دين ودنيا

نزول المسيح عيسى ابن مريم (عليه السلام) حكماً مُقسطاً

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب

إنَّ الله عزَّ وجل رفع عيسى عليه السلام إليه، وأنه الان حيٌّ في السماء حياة طيبة، وقد التقى به رسولنا (ﷺ) في رحلة الإسراء والمعراج، التقى به أولاً في المسجد الأقصى، عندما صلى رسول الله (ﷺ) بالأنبياء إمامًا، وكان عيسى عليه السلام مأمومًا خلفه، ثم التقى به ثانيًا لمّا عُرج به إلى السماء، حيث أخبرنا أنه قابل عيسى عليه السلام في السماء الثانية، ففي حديث الإسراء والمعراج: «فأتينا السماء الثانية، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: من معك؟ قال: محمد (ﷺ)، قيل: أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، ولنعم المجيء جاء، فأتيت على عيسى ويحيى فقالا: مرحبًا بك من أخ ونبي».
1 ـ صفة عيسى عليه السلام:
أخبرنا رسول الله (ﷺ) عن بعض صفات عيسى عليه السلام الخَلقية وهيئته الخارجية، فعن أبي هريرة، رضي الله عنهما، عن النبي (ﷺ) قال: «ليلة أسري بي رأيت موسى، فإذا هو رجل ضرب، كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى، فإذا هو رجل ربعة أحمر، كأنما خرج من ديماس…» .
ومن خلال أحاديث صحيحة عديدة ذكرها رسول الله (ﷺ) نستطيع أن نشكل هذه الصورة لعيسى عليه السلام: قامته معتدلة، ولونه أبيض مُشرّب بالحمرة، وشعر رأسه سبط ممتد إلى منكبيه ولونه أسود، كأنه يقطر ماء ولم يُصبه بلل، وذلك من بهائه، وهو متدفق حيوية ونضارة وبهاء.
2 ـ أدلّة نزول عيسى عليه السلام من القرآن الكريم:
ـ قال تعالى: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ۝ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ۝ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ۝ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ۝ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ۝ وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [الزخرف: 57-62]، والشاهد في الآيات قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا﴾، والهاء في (إنه) تعود على عيسى عليه السلام، لأن الآيات تتحدث عنه، والمعنى: إن عيسى عليه السلام علم تُعلم به الساعة، أي: أن نزوله في اخر الزمان سيكون علامة من علامات الساعة، دالّة على قرب قيامها.
ـ قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ [النساء: 159]. والهاء في (موته) تعود على عيسى عليه السلام، والمعنى: كل واحد من أهل الكتاب سيؤمن بعيسى عليه السلام أنه عبد الله ورسوله وهذا يكون عند نزوله في اخر الزمان حيث يقتل الدجال ويكسر الصليب ولا يقبل من الناس إلا الإسلام. والمعنى: أهل الكتاب يؤمنون بعيسى عند نزوله في اخر الزمان ويوم القيامة يكون عيسى عليهم شهيدًا، يشهد على من كذَّبه بالكفر، ويشهد لمن صدَّقه بالإيمان، وعلى هذا القول الراجح تكون الآية خبرًا عن نزول عيسى عليه السلام في اخر الزمان.
3 ـ أدلّة نزوله من السنة المطهرة:
وأما الأحاديث الصحيحة التي تحدثت عن نزول عيسى عليه السلام فهي كثيرة، بحيث خصص لها الإمام الكشميري كتابًا خاصًا سماه: (التصريح بما تواتر في نزول المسيح)، وسنذكر بعضاً منها:
 ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ): «والذي نفسي بيده، ليوشِكنَّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيرًا من الدنيا وما فيها». ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم؛ ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ [النساء: 159].
 روى مسلم عن جابر رضي الله عنه، قال: سمعت النبي (ﷺ) يقول: «لا تزال طائفة من أمَّتي يقاتلون على الحق، ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم فيقول أميرهم: صلِّ لنا، فيقول: لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة». ولن أذكر جميع الأحاديث الواردة في نزوله خشية أن يطول البحث، وقد جاءت هذه الأحاديث في الصحاح والسنن والمسانيد وغيره من دواوين السنة، وهي تدل دلالة صريحة على ثبوت نزول عيسى عليه السلام في اخر الزمان.
 وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني: اعلم أن أحاديث الدّجّال ونزول عيسى عليه السلام متواترة، يجب الإيمان بها ولا تغترّ بمن يدَّعي فيها أنها أحاديث أحاد، فإنهم جهّال بهذا العلم، وليس فيهم من تتبَّع طرقها؛ ولو فعل لوجدها متواترة، كما شهد بذلك أئمة هذا العلم كالحافظ ابن حجر.
 وقال القاضي عياض: نزول عيسى وقتله الدّجّال حق وصحيح عند أهل السنّة للأحاديث الصحيحة في ذلك، وليس في العقل ولا في الشرع ما يبطله فوجب إثباته.
4 ـ الحكمة في نزول عيسى عليه السلام دون غيره:
ذكر العلماء بعض الحكم من نزوله عليه الصلاة والسلام، من هذه الحكم:
الحكمة الأولى: الردُّ على اليهود في زعمهم أنهم قتلوه وصلبوه وتبجحهم بذلك: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ﴾ [النساء: 157] ، فنزوله في اخر الزمان تكذيب من الله لهم، وسيقوم هو بقتلهم وقتل ملكهم المسيح الدجال، فهو الذي يقتلهم، وليسوا هم الذين قتلوه.
الحكمة الثانية: يُنزله الله في اخر الزمان ليستكمل باقي عمره الذي قدره له، ثم يموت، ويدفن في الأرض، إن عيسى عليه السلام مخلوق، وهو حيٌّ في السماء حياة غيبية خاصة طيلة هذه القرون، ولا بد أن يموت، لأن البقاء لله الباقي وحده، ولا يموت في السماء ولا يدفن في السماء، لأن السماء ليست مكانًا لموت البشر ولا مقبرة لهم، فالله خلق الإنسان من تراب الأرض، ودفنهم في تراب الأرض ويبعثهم من تراب الأرض، قال تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [طه: 55]، حيث ينزل الله عيسى إلى الأرض ليموت على الأرض ويدفن فيها، فالسماء ليست قبرًا له.
الحكمة الثالثة: تكذيبهم للنصارى في ادعاءاتهم حوله، وغُلُوِّهم فيه، فيدعوهم إلى عبادة الله وحده ويرفض ما قامت عليه النصرانية من أباطيل وأكاذيب بكسر الصليب وقتله الخنزير ونزوله حيًا في اخر الزمان ردًّ لأباطيل النصارى في أنه قُتل وصُلب ومات، وخرجت روحه على الصليب.
الحكمة الرابعة: شهادته العملية لخاتم النبيِّين محمد (ﷺ) وللإسلام بأنه الشريعة الخاتمة وإلغاؤه لما قبله من الديانات المنسوخة، كاليهودية والنصرانية، وهذا تكذيب اخر منه لليهود والنصارى، الذين لم يعترفوا بنبوة ورسالة محمد (ﷺ)، فيشهد بأعماله وجهاده أن محمدًا (ﷺ) هو خاتم الأنبياء والمرسلين، وأن رسالته خاتمة الرسالات.
5 ـ بماذا يحكم عيسى عليه السلام:
يحكم عيسى ـ عليه السلام ـ بالشريعة المحمَّدية، ويكون من أتباع محمد (ﷺ)، فإنه لا ينزل بشرع جديد لأن دين الإسلام خاتم الأديان وباق إلى قيام الساعة لا ينسخ، فيكون عيسى عليه السلام حاكمًا من حكام هذه الأمة، ومجددًا لأمر الإسلام، إذ لا نبي بعد محمد(ﷺ).
6 ـ انتشار الأمن وظهور البركات:
جاء في حديث النوّاس بن سمعان الطويل في ذكر الدجال ونزول عيسى وخروج يأجوج ومأجوج في زمن عيسى ـ عليه السلام ـ ودعائه عليهم وهلاكهم، وفيه قول الرسول (ﷺ): «ثم يرسل الله مطرًا لا يكن منهُ بيتُ مدرٍ ولا وبر، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة، ثم يقال للأرض أنبتي ثمرتك وردِّ بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها، ويبارك في الرِّسل، حتى إن اللَّقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللَّقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللَّقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس».
ومن أهم مظاهر البركة بعد نزوله: زوال التحاسد والتباغض والشحناء في قلوب الناس، ومضاعفة حجم الثمار بحيث تكفي الرمانة الواحدة المجموعة من الناس وكذلك عنقود العنب، والبركة في اللبن بحيث يكفي لبن الناقة الجماعة الكبيرة ويكفي لبن الشاة القبيلة، وزوال العداوة بين الحيوانات بحيث يمشي الذئب مع الغنم وانتشار السلم والأمن بين الناس وانتشار الغنى بينهم.
7 ـ من أهم أعمال عيسى عليه السلام بعد نزوله:
من خلال حديث رسول الله (ﷺ) الذي رواه النواس بن سمعان في مسلم وغيره من كتب السنة، نلخص ما جاء في الحديث الفقرات المتعلقة بعيسى ـ عليه السلام ـ في النقاط الاتية:
 ينزل عيسى عليه السلام في عنفوان قوة وطغيان المسيح الدجال.
 ويكون نزوله من السماء عند المنارة البيضاء، شرقيّ مدينة دمشق المعروفة.
 وعندما ينزل يكون لابسًا (مهرودتين)، وهما حلتان جميلتان فيهما لون أصفر خفيف جميل فيجمع بين جمال الخِلقة والهيئة وجمال اللباس والزينة.
 ويصاحبه في النزول اثنان من الملائكة، ينزلان من السماء معه حيث يكون بينهما واضعًا كفيه على أجنحتهما.
 ويكون رأسه يقطر ماء، وهذا الماء عليه من السماء، فإذا طأطأ عليه السلام رأسه وخفضه نحو الأسفل، نزل منه الماء على شكل قطرات كثيرة متتابعة، وإذا رفع رأسه إلى أعلى نزل منه الماء بطيئًا وتكون قطراته كبيرة كحبات اللؤلؤ.
 ونزوله والماء يقطر من رأسه ليوافق الحالة التي رفعه الله فيها إلى السماء، حيث مرَّ معنا كلام ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه السلام قبل أن يرفعه الله إلى السماء وكان رأسه يقطر ماء، فينزل ورأسه يقطر ماء ليكون نزوله على نفس الحالة التي رفعه الله عليها.
 وعندما ينزل عيسى عليه السلام يُقوّي الله نفسه، ويزيد الله في مدى تأثيره، فَيَصلُ مفعول أنفاسه إلى نهاية بصره، وأيُّ كافر يشمُّ نفسه يموت مباشرةً، قبل أن يصله عيسى عليه السلام، وهذه معجزة لعيسى عليه السلام يُجريها الله على يديه.
 واللطيف أن نفس عيسى عليه السلام جعل الله فيه معجزةً باهرة، فلمّا كان نبيًّا في بني إسرائيل كان ينفخ في التمثال الذي على هيئة الطير، فيجعله الله طيرًا حيًا، أي نفسه كان سببًا مباشرًا في إحياء التمثال الجماد، وعند نزوله في اخر الزمان يكون نفسه سببًا في موت الكفار الأحياء، والله هو المُحيي في الأولى والمُميت في الثانية.
 ويلحق عيسى ـ عليه السلام ـ المسيح الدجال، فيهرب الدجال منه، ويتوجه إلى فلسطين، فيدركه عيسى عليه السلام في مدينة (اللّد) فيقتله فيها، وهي مدينة فلسطينية بجانب الرملة، وقريبة من بيت المقدس، وبقتله المسيح الدجال يُنهي فتنته الكبرى ويريح الناس من شرّه.
 ويتجمع حول عيسى ابن مريم ـ عليه السلام ـ المؤمنون الصالحون، الذين عصمهم الله من فتنة المسيح الدجال، ويفرحون بالتخلص منه، ويسعدون بالحياة مع عيسى عليه السلام، فيمسح على وجوههم ويبشرهم بالفوز ويخبرهم بدرجاتهم في الجنة.
 وبينما هم كذلك في غاية السعادة والسرور يخرج الله قوم يأجوج ومأجوج من جهة الشرق، ويتوجَّهون نحو فلسطين.
 ويخبر الله عيسى عليه السلام أنه لا قدرة لأحد على قتال يأجوج ومأجوج، لأنهم أقوى قوة بشرية على وجه الأرض، ويأمر الله عيسى عليه السلام أن يتحصن مع أتباعه المؤمنين في جبل الطور، وهو الجبل الذي في سيناء الذي ناجى موسى عليه السلام ربّه عليه، فإن الله سيحميهم من يأجوج ومأجوج.
 يتحصَّن عيسى عليه السلام مع أتباعه المؤمنين على جبل الطور، ويغزو يأجوج ومأجوج البلاد، وهم كثيرون كثرة عجيبة، يملؤون السهول والجبال وينسلون ويسيرون مسرعين في جميع البلدان.
 مما يدل على كثرتهم أن أولهم يمرُّ على بحيرة طبرية المعروفة الواقعة في الجولان، والتي يخرج منها نهر الأردن ليصبَّ في البحر الميت، فيشربون ماءها وما أن يأتي اخرهم عليها حتى يروها جافّة لا ماء فيها لأن من سبقوهم استنزفوها وشربوها فيقولون: علمنا أنه كان هنا بحيرة، وأنه كان فيها ماء، فأين يذهب ماؤها؟
 يحاصر يأجوج ومأجوج عيسى عليه السلام وأتباعه على حبل الطور، حيث يكون المؤمنون محصورين على الجبل، وتكون جموع يأجوج ومأجوج محيطة به.
 يشتد الحصار على المؤمنين، وتضيق عليهم الأمور ولا يجدون ما يأكلون، حتى يكون رأس الثور خيرًا من مائة دينار، لأنهم لا يجدونه.
 ويُقبل عيسى عليه السلام ومن معه على الدعاء، فيدعون الله ويتضرعون إليه، ويطلبون منه إهلاك يأجوج ومأجوج.
 ويستجيب الله دعاء نبيّه وأوليائه المحصورين ويرسل على يأجوج ومأجوج المرض والوباء، ويكون على شكل (النَّغف) في رقابهم، والنغف هو دود يكون في أنوف الإبل والغنم، ويكون هذا وباءً عامًا يقضي عليهم في ليلة واحدة، وإهلاكهم بالدود الصغير لهوانهم على الله ومكره سبحانه بهم، حيث يقضي عليهم ويهلكهم بأهون شيءٍ وأحقره.
 وفي الصباح يُصبحون جميعًا أمواتًا، ليس فيهم إنسان حي.
 وينزل عيسى عليه السلام والمؤمنون عن جبل الطور، فيجدون أرض سيناء حول الجبل مغطاة بجثث يأجوج ومأجوج ويتأذّون بروائح جيف الهالكين الكفار ويطلبون من الله أن يُريحهم من هذه الجيف النتنة.
 يستجيب الله سبحانه وتعالى دعائهم بايةٍ واضحةٍ من آياته، فيرسل طيوراً من عنده، هذه الطيور كبيرة ضخمة، الواحد منها بحجم الجمل الكبير، فتحمل الطيور تلك الجيف وتطرحها بعيدًا.
 ويُتمُّ الله إنعامه على المؤمنين فيرسل مطرًا شديدًا قويًا يعمُّ المنطقة ويَصلُ كل مدنها وقراها وبيوتها وخيامها، ويغسل هذا المطر الأرض من اثار ونتن الكفار ويطهرها ويعقمها فتصبح نظيفةً نقيةً معقمةً.
 ويقيم عيسى عليه السلام والمؤمنون في الأرض المقدّسة، ويحمدون الله على الخلاص من الدجال وجيشه، والخلاص من يأجوج ومأجوج، ويعيشون حياة من أسعد الحياة على وجه الأرض في تاريخ الأرض كله منذ آدم عليه السلام.
 ويأمر الله الأرض أن تُنبت ثمرها، وأن تُعمَّ بركتها، فقد زال الكفر الذي كان يمحق البركة، ويهلك الثمرة، ويكرم الله المؤمنين بالخصب والرفاه والبركة.
 وتكبر ثمار الأشجار كثيرًا ويبارك الله فيها، فإن حبة الرمان الواحدة تكفي الجماعة من الناس بحيث يشبعون منها، وإذا قشّروها وأكلوها، فإنهم يستظلّون بقشرها لكبر حجمه وكأنه خيمة كبيرة، أي أن حجم الرمانة الواحدة يكون بحجم الخيمة.
 وتدرُّ الأنعام من الإبل والبقر والغنم ويبارك الله في حليبها فيزيده زيادة كبيرة، بحيث إذا حلبوا الناقة فإنَّ حليبها يكفي المجموعة الكبيرة من الناس الذين هم أكثر من القبيلة، وإذا حلبوا البقرة فإن حليبها يكفي القبيلة ويُشبعها، وإذا حلبوا الشاة فإن حليبها يكفي الفخذ من القبيلة ويشبعهم.
 ويسعد المؤمنون مع عيسى عليه السلام بهذه الحياة الإيمانية السعيدة، وهذا الخصب والرخاء الاقتصادي، ويموت عيسى عليه السلام موتًا طبيعيًا، ويدفنه المؤمنون، وبعد فترة يُنهي الله أعمارهم ويأتيهم باجالهم، فيرسل عليهم ريحًا طيبة، تأخذهم تحت اباطهم، فيموتون جميعًا بهدوء ويسر.
 ولا يبقى إلا شرار الناس وسفهاؤهم، ويستحوذ عليهم الشيطان ويكونون عبيد الشهوات والفواحش، ويتهارجون كما تتهارج الحمير، بحيث يسير الرجال والنساء عراة ويجامع الرجل المرأة ويزني فيها علانية على مرأى من الاخرين، وعلى هؤلاء السفهاء تقوم الساعة.
وهذا معنى الجزء المتعلق بعيسى عليه السلام عند نزوله في اخر الزمان.
8 ـ بقاء عيسى عليه السلام بعد نزوله أربعين سنة:
أخبرنا رسول الله (ﷺ) أن المسلمين الصالحين سيسعدون بالحياة مع عيسى عليه السلام بعد نزوله أربعين سنة، ونصَّ على أنَّ عيسى سيعيش أربعين سنة، يقوم فيها بالأعمال العظيمة، وبعد ذلك سيُنهي الله أجله، فيموت موتًا طبيعيًا، ويدفنه المسلمون بعد أن يُصلّون عليه، (روى أبو داود وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ): «ليس بيني وبين عيسى نبيّ وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، ينزل بين مُمصرتين، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فيقاتل النّاس على الإسلام فيدقُّ الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويهلك الله في زمانه المِلل كلّها إلاّ الإسلام ويهلك المسيح الدجال، فيمكث في الأرض أربعين سنةً ثم يُتوفَّى، فيصلّي عليه المسلمون») .
ولقد مرَّت بنا صفات عيسى ـ عليه السلام ـ وأفعاله بعد نزوله في أحاديث سابقة، والجديد في هذا الحديث تحديده المدّة التي سيعيشها عيسى عليه السلام بعد نزوله، حيث سيعيش أربعين سنة، ولا يتعارض هذا التحديد مع بعض الروايات التي فيها تحديد المدّة بسبع سنين، ومنها رواية في صحيح مسلم، (روى مسلم عن عبد الله عن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله (ﷺ) أنه قال من جملة حديث عن ظهور الدجال ونزول عيسى عليه السلام ومجيء أشراط الساعة: …. فيبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود، فيطلبُه فيهلِكُه، ثم يمكث في الناس سبع سنين، ليس بين اثنين عداوةٌ، ثم يرسل الله ريحًا باردةً من قِبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرةٍ من خيرٍ أو إيمانٍ إلا قبضته، حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبلٍ لَدَخَلَتْه عليه حتى تقبضه) .
وعروة بن مسعود الذي شبّه رسول الله (ﷺ) عيسى به، صحابيّ ثقفي كان سيّد ثقيف رضي الله عنه، والسبع سنين المذكورة في الحديث ليس لمدة لبث عيسى في الأرض، فإنّه سيلبث أربعين سنة كما في الحديث الصحيح السابق، وإنما هي لمدة حياة الناس بدون شحناء ولا بغضاء ولا عداوة (ثم يمكث الناس سبع سنين) و«الناس» فاعل، فالحديث عن الناس وليس عن عيسى عليه السلام.
والراجح أن السبع سنين في حديث ابن عمرو للتكثير، والدليل على أنها للتكثير وليست للحصر، مجيئها في بعض آيات التكثير، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ [لقمان: 27] .
هذه أهمّ وأصحّ الأحاديث التي أخبرنا فيها رسول الله (ﷺ) عن نزول عيسى عليه السلام في اخر الزمان، ويجب علينا أن نقول بما قالت هذه الأحاديث، وأن نعتقد نزوله عليه الصلاة والسلام، وقد لاحظنا من تلك الأحاديث أنَّه ينزل بالإسلام ويطبق رسالة محمد رسول الله (ﷺ)، ولا ينزل برسالة جديدة، بل يتبرّأ من النصارى، ويُلزمهم بالدخول في الإسلام ويقضي على اليهود، ويُهلك المسيح الدجال.

المصادر والمراجع:
• د. صلاح الدين الخالدي، القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، دمشق: دار القلم، بيروت: الدار الشامية، ط1، 1419هـ، 1998م. 4/401.
• علي محمد الصلابي، المسيح عيسى ابن مريم الحقيقة الكاملة، ص 350-360.
• محمد إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، الرياض: بيت الأفكار الدولية. رقم: 3394، 168.
• مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، بعناية محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت: دار الفكر، 1403هـ، 1983م. 2/194، شرح النووي.
• يوسف عبد الله الوابل، أشراط الساعة، السعودية، الأحساء: دار ابن الجوزي، ط2، 1411هـ، 1990م. ص349.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى