بحوث ودراسات

هزيمة يونيو/حزيران ودورها في ‘صناعة الشَّرق الأوسط الجديد 4 من 6

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

حماسة المشير عامر للحرب

سُرَّ المشير عامر بعد رد أمريكا أو إسرائيل على إغلاق مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيليَّة، كما ينقل أورين، الذي يضيف إنَّ عامر صرَّح لأحد معاونيه بقوله “هذه المرَّة، سوف نبدأ نحن بحرب” (ص181). أعدَّ المشير خطَّة أطلق عليها “الفجر”، تقوم على “توجيه ضربات جويَّة إلى أهداف استراتيجيَّة إسرائيليَّة وعزْل إيلات”، ثمَّ وسَّع نطاق الهدف ليشمل صحراء النَّقب بكاملها (ص181). ويُروى أنَّ الفريق محمَّد فوزي، رئيس هيئة الأركان العامَّة، كان من أشدِّ معارضي عمليَّة “الفجر”، معتبرًا إيَّاها “كارثيَّة”، ومعتبرًا إعادة احتلال شمر الشَّيخ “استفزازًا لا لزوم له”، كما يذكر أورين (ص182)، نقلًا عن سليمان مظهر في كتابه اعترافات قادة حرب يونيو (1998م، ص49-50 و129-130)، ومحمَّد حسنين هيكل في كتابه الانفجار (1990م، ص573-574). وبرغم ازدياد الثِّقة المصريَّة في قدرتها العسكريَّة وإصرار القادة، وعلى رأسهم عامر، تجاهُل المخاطر التي تحيط بمسألة خوض الحرب، كان عبد النَّاصر يخشى من التدخُّل الأمريكي لصالح إسرائيل، تحت ذريعة بدء مصر بإعلان الحرب بإغلاق مضيق تيران.

موقف إسرائيل يزداد حرجًا وإثارة تَّساؤل: “هل ينبغي أن تستبق إسرائيل الهجوم المصري؟”

اجتمع ليفي إشكول، رئيس الوزراء الإسرائيلي، في مكتبه يوم 25 مايو 1967م، بكبار قادة الجيش، وطُرح تساؤل حول أهميَّة توجيه إسرائيل ضربة استباقيَّة، قد تدينها أمام المجتمع الدُّولي بظهورها في موقف المعتدي. كان إسحق رابين من أشدِّ مؤيِّدي الضَّربة الاستباقيَّة، مقترحًا التراجع عنها إذا ما وافقت أمريكا على أن تُعلن للعالم أنَّ أيَّ اعتداء على إسرائيل سيكون بمثابة اعتداء على أمريكا نفسها. تولَّى أبا إيبان، السَّفير الإسرائيلي في واشنطن، مهمَّة توصيل تلك الرِّسالة إلى الرَّئيس جونسون، الذي، وكما كان متوقَّعًا، رفض الاقتراح الإسرائيلي، موضحًا أنَّ العدوان العسكري لن يكون مبرَّرًا إلَّا “بعد استنفاد جميع الإجراءات السِّلميَّة” (ص198). لم يقترح رابين ذلك إلَّا لإثناء أمريكا عن أيِّ اتِّهام لإسرائيل إذا ما شنَّت ضربتها الاستباقيَّة وعدم خروج إسرائيل عن قواعد اللياقة، إلى جانب الحصول على دعْم أمريكي إذا تطلَّب الأمر. ما أزاد موقف إسرائيل حرجًا أنَّ تقرير وكالة المخابرات الأمريكيَّة (CIA)، الذي أيَّده تقريران للمخابرات البريطانيَّة والأمم المتَّحدة، أفاد بأنَّ حشود مصر في سيناء دفاعيَّة، “ولا توجد أيُّ علامة على هجوم وشيك” (ص207). كلِّ ما وعدَ به الرَّئيس جونسون هو اتِّخاذ التَّدابير اللازمة لفتح مضيق تيران، محذِّرًا من أن تتصرَّف إسرائيل وحدها، ومضيفًا “ليست هناك أيَّة نيَّة مصريَّة لشنِّ هجوم…وإذا كانت لديهم نيَّة، فإنَّ النَّصر حليف إسرائيل حتمًا” (ص219).

وكما حرص أبا إيبان على الحصول على وعْد أمريكي بالدَّعم في وقت الحاجة، طار وزير الحربيَّة المصري آنذاك، اللواء شمس بدران، إلى الاتحاد السُّوفييتي، نهاية مايو 1967م، للحصول على ردٍّ لمجموعة من الأسئلة الهامَّة، من بينها هل سيقدِّم الاتحاد السُّوفييتي الدَّعم اللازم إذا تعرَّضت مصر للهجوم، أم سيلزم الحياد. طرح بدران تلك التَّساؤلات على أليكسي كوسيغين، رئيس وزراء الاتحاد السُّوفييتي حينها، الذي كان ردَّه كالتَّالي، نقلًا عن أورين (ص224):

حذَّر رئيس الوزراء السُّوفياتي بدران، بعد أن نحَّى جانبًا ادّعاءه بأنَّ الجيش المصري جاهز وقادر على هزيمة إسرائيل، من تدخُّل بريطاني وأمريكي في المضائق، ونصح ضيفه بالتَّوصُّل إلى تسوية. إذ افتتح كلامه قائلًا: “إنَّنا سندعمكم، ولكنَّكم قد حدَّدتم هدفكم وحقَّقتم نصرًا سياسيًّا، فمن الأفضل الجلوس إلى مائدة المفاوضات بدلًا من أن تخوضوا حربًا بالسَّيف.”

أصرَّ اللواء بدران، الذي، وكما يشير أورين، لم يصل إلى منصبه الرَّفيع برغم حداثة سنِّه (38 عامًا حينها) إلَّا لولائه التَّام للمشير عامر، على انتزاع وعْد بالدَّعم السُّوفييتي إذا ما استدعت الضَّرورة، يطمئن به المشير. كانت صيغة الوعد الذي أراده اللواء بدران من رئيس وزراء الاتحاد السُّوفييتي نفس صيغة الوعد الذي طلبه أبا إيبان من الرَّئيس الأمريكي، وهو الإعلان أنَّ “الحرب ضدَّ مصر تعني حربًا ضدَّ الاتحاد السُّوفييتي” (ص225). لم يخفِ اللواء بدران أنَّ مصر كانت تستعد لشنِّ ضربة استباقيَّة، وهذا ما أكَّدته برقيَّة أُرسلت من واشنطن يوم 27 مايو 1967م، بينما بدران كان لم يزل في روسيا، تفيد بأنَّ مصر تستعد لتسديد الضَّربة الأولى. ردَّ أليكسي كوسيغين على واشنطن بإشارته إلى انخراط إسرائيل في تدريبات عسكريَّة تستهدف العدوان على القرى العربيَّة المجاورة، كما أصدر تعليمات لسفيريه في مصر وإسرائيل “للاتصال بقادة البلدين ويوقظاهما من نومهما إذا لزم الأمر ويحذِّراهما من خطر الحرب” (ص226). أدرك عبد النَّاصر عند قراءة رسالة السَّفير السُّوفييتي بأنَّ خطَّة “الفجر” التي وضعها عامر كُشفت؛ فسارَع بعقد اجتماع طارئ مع المشير، وطلب منه إلغاء الخطَّة بعد انكشافها، لكنَّ عامر رفض، بذريعة أنَّ “تخسر مصر بالانتظار الحرب قبل أن تبدأ”، بينما رأى عبد النَّاصر أنَّ البدء بالهجوم سيبرِّر التدخُّل الأمريكي ضدَّ مصر لاحقًا (ص228). أُلغيت خطَّة “الفجر”، بعد أن كان الاستعداد لها تمَّ، وكان الجنود على وشك التنفيذ. صاحَب هذا التأجيل للضَّربة الاستباقيَّة المصريَّة قرار مشابه من ليفي إشكول بتأجير ضربة جيشه المماثلة. غير أنَّ قادة الجيش الإسرائيلي تجاهلوا قرار إشكول، واستمرُّوا في الحشد؛ لعدم ثقتهم في نيَّة أمريكا معاوَنة إسرائيل.

برغم تسريب خطَّة الضَّربة الاستباقيَّة، عاد اللواء شمس بدران مزهوًّا من موسكو، بعد أن تلقَّى وعدًا من المارشال أندري غريشكو، وزير الدِّفاع السُّوفييتي وعضو الحزب الشُّيوعي، بدخول الاتحاد السُّوفييتي الحرب إلى جانب مصر، إذا ما دخلتها أمريكا إلى جانب إسرائيل، مضيفًا أنَّ “الاتحاد السُّوفييتي قد أرسل مدمِّرات وغوَّاصات إلى المياه قُرب مصر، بعضها مزوَّد بالصَّواريخ، وبعضها مزوَّد ((بأسلحة سريَّة))” (ص236-237). ينقل أورين عن الدبلوماسي صلاح بسيوني، سفير مصر الأسبق لدى الاتحاد السُّوفييتي، رأيه أنَّ وعْد غريشكو لم يكن أكثر من مجامَلة قيلت أثناء احتساء الخمر وتوديع القادة المصريين. نقل اللواء شمس بدران وعْد غريشكو إلى وسائل الإعلام الرَّسميَّة، التي بَنَت عليه أحلامًا عريضة (ص237):

“إنَّ الاتّحاد السُّوفياتي، حكومة وجيشًا، سيقف إلى جانب العرب ويتابع دعمه وتشجيعه لهم بالقول إنَّنا أصدقاؤكم الأوفياء، وسنظلُّ كذلك، وسوف نتابع، نحن القوَّات المسلَّحة مساعدتكم لأنَّ هذه هي سياسة الشَّعب السُّوفياتي وحربه. باسم وزارة الدّفاع وباسم الشَّعب السُّوفياتي نتمنَّى لكم النَّجاح والنَّصر ضدَّ الصُّهيونيَّة الإمبرياليَّة. نحن معكم ونرغب في مساعدتكم في كلّ لحظة”.

انتقل شعور الاطمئنان إلى الرَّئيس جمال عبد النَّاصر، الذي اجتمع بأعضاء مجلس قيادة الثَّورة، وأسرَّ لهم بقوله، كما أورده أورين (ص237)، نقلًا عن مذكَّرات عبد اللطيف البغدادي، أحد الضُّبَّاط الأحرار وعضو مجلس قيادة الثَّورة(جزء 2، 1977م، ص274):

“إنَّ هذه الرّسالة الَّتي وردت من كوسيغن تفيد بدعم الاتّحاد السُّوفياتي لنا في هذه المعركة ولن يسمح لأيَّة قوَّة بالتَّدخُّل إلى أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه في العام 1956”.

هكذا، شعر الطَّرف المصري بالاطمئنان، وأُرجأت المعركة من نهاية مايو 1967م، إلى وقت لاحق، وإن كان قريبًا. المثير للدَّهشة أنَّ الأزمة لم تتفجَّر في مصر أو سوريا، إنَّما في الأردن!

تفجُّر الأزمة وبدء العدِّ التَّنازلي للحرب

يشير مايكل أورين، المؤرِّخ الإسرائيلي مؤلِّف ستَّة أيَّام من الحرب، في بداية حديثة عن عوامل اندلاع حرب الأيَّام الستَّة في 5 يونيو 1967م، إلى حرص الحسين بن طلال، عاهل الأردن آنذاك، على عدم الدخول في احتكاك مع الكيان الصُّهيوني، منذ معركة السَّموع في نوفمبر 1966م؛ خشية أن يتورَّط في حرب “ربَّما تكلِّفه مملكته، وتاجه، وليس بعيدًا، حياته”، هذا ما دفعه إلى تبادُل المعلومات المخابراتيَّة مع إسرائيل عن “إرهابيي الضَّفة الغربيَّة” (ص241). كان الحسين بن طلال يخشى أن تجعل مصر من مملكته كبش فداء إذا ما صدَّت إسرائيل عدوان الضَّربة الاستباقيَّة المصريَّة؛ وكذلك كان يخشى من تقدُّم القوَّات المصريَّة إلى عمَّان، إذا ما اخترقت صحراء النَّقب وهزمت إسرائيل. وضع الملك الأردني الشَّابُّ في اعتباره أنَّه مجبر على المشاركة في أيِّ معركة تندلع بين إسرائيل من ناحية ومصر أو سوريا وكليهما من ناحية أخرى، بموجب عضويَّة بلاده في القيادة العربيَّة المشتركة.

عبثًا حاول الحسين الحصول على وعْد من أمريكا بإعلان سلامة الأراضي الأردنيَّة في حالة نشوب حرب، ممَّا دفعه إلى التعهُّد إليها بعدم الاحتكاك بإسرائيل إذا اشترك في الحرب المرتقبة. حمايةً لسلامة مملكته، عمل الحسين بن طلال على التحالف مع عبد النَّاصر، ولعلَّ من أسباب حرصه على ذلك التحالف ترديد سوريا أنَّ الحسين غير مقبل على محاربة إسرائيل ووصفها له بالخائن. كما يذكر سمير مطاوع في كتابه الأردن في حرب 1967 (1987م)، أقسم الحسين لمساعديه بقوله “إنَّ السُّوريين سيجدون على الفور من هو المخلص للقضيَّة ومن هو الخائن” (ص162). توجَّه الحسين بن طلال إلى القاهرة، وعقَد معه الرَّئيس عبد النَّاصر والمشير عامر اجتماعًا ثلاثيًّا، طالَب خلاله العاهل الأردني “توقيع نُسخة طبق الأصل من معاهدة الدِّفاع السُّوريَّة-المصريَّة”، عارضًا في المقابل نشْر وحدات من الجيوش العربيَّة في أرضه، وقبل عبد النَّاصر ووُقِّعت معاهدة مفادها “أيُّ هجوم مسلَّح على أيِّ من الدَّولتين أو قوَّاتهما هو هجوم على كليهما، وأنَّه يجب اتِّخاذ كلِّ الوسائل المتاحة لصدِّه”، نقلًا عن أورين (ص246). كلَّف الرَّئيس عبد النَّاصر الفريق المصري عبد المنعم رياض برئاسة الجبهة الأردنيَّة، وسافر رياض إلى الأردن يوم 1 يونيو 1967م، ليتفاجأ الملك الحسين بأنَّ هدف الفريق رياض لم يكن التصدِّي لأيِّ عدوان إسرائيلي على الأردن، بموجب معاهدة الدِّفاع المشترك، المُبرَمة حديثًا بين مصر والأردن، إنَّما كذلك لجرِّ أكبر عدد ممكن من قوَّات إسرائيل من الجبهة الجنوبيَّة لتخفيف الضَّغط على مصر.

ألهب وصول الفريق عبد المنعم رياض وفرق الفدائيين معه إلى الأردن حماسة الجماهير، وبخاصَّة الفلسطينيين المقيمين في الأردن، وبدأ الكلُّ يترقَّب اندلاع الحرب التي اعتُقد أنَّها ستقضي على الكيان الصُّهيوني. وعظَّمت المعاهدة المصريَّة-الأردنيَّة من الضُّغوط على قادة إسرائيل للتحرُّك ومباشرة الحرب، فلجأ ليفي إشكول إلى التَّصريح بأن إسرائيل كانت على استعداد لخوض المعركة، لكنَّها كانت “تعمل مع الولايات المتَّحدة لإيجاد حلٍّ سلمي للأزمة” (ص250). كان قادة الجيش الإسرائيلي يستشيطون غضبًا من عدم موافقة إشكول على شنِّ الضَّربة الاستباقيَّة، لكنَّهم لم يعملوا على معارَضة رئيس الوزراء أو يسعوا للإطاحة به. على العكس من ذلك، طالَب الرأيُ العام إشكول بالاستقالة لصالح دافيد بن غوريون أو موشيه دايان، كما ورد في كتابيّ من أجل أورشليم (1978م، ص190) وقصَّة حياتي (1976م، ص333-335) لموشيه دايان. كانت الجماهير الإسرائيليَّة على أهبة الاستعداد للحرب، وكان قرار التَّأجيل شديد الإحباط، خاصَّة بعد إجراء الاستعدادات التي يصفها أورين كما يلي (ص255):

كان الآلاف في طول البلاد وعرضها يسارعون إلى حفر الخنادق، وبناء الملاجئ وملء أكياس الرَّمل. وفي القُدس، بوجه خاص، حوّلت المدارس إلى ملاذات من القنابل وأُعدَّت لذلك، وكانوا يتدرَّبون يوميًّا على الغارات الجويَّة. حُشدت جميع حافلات الرُّكاب الكبيرة والتكسيات، وأُطلقت حملة طوارئ للتَّبرُّع بالدَّم. ووُجّه طلب إلى الجرَّاحين-ليكونوا، بالنَّظر إلى الظُّروف القاسية، على استعداد جسميًّا وطبيًّا وخبرة-وذلك عن طريق الصَّليب الأحمر.

ويحصي أورين القوَّات المنتمية إلى مختلف الأقطار العربيَّة، بعد اكتمال حشد القوَّات وموافقة العاهل الأردني على نشرها على أراضيه، كما يلي (ص257):

صرَّح الحسين لدى عودته قائلًا: “كلُّ الجيوش العربيَّة الآن محيطة بإسرائيل. الجمهوريَّة العربيَّة المتَّحدة، والعراق، وسوريا، والأردن، واليمن، ولبنان، والجزائر، والكويت…لا فرق بين شعب عربي وآخر. ولا فرق بين جيش عربي وآخر”.

اضطرَّ ليفي إشكول إلى إسناد منصب وزير الدِّفاع، الذي كان يشغله هو نفسه، إلى موشيه دايان يوم 1 يونيو 1967م، نفس يوم وصول الفريق عبد المنعم رياض إلى الأردن ومباشرته إتمام الاستعدادات. كان إشكول قد تواصَل مع الإدارة الأمريكيَّة من جديد بشأن تدخُّلها لإعادة فتح مضيق تيران وخليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيليَّة، في محاولة منه لتبرير أنَّ الضَّربة الاستباقيَّة التي يُدفع إلى إصدار قرار بشأنها جاءت نتيجة تقاعُس القوى العظمى، وعلى رأسها أمريكا، عن التدخُّل لرفع تلك المعاناة عن دولة إسرائيل، خاصَّة مع تهديد عبد النَّاصر بإطلاق النَّار على أيِّ سفينة تخرق أمر إغلاق المضيق. اضطرَّ الرَّئيس الأمريكي جونسون إلى إرسال روبرت برنارد أندرسون، الدبلوماسي رفيع المستوى ووزير الخزانة الأسبق، إلى عبد النَّاصر في 30 مايو 1967م، ليجده أندرسون “مسترخيًا واثقًا من نفسه، مدعومًا بزيارة الملك حسين”، وأصرَّ الرَّئيس المصري على أنَّ إسرائيل كانت تحشد للحرب على الحدود السُّوريَّة، وأنَّ عدم هجومها المباشر كام مناورة ولعب بسلاح الوقت (ص279). لم يتغيَّر موقف عبد النَّاصر حيال فتح مضيق تيران، يقينًا منه بأنَّ إسرائيل كانت ستشنُّ حربًا آجلًا أم عاجلًا، ممَّا منح الجانب الصُّهيوني المبرر ذاته لمواصلة الاستعداد للحرب، خاصَّة بعد الهمَّة التي أبداها وزير الدِّفاع الجديد، دايان، منذ تسلُّمه منصبه. وبينما كان دايان “يتحدَّث وكأنَّ الحرب أمرٌ مفروغ منه…إشكول كان مازال بحاجة إلى إقناع”، حيث كان يعوِّل على ما يُعرف بخطَّة “ريفاتا”، والمعروفة أيضًا بخطَّة سباق الزَّوارق، التي اقترحتها أمريكا لتنظيم الملاحة عبر مضيق تيران، كما كان يخشى اصطفاف السُّوفييت إلى جانب حلفائهم العرب (ص288). أمَّا دايان، فكان لا يأبه بأيِّ تهديد، وصوَّب تركيزه على غزو مصر، ووُضعت خطَّة غزو سيناء كالتَّالي (ص295)، نقلًا عمَّا صرَّح به دايان ذاته في مذكِّراته الشخصيَّة قصَّة حياتي (1976م، ص341):

سوف يتَّخذ غزو سيناء الَّذي سيبدـ مباشرةً من الهجوم الجوّي، ثلاثة محاور: الأوَّل، اندفاع في شمال سيناء، من منطقة رفح، والمحوران الآخران يتَجهان إلى وسط سيناء. وإعدادًا لهذه الحملة، ينشغل الجيش في عدد من الأعمال الخادعة، فيقوم سلاح الجو الإسرائيلي بطلعات استطلاعيَّة في عمق خليج العبقة، ويقوم سلاح البحريَّة بنقل عدد من سفن الإنزال في البحر المتوسّط إلى إيلات عبر البر، الأمر الَّذي يجعل المصريين يعتقدون بأنَّ هجوم إسرائيل سيأتي من جنوب سيناء بدلًا من الشَّمال والوسط. وتسحب تشكيلات مدرَّعة وجنود من الحدود إلى الخلف-على أن تعود فيما بعد سرًّا.

اللحظات الأخيرة قبل ساعة الصِّفر

انتظر ليفي إشكول في منزله، بصحبة عدد من كبار قادته، من بينهم موشيه دايان وأبا إيبان، مساء السَّبت 3 يونيو عودة الموفدان الإسرائيليَّان إلى أمريكا وقتها، آفرام هارمان ومائير عاميت، بما يحملان من أخبار من الإدارة الأمريكيَّة. كانت رسالة الموفدين واحدة، وهي رفْض الإدارة الأمريكيَّة الاشتراك مع إسرائيل في أيِّ ضربة استباقيَّة أو عمل عسكري، ولكن ألمح عاميت إلى شعوره بأنَّ الإدارة ستبارك أيَّ عمليَّة ناجحة، ثمَّ اقترح الاثنان الانتظار أسبوعًا ثمَّ إرسال سفينة إلى مضيق تيران وانتظار ردِّ الفعل المصري. رفض موشيه دايان الاقتراح بالكليَّة؛ إذ أنَّه قد يكشف نيَّة إسرائيل شنِّ معركة، ويدفع مصر للهجوم. رأى دايان، الذي “استطاع أن يدير القرار الإسرائيلي ويوجهه نحو الحرب بصورة حتميَّة” في غضون يومين من تولِّيه منصب وزير الدِّفاع، إجراء هجوم جوي وبري مباغتين، بحيث ينجز الطَّيران الإسرائيلي مهمَّته في غضون ساعات، وكذلك تفعل القوَّات البريَّة في يوم واحد، بحيث يُفتح السَّبيل أمام إسرائيل في اليوم التَّالي للعبور إلى القناة (ص300). وفي اجتماع قادة الجيش الإسرائيلي في يوم 4 يونيو 1967م، صوَّت 12 قائدًا لصالح الحرب، بينما عارض اثنان فقط؛ فحُسم الأمر، وتُرك تحديد التَّوقيت لموشيه دايان وإسحق رابين.

في اجتماعه بقادة الجيش في مقرِّ القيادة العليا يوم 2 يونيو 1967م، صرَّح الرَّئيس جمال عبد النَّاصر لقادته بأنَّ الهجوم الإسرائيلي مُرتقب خلال ما بين 48 و72 ساعةً، أي “بحلول الخامس من يونيو على أبعد تقدير” (ص303). يروي مايكل أورين عن جدال دار خلال ذلك الاجتماع بين الفريق محمَّد أحمد صادق، مدير المخابرات الحربيَّة حينها، والفريق صدقي محمود، قائد القوَّات الجوِّيَّة والدِّفاع الجوِّي، بسبب معارضة الفريق صدقي محمود انتظار الضَّربة الأولى من إسرائيل؛ معلِّلًا ذلك بأنَّه سيُفقده ما بين 15 و20 بالمائة من طائراته. أيَّد عبد النَّاصر انتظار الضَّربة الأولى من إسرائيل، مبرِّرًا ذلك بأنَّ “مصر لا تستطيع إهمال الرَّأي العام العالمي بهجومها على إسرائيل، أو تجازف بصلاتها الجديد مع فرنسا” (ص303). أمَّا عن مدى جاهزيَّة القوَّات لخوض المعركة، فيوضحه أورين كما يلي (ص305):

هل كانت الحرب وشيكة أم أنَّها حُسمت بالنَّصر؟ ظهور هذا السُّؤال عمَّق الفوضى المنتشرة الآن في الجبهة المصريَّة. إذ استمرَّ وصول آلاف الاحتياطيين دون تجهيزات أو طعام أو إحساس بالمكان أو الغاية. واستنتج تقرير وضعه جناح التَّخطيط في الجيش أنَّ مصر تحتاج إلى ستَّة شهور أخرى لتدعيم دفاعاتها في سيناء بحيث تصبح جاهزة للمعركة، ولكن هذه التَّوصية أُهملت، بل ربَّما لم يقرأها أحد، وبدلًا من الأخذ بها عمَّت الفوضى. وعندما وصل الجنرال توفيق عبد النَّبي، الملحق العسكري المصري السَّابق في كراتشي إلى سيناء ليتسلَّم قيادة لواء المدفعيَّة المضادَّة للدّرع، وجد أنَّ ليس لديه مدفعيَّة، ولا مدافع هاون، وأن ليس لديه سوى سبع دبَّابات استعيرت من وحدة أخرى، فضلًا عن أنَّ جنوده لم يكونوا يعرفون شيئًا عن الحرب المضادَّة للدَّبَّابات.

يضيف أورين أنَّ المشير عامر لم يأبه بتلك المشكلات، وكان على ثقة بقدرة جيشه على الانتصار في تلك المعركة، ورتَّب لرحلة تفقُّديَّة للمواقع المتقدِّمة في سيناء، وكان من أسباب شعوره الإيجابي إبرام معاهدة الدِّفاع المشترك بين مصر والأردن، وقبول العاهل الأردني نشْر قوَّات عربيَّة على أرضه وبداية تدفُّقها إلى هناك، بالإضافة إلى عرقلة السُّوفييت مساعي إسرائيل الحصول على دعم أمريكي للعدوان الإسرائيلي. المثير للانتباه أنَّ العاهل الأردني وقادة الفيلق العربي، جيش الأردن، لم يتعرضوا على خطط الفريق المصري عبد المنعم رياض. في حين لم تعمل القيادة العسكريَّة السُّوريَّة على التنسيق مع الجانب المصري، ضاربةً بمعاهدة الدِّفاع المشترك عرْض الحائط. ونما إلى علم العاهل الأردني يوم 4 يونيو 1967م، وكان مصدره السَّفير التُّركي، أنَّ إسرائيل كانت تنوي شنِّ ضربة استباقيَّة في اليوم التَّالي، وقد ذكر الحسين بن طلال في كتابه My “War” With Israel-حربي مع إسرائيل (1969، ص59) أنَّه أخبر القيادة المصريَّة بذلك.

ساعة الصِّفر وبداية المعركة: اليوم الأوَّل

تجهَّز لساعة الصِّفر، فجر يوم الاثنين 5 يونيو 1967م، “275000 جندي إسرائيلي و1100 دبَّابة و200 طائرة…لشنِّ أكبر هجوم في تاريخ الشَّرق الأوسط”، كما ينقل أورين (ص319). كانت ساعة الصِّفر 7.10 بتوقيت إسرائيل، بإقلاع 6 طائرات من طراز “ماجيستير فوغا”، فرنسيَّة الصُّنع، مزوَّدة بالصَّواريخ، لتتبعها مقاتلات وطائرات أخرى من مطارات إسرائيليَّة شتَّى، وكانت رسالة الجنرال موتي هود، قائد سلاح الجو “إنَّ روح أبطال إسرائيل ترافقنا إلى المعركة…وعلينا أن نستمدَّ قوَّتنا وشجاعتنا من يشوع بن نون، والملك داود، والمكابين، ومقاتلي 1948 و1956 لنضرب المصريين الذين يهدِّدون سلامتنا واستقلالنا ومستقبلنا. طيروا، وحلِّقوا نحو العدو، ودمِّروه وبعثروه في طول الصَّحراء وعرضها حتَّى تعيش إسرائيل آمنة في أرضها لأجيال” (ص323). ومن بين حيل الخداع الاستراتيجي التَّي اتَّبعتها إسرائيل تحليق الطَّيران على ارتفاع لا يتجاوز 15 مترًا؛ لتفادي رصْد الرَّادارات المصريَّة لها، وكذلك التحليق غربًا باتِّجاه البحر المتوسِّط، ثمَّ الاستدارة باتِّجاه مصر. أمَّا عن الوضع في مصر، فيرويه أورين كما يلي (ص325):

معظم الطَّائرات المصريَّة تقريبًا كانت على الأرض في تلك اللحظة، وكان طيَّاروها يتناولون طعام الإفطار. ومع الافتراض بأنَّ الهجوم سيبدأ عند الفجر، فإنَّ طائرات الميغ كانت قد أنجزت دوريَّاتها عند شروق الشَّمس وعادت إلى قواعدها في السَّاعة 8.15 بتوقيت مصر، أي 7.15 بتوقيت إسرائيل. ولم يكن في الجو سوى أربع طائرات تدريب غير مسلَّحة، وأقلعت من قاعدة ألماظة طائرتا نقل من طراز إليوشن-14، كان على متن إحداهما المتَّجهة إلى قاعدة بير التَّمادا (Bir al-Thamada) المشير عامر وقائد سلاح الجو صدقي محمود، وكان على متن الأخرى المتَّجهة إلى أبو سوير (Abu Suwir) رئيس المخابرات الدَّاخلية حسين الشَّافعي، ورئيس وزراء العراق، ومستشار سوفياتي رفيع المستوى. وبقيَّة قيادات الجيش جميعًا إمَّا كانوا على متن هاتين الطَّائرتين أو على أرض القواعد بانتظار هبوطهما.

رصدت محطَّات الرَّادار الأرنيَّة صباح 5 يونيو 1967م زيادة عدد الطَّائرات الإسرائيليَّة المتَّجهة إلى البحر عن المعتاد، فأرسل الضَّابط المناوب رسالة مشفَّرة إلى مقر الفريق عبد المنعم رياض في عمَّان، ليرسل هو بدوره تلك الرِّسالة، التي تعني “حرب”، إلى وزير الحربيَّة، شمس بدران. غير أنَّ فكَّ تلك الشِّيفرة تعذَّر، ليس فقط بسبب تغيير القيادة في مصر تردُّدات شيفرتهم في اليوم السَّابق، ولكن كذلك بسبب غياب اللواء بدران عن موقعه، بعد أن غرق في النَّوم وقد طلب مسبقًا عدم إزعاجه، والمفارقة أنَّ المسؤول عن فكِّ الشِّيفرات ورئيس عمليَّات سلاح الجو لم يكونا في موقعيهما. ويشير الفريق محمَّد فوزي، رئيس هيئة الأركان العامَّة حينها ووزير الحربيَّة المصري لاحقًا، في مذكِّراته الصَّادة عام 1988م تحت عنوان حرب الثلاث سنوات (1967-1970)، إلى أنَّ المخابرات الحربيَّة أرسلت تقريرًا مفصَّلًا عن الهجوم الإسرائيلي، لكن تجاهله الضُّبَّاط الموجودون حينها في مقرِّ القيادة؛ كونهم كانوا من الموالين للمشير عامر ولا يثقون إلَّا في زُمرته (ص132-135). وفي السَّاعة السَّابعة والنِّصف بتوقيت إسرائيل، كان سلاح الجو قد بدأ في إصابة أهدافه في مطاري فايد وكيبرت، ليُصاب الضُّبَّاط المصريُّون حينها بصدمة من قدرة إسرائيل على “اختراق دفاعاتهم، وأخذهم جميعًا على حين غرَّة” (ص331). وبحلول الثَّامنة صباحًا، كانت سلاح الجو الإسرائيلي قد أنجز 25 غارة جويَّة أصابت قواعد غرب القاهرة وفايد وأبو سوير، ودمَّرت 4 مطارات في سيناء تدميرًا كليًّا، هذا إلى جانب تدمير 204 طائرا، ما يعادل نصف السلاح الجوي لمصر حينها في دقائق معدودة. استمرَّ العجز عن التَّواصل مع القيادات الكبرى في الجيش، وتيقَّن الضُّباط من حدوث “مأساة مروِّعة” (ص334).

 ومن المفارقات الدَّاعية للدَّهشة أنَّ المشير عامر كان على متن طائرته متَّجهًا إلى مطار بير تمادة في سيناء وقت بدء الهجوم الإسرائيلي، ومن ثمَّ لم تستطع طائرة المشير الهبوط، حائمة بين المطارات المشتعلة، إلى أن هبطت بعد 90 دقيقة في مطار القاهرة الدُّولي. ومع ذلك، وكما يروي أورين، ابتهج المشير لبداية الحرب، وأمر بتنفيذ خُطَّة لاحتلال السَّاحل الإسرائيلي. لم يختلف ردُّ فعل الرَّئيس عبد النَّاصر، الذي كان غائبًا هو الآخر عن مقرِّ القيادة، عن ردِّ فعل المشير، حيث “رحَّب ببدء الحرب، إذ كان يعتقد أنَّ التيَّار سينعكس في الحال” (ص336). ويروي محمود الجيار، أحد الضُّبَّاط الأحرار ومدير مكتب عبد النَّاصر، في كتابه أيَّام النَّكسة في بيت عبد النَّاصر (1976م) أنَّ أحدًا من قيادات الجيش أو الحكومة لم يجرؤ على نقْل الحقيقة للرَّئيس، وظلَّ الكثيرون يصدِّقون ما كانت تنقله الإذاعة المصريَّة بقولها “تقوم طائراتنا وصواريخنا في هذه اللحظة بقصْف المدن والقرى الإسرائيليَّة”، كما جاء في كتاب الجيَّار (ص8).

بدأ الهجوم الأردني ردًّا على الهجوم الإسرائيلي على مصر، ولم يكن لدى زعيم كلٍّ من مصر والأردن أيَّ علمٍ بحقيقة الأوضاع على جبهة القتال. لم يعرف عبد النَّاصر طبيعة الأوضاع إلَّا في الرَّابعة من عصر يوم 5 يونيو 1967م، لمَّا توجَّه إلى مقرِّ القيادة. في حين كان المشير عامر في حالة من “الاضطِّراب الشَّديد” تحوَّل إلى “الاكتئاب الشَّديد”، ولم يكن يعرف كيف يوجِّه قوَّاته، في ظلِّ غياب اللواء شمس بدران، وزير الحربيَّة، عن المشهد، كما يروي أورين (ص387). تقدَّمت القوَّات الإسرائيليَّة في سيناء والقُدس والضَّفَّة الغربيَّة، وانتهى اليوم الأوَّل بتدمير 400 طائرة عربيَّة، أمام خسارة 19 طائرة إسرائيليَّة، وكان الخطاب الرَّسمي الإسرائيلي يركِّز على أنَّ “المعركة ليست من أجل أمن إسرائيل”، إنَّما “من أجل إنقاذ جميع القوى الموالية للغرب في الشَّرق الأوسط” (ص389).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى