ثقافة وأدب

ثالثة الشواهد !

صالح موسى الحمزة

محام وكاتب سوري
عرض مقالات الكاتب



أسندَتْ رأسها المتثاقل « هما » بكلّ ما اشتملت عليه الأرض من أحزانٍ متراكمة على شاهدة القبر الطازج تحت شجرة الزيتون القديمة فوق التلة.

وتنهدت بحسرةٍ تنهيدات الثكالى لِمَ دفنوه تحت شجرة الزيتون القديمة؟

ضاقت عليهم الأرض وتلك الحفرة الملعونة أحدثتها القذيفة التائهة قريبةً من القبر الطازج.

آه… تردّد صداها بين أضلاعها وقلبها المسجون في حزنهِ الطويل ممتداً بارداً مثل ليالي كانون.

سيعود إليها كي تسمح له بالنوم إلى جانبها، إنّها تريد أن تشعر به من جديد أن تشم رائحة أنفاسه الطفولية.

كان يوماً ذلك الطفل لايزالُ يضحك ضحكته الخافتة، ولكنّها آتية من عالم آخر.

بيدها عصرَت على بطنها هنا نَبُت، وهنا نمى بعد سبعَ عشرةَ عجافاً جفافاً، جفّ فيها الرحم والأمل حتى من الله عليها بأحمد.
كلهم يحبون اسم أحمد، يعيدها اللا شعور وبخبث متعمدٍ إلى الرقم السابعَ عشرَ، و يصنع فيها خوفاً عميقا كخوف يعقوب على يوسف ، سبع عشرة سنة أخرياتٍ خُضرٍ مثمراتٍ، تلك التي كَبُر فيهنّ أحمدُ على عينها ( كلّ شبرٍ بنذر ).

سريعاً ما نمى كشجرِ التين، وهي الأخرى قبلاً مع إتمامها سبعة عشر ربيعاً كانت من حظ ( خالد الأحمد ) ابن خالتها، كانت جميلة يلاحقها خوف الليل الشامل عند المدفأة.

البنات – الجميلات للأقارب – على سمعها تثرثر عمتها وخالتها وجدتها يالهذه الأحجية ما زال الرقم – السابع عشر – يلاحقها بغموض مخيف يلتفّ حولَ حياتها.

يعكرّ صمت المكان رائحةُ التراب الأحمر المحفور حديثاً، ترتاح لذلك الصمتِ وتتمنى أن يصمت كلّ شيءٍ في الطبيعة.

وأن تكفّ الأرضُ عن الدوران حول الشمس ولكن دون جدوى عبثاً تتخيل.

بقلبها المنفطر تنظر إلى القبر الطازج تحت شجرة الزيتون وتراودها هواجس الأساطير المبهمة!
هل يوجد تحت كل شجرة زيتون إنسان مدفون؟
كما أحمد؟ لا شك!!
فالزيتون قبل الإنسان موجودٌ وسيبقى بعد فناء البشر .
وترى بخيالها النشطُ أحياناً أمواتاً تحللت أجسامهم عند جذر الزيتون.
ذلك الكلس من العظام، والنخاع، والعصب، واللحم الطري، والدم الأحمر، شكل حبة الزيتون.

كانت تعرف أنّ أحمداً قد صعد حتى أغصان الزيتون وأن ثمار الخريف المقبل ستكون مُتْخَمة بلحمه وشحمه، باردةٌ برودةَ موته المهيب.

تلك القذيفة التائهة إلا من قدر محتوم على أشجار الزيتون تحوّل أحمدٌ « كلّه » إلى أشلاء تناثرت هكذا؟ …

هكذا انفنت وتتبخرت سبعةَ عشرَ ربيعاً وخريفاً وصيفاً وشتاءً وحزناً وفرحاً وخوفاً ودفئاً.

أيُعقلُ أنّ القذيفةَ هي الأخرى السابعةُ عشرة، في ذلك الصندوق الأسود المملوءِ كرهاً وحقداً على كلّ ما هو نقيٌّ وجميل؟

كانت تدور في ظلمة جذريّة مطلقة إلى متى ستدوم هذه الحيرة وذلك الغموض؟

مع طلوع الفجر بإبريق الماء البارد كلّ يومٍ ومنذ ( سبعة عشر يوماً ) تصعد إلى تلك التلة تندبُ نفساً عند القبر الطازج تحت شجرة الزيتون القديمة.

في كلّ مساءٍ يأتي زوجها العجوز ( خالد الأحمد ) مستنداً على عكازتهِ الجافةِ المتصدعة كتصدع نفسه الحائرة ليقودها ( جبراً ) إلى المنزل الذى خلا من كلّ شيءٍ إلا صوت أحمد و رائحته وثيابه.

هذا اليوم السابع عشر على فراق أحمد تأخر العجوز كثيراً و لم يصعد التلة ليقودها ( جبراً ) إلى المنزل.

تهشمت كلّ الذكريات في نفسها، فجأة!! عليها أن تنهضَ وترفع عن ذاتها ذلك الغطاء الأسود للحزن، لن تجعلَه إلى ما لا نهاية يجب عليها أن تنهيَ جزءاً منه.

عادت وحيدة متعثرة مثقلة من جديد بأجزاءٍ من أحزانها إلا من طيف أحمد.

العجوز بهيئته مازال ممدداً على فراشه تحت شجرة التين كما تركته صباحاً لم يشرب الماء ولم يحرّك عكازته.

وبين التين والزيتون علاقة أبديّة لا نهايةَ لحدودها، كعلاقة الضوء بالشمس وعلاقة المطر بالعشب.

جلستْ عند رأسه تتحسس أنفاسه، إنّه اليوم ( السابع عشر ) بخبث وأنانية تسللت هذه المعاني المبهمة إلى قلبها المنهك ألماً فصدعت رأسها مجدداً.

لا أنفاسَ له، جسده باردٌ كقطعة خشب الجوز عند باب الدار القديمة.

مبتسماً بلا أنفاسٍ و لا دفئٍ، ساكنٌ بلا حراك مثل سكون تمثال من الإسمنت الجاف.

أسندت رأسها المتثاقل « هما » بكل ما اشتملت عليه الأرض من أحزانٍ متكاملة ومجزأة إلى رأسه كما شاهدة القبر في ذلك الخريف.

في اليوم الثامن عشر و تحت شجرة الزيتون القديمة فوق التلة صار هناك قبران طازجان …

وقبرُ أحمدٍ كانَ يرقد هادئاً مطمئناً بينهما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى