هل يجب كسب الجمهور على حساب الكتلة الصلبة؟!
كانت الحركات الإسلامية في مراحلها الأولى تركز في عملها الإصلاحي على إيجاد الكتلة الحرجة للتغيير والتي تتوفر لها الصلابة الضرورية لتحمل أثقال التغيير وأعباء الدعوة، بما تسعى لتحقيقه من أهداف كبيرة تتصادم مع مصالح واختيارات كثير من القوى في الداخل والخارج.
لكن بروز الهامش الديمقراطي وانفتاح أبواب العمل السياسي في بعض البلدان العربية، أغرى هذه الحركات بالمسارعة لخوض العمل السياسي من أوسع أبوابه، ودفعها إلى تبني خطاب تعبوي لا يهتم بالبناء، خطاب يُلهب العواطف ولا يخاطب العقول، يُذكي الانفعالات ولا يعبأ بتعظيم الفاعليات.
ونجح هذا الخطاب في حشد جماهير عريضة حول البرامج السياسية لتلك الحركات وشخصيات مرشحيها في الانتخابات التي خاضتها على تنوعها، حتى أصبحت هي المنافس الرئيسي للدول العميقة في معظم البلدان، تلك الدول العميقة التي وصلت للسلطة تحت عين الغرب وبقيت مهيمنة على الحياة السياسية لعقود من الزمن، وتتوافر بين يديها أموال وطاقات وسلطات غير محدودة، وتمتلك دعما غير محدود من بعض البلدان والقوى الغربية التي ترى أن الإسلاميين خطر ماحق على الحضارة الغربية!
ولم تكتف الدول العميقة بأن زوّرت الانتخابات، بمخالفتها لأكثر المعايير والضوابط الانتخابية، لكنها قامت بشن ضربات شلل ضد الأحزاب الإسلامية ظلت تعيدها للخلف بصورة مطردة في الغالب!
أما بعد اندلاع ما سمي بالربيع العربي، واتضاح أن الشعوب متعطشة للحرية وأن للإسلاميين القدح المعلى في تلك الثورات وأنهم أقوى مما كان يبدو للمراقبين والمتربصين؛ فقد سعت الدول العميقة في بعض البلدان إلى اجتثاث الإسلاميين من الجذور وتجفيف طاقات قوتهم من المنابع!
وهنا ظهرت عواقب تقصير أغلب الإسلاميين في بناء الكتلة الصلبة التي تتحمل أثقال الصدام وأعباء المواجهة مع من يقومون بسلب أحلام الشعوب في الحرية والديمقراطية والعدالة والحياة الكريمة؛ مما أدى إلى ظهور كثير من العلل التي فرقت الجموع وقطعت العرى وأوهنت القوى، مما مكن خريف الدول العميقة من الانتصار على ربيع الجموع الحرة.
واكتشف قادة تلك الحركات أن الجماهير التي تصوت لهم لا تستطيع أن تدافع عن خياراتها، بل قد تقع ضحية لحملات التجريف الإعلامي وعواصف الشيطنة التي ربطت الإسلاميين بكل شيء قبيح بما في ذلك الإرهاب، رغم أن أحدا منهم لم يحمل سكينا في وجوه من اغتصبوا حقوقهم بل وانتهكوا آدميتهم!
لقد انشغل قادة العمل الإسلامي بالعمل السياسي الذي يستهدف حشد الجماهير لصالح برامجهم السياسية وتعظيم كتلهم الانتخابية، معتقدين أن الغرب وفي للديمقراطية وأن وصولهم للسلطة سيكون له مفعول سحري في حل مشاكل الأمة، مستدلين بمقولة عثمان بن عفان رضي الله عنه: “إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”، لكنهم نسوا بأنه دون إقامة دولة الحرية والمواطنة المتساوية تنزرع خرط القتاد، وأن الدولة المنشودة لن تقوم إلا على أكتاف الكتلة الحرجة التي أول مواصفاتها الوعي والشجاعة والتحلي بالحس الجمعي والاستعداد لدفع ضريبة الانحياز للأحرار..
ولو ركزت الحركة الإسلامية على صناعة الوعي الجمعي وتوسيع مساحات الاستبصار منذ عقود من عملها؛ لكان الوضع اليوم قد تغير للأحسن، إن لم يكن قد تغير جذريا، لكن استفزاز سرطان الاستبداد دون وجود الكتلة الصلبة التي تستطيع مواجهة رد فعل المستبدين والفاسدين المتسلحين بإمكانيات دولهم، لم يزيد الأمر إلا سوءً، كما نرى في الواقع، فقد فقد الإسلاميون ما أنجزوه خلال بضعة عقود في بعض البلدان، حتى صار ما توجعوا منه بالأمس حلما بعيد المنال!
كل ذلك يؤكد أن الجانب الأهم من عمل الإسلاميين ينبغي أن يتجه لصناعة الوعي، الذي ينتصر للعقل المستظل تحت راية الثوابت وينحاز للقيم الإنسانية الكلية، والذي يزرع في روع الناس احترامهم لذواتهم التي تأبى التزوير وتتمنع على كل محاولة للانتقاص من آدميتهم الكريمة، فضلاً عن إدخالهم حظائر العبودية، والذي يدفعهم لتقديس الحرية التي جعلها الله ثمرة العقيدة الربانية ومناط التكليف الإلهي، ولتبجيل العدالة التي جعلها الله المقصد الأسمى للشريعة.
وينبغي أن يفكر كل من يهمهم الأمر في الصيغة الأنسب للعناية الفائقة ببناء الكتلة الصلبة مع إبقاء الاهتمام بالخطاب الجماهيري التعبوي، وربما كان من أهم الخطوات في هذا السبيل، فصل العمل الدعوي عن العمل السياسي، مع وضع القيادات المقتدرة في أماكنها المناسبة لها، وتوفير كافة الإمكانات المطلوبة للعمل الفكري التربوي وللعمل السياسي على حد سواء ودون أي انتقاص، وتوفير كافة الظروف التي تبقي العملين متكاملين لا متآكلين.