منوعات

الكرم بين الحلال والحرام

أ. د. عبد المجيد الحميدي الويس

سياسي وأكاديمي سوري
عرض مقالات الكاتب


الكرم صفة حميدة يحبها الله، وهي من الدين، وإكرام الضيف خاصية للعرب من الخصائص الكثيرة لهم على غيرهم من الأمم، وهي من مكارم الأخلاق التي تميز بها العرب عامة، وجاء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ليتممها، ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) والتمام التنقية من الشوائب والتزكية والتطهير من الدنس والخبث، وإبراز المحاسن وإزالة العيوب.. والعرب يتفاخرون بإكرام الضيفان.. وهناك نماذج كثيرة مشهورة معروفة يضرب بها المثل في الكرم كحاتم الطائي الذي قال مخاطبا عبده:
أوقد فإنَّ الليل ليـــلٌ قرُّ…… والريـح يا موقـد ريــــح ثرُّ
عسى يرى نارك من يمرُّ…… إن جاءنا ضيف فأنت حرُّ
ومن النماذج القرآنية المتميزة كرم نبي الله إبراهيم عليه السلام، ومازالت مدينة الخليل إلى اليوم البلدة التي لا يجوع فيها إنسان، ولقد علمنا القرآن الكريم منه كثيرا من آداب الضيافة والكرم، وطريقة التعامل مع الضيوف، قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ{24} إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ{25} فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ{26} فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ{27}الذاريات، ووصل به الكرم حدا جعله يقرر ذبح ابنه الوحيد لأمه، إسماعيل على رؤية يراها، قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ }الصافات102، وفداه الله بذبح عظيم، قال تعالى: { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ{103} وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ{104} قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ{105} إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ{106} وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ{107} الصافات، وكذلك الرسول محمد الذي كان كريما كالريح المرسلة، لا يرد سائلا، وقد تميز كل نبي بصفة، وجمع الرسول محمد صفات الأنبياء جميعا، وقد نحر في يوم عرفات 100 ما بين ناقة وبعير، ستين منها بيده الطاهرة الشريفة، وأربعين أكملها سيدنا علي بن أبي طالب..
ولكن الخطورة في الأمر أن يخرج من باب الكرم إلى باب الإسراف والتبذير والمراءاة، لاسيما إذا كان الظرف لا يسمح بذلك ولا يتطلبه، كما هو ظرفنا الحالي الذي يحتاج فيه الناس إلى كسرة الخبز، وقطعة اللخم، وكوب المرق، وقد نهى القرآن الكريم عن تلك الصفات الذميمة، وحذر منها، وعاقب عليها عقوبة شديدة، قال تعالى: {وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}الأنعام141، وقال: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}الأعراف31، وقال: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ }يونس 83 ، وقال: {فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ }الأنبياء9، وقال: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ }الشعراء151، وقال: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ }غافر43
مما يروى عن سيدنا خالد بن الوليد أنه عمل وليمة بحمص عندما كان واليا عليها، دعا إليها أهل حمص كلهم، فأرسل له سيدنا عمر سيدنا بلال، وقال له: لتمده على الأرض وتضع حذاءك على خده وتسأله: هل هذا المال الذي أنفقته من مالك الخاص؟ أم من بيت مال المسلمين؟ فإن كان من بيت مال المسلمين، فعليك رده، وإن كان من مالك الخاص، فقد أسرفت يا خالد.. وفعلها بلال، وقدم نموذجا رائعا في طاعة خليفة المسلمين، وطاعة ولي الأمر..
ونهى القرآن الكريم عن التبذير، قال تعالى: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً }الإسراء26، وقال: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً }الإسراء27
والكريم الأكرم هو الله كما أجاب رسول الله على من سأله مَنْ الأكرم؟ فقال: (الله هو الأكرم)، قال تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ }العلق3، قال: من البشر عنيت يا رسول الله؟ قال: (رجل آتاه الله علما، ولم يبخل به)، وهذا تصحيح لمفهوم خاطئ، سائد بين الناس؛ أن غاية الكرم والإكرام هو الذبح والسلخ وتكثير الطعام، وكثرة الولائم، وعدد الذبائح، وهذا مفهوم خاطئ يجب أن يصحح، وخطأ كبير يجب أن يعالج، صحيح أن هذا من الكرم، إنما الكرم الحقيقي هو العلم ومنفعة الناس، وقد يدخل الأمر في باب الرياء، {الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ }الماعون6، وعقوبتهم النار، الأخطر من ذلك أن يكون هذا الطعام حراما، ومن يأكله إنما يأكل في بطنه حراما، وما ينتج عنه في جسده أمراض وخبائث وأضرار: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ}المائدة3، وما أهل لغير الله به، أي ما ذبح لغير وجه الله، للرياء والمفاخرة والمباهاة..
السؤال: هل هذه الوليمة التي صورت ونشرت صورها، والذبائح التي ذبحت وقدمت للناس لوجه الله؟ أم ليقال: إن فلانا أو الفلانيين كرام، ذبحوا 250 ذبيحة لم يفعلها أحد قبلهم؟

وما قصة الجفنة (الصينية) ذات الطول والعرض والحجم والكبر والثمن والجمرك؟ تنقلها سيارة، وتتسع 15 خروفا وجملا في وسطها، وتحملها عشرات الرجال؟؟ هل هذا من الإسلام في شيء؟ هل هذه الأموال التي هدرت حلال أم حرام؟ أليس الفقراء أحق بها؟..

هذا كله من باب المفاخرة والرياء، وهذا كله حرام؛ من عمل الشيطان، لاسيما إذا كنا في
حالة فقر وجوع وفاقة، ولو وزعت هذه النعم على الفقراء والمحتاجين لكان فيها خير كثير كما فعل السوداني الذي وزع الصواني الصغيرة بما فيها على الفقراء.. وهل هؤلاء يزاحمون الله في كرمه؟؟ إن ما يذبح في كل عام في الحج يتجاوز المليون ذبيحة، فما نسبة 250 ذبيحة إلى مليون وأحيانا تصل إلى 2 مليون و3 مليون.. وقد رأيت ذلك بعيني..
ويبقى كرم الله لا حدود له، ويبقى الله هو الأكرم، ويبقى الأكرم من الناس من آتاه الله علما ولم يبخل به.. وعلى أن نعمل على تصحيح المفاهيم الخاطئة، واستبدالها بمفاهيم صحيحة، تنسجم مع تعاليم ديننا الحنيف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى