقيم مبهم عن إيمان قديم بالقيم المجردة، أي إيمان كاذب اخترعه أناس فقدوا جميع قدرتهم الداخلية على الإيمان بالقيم المجردة وكانوا الان يخدعون أنفسهم بالاعتقاد بأن الإنسان ، بطريقة ما، وبدافع التطور البحت، يستطيع أن يتغلب على مصاعبه الحالية…”( 148).

لقد أدرك أسد جذور أزمة الحضارة الغربية التي أقصت الرب عن الحياة اليومية، و لأن “الطبيعة لا تحب الفراغ” و لكون الإنسان لا يحيا بالخبز وحده الذي يشبع جوعة المعدة، بل يتطلب إشباع جوعة المصير ومعرفة دوره في الحياة وفي الكون، فقدمت الحضارة الغربية “عبادة التقدم” مذهبا بديلا عن الفراغ الروحي في عقل الانسان الغربي. كما قدمت “الداروينية الاجتماعية” الفذلكة الفكرية اللازمة لإقناع الإنسان الغربي بخوض الصراع الشرس في الحياة القائم على “البقاء للأقوى” survival of the fittest، وما يرافق ذلك من مفاهيم “السيطرة على الطبيعة” وإخضاعها للإنسان. فلا عجب أن تزامن التقدم العلمي والصناعي في ذروة القرن التاسع عشر و الثورة الفكرية ل”عصر الأنوار”، مع إطلاق موجات مسعورة لاستعمار العالم وحيثما وصلت آلة الحرب الغربية الفتاكة، دون أن يشعر مثقفو الغرب بأيما تناقض بين إدعاءاتهم الخاوية بالشعارات الإنسانية المزعومة وواقع سياسات الدول الغربية الاستعمارية. لا بل قام بعضهم بتبرير تلك السياسات، على شاكلة مقولة “عبء الرجل الأبيض” التي بررت الاستعمار الغربي بأنه يهدف لتمدين الشعوب الهمجية، وفق توصيف النظرية الداروينية.  ثم جاءت الحرب الدولية الأولى لتفجر تناقضات المصالح القومية لتلك الدول، مع كل ما رافقها من ممارسات وحشية لم تبق أي معنى للقيم الإنسانية و شعارات  الحضارة المرفوعة. وهذا ما أدركه بكل وضوح الشاب ليوبولد فايس الباحث عن أجوبة شافية للأسئلة التي شغلت ذهنه المتوقد….

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى