بحوث ودراسات

عوامل سقوط الأرض المقدَّسة في أيدي الاحتلال: رؤية معاصرة 7من 7

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

علاقة المرابين اليهود بالنَّازيَّة

يعتقد الكثيرون أنَّ النَّازيَّة، القائمة على الاشتراكيَّة القوميَّة والحُكم المطلق لزعيم قومي، نقيض الرَّأسماليَّة، ولا يمكن لأباطرة المال اليهود أن يتورَّطوا في دعمها أو يقدموا على تمويلها. غير أنَّ الحقيقة الَّتي يكشف عنها الأمير هو أنَّ نهوض ألمانيا في أعقاب هزيمتها في الحرب العالميَّة الأولى (1914-1919م) ما كان ليحدث دون تمويل من المرابين اليهود، ضمن خطَّط خفيّة لهم. حُمّلت ألمانيا مسؤوليَّة إشعال الحرب العالميَّة الأولى وأُجبرت على دفْع تعويضات بقيمة 5 مليارات دولار، بموجب معاهدة فرساي المبرمة في يونيو 1919م، ممَّا أثار اعتراض السُّلطات الألمانيَّة، وبخاصَّة على القيمة المبالغ فيها. شُكّلت في عام 1929م لجنة باسم لجنة يونج، نسبةً إلى رئيسها أوين جاكوب سميث يونج، لإعادة تقييم التَّعويضات. وكان أوين يونج هذا عضوًا في مجلس إدارة مؤسَّسة روكفلر للأعمال الخيريَّة والإنسانيَّة، ومؤسّسها هو اليهودي جون دي. روكفلر، المنحدر من ثاني أكثر عائلة يهوديَّة من أباطر المال تستحوذ على الثَّروات الماديَّة للعالم بعد آل روتشيلد. أعادت اللجنة تقييم التَّعويضات، وخفَّضتها، مع التَّوصية بدعم ألمانيا بمبلغ مالي لمساعدتها في إنعاش اقتصادها المتدهور. وفي سبيل توصيل التَّعويضات الألمانيَّة إلى الدُّول المنتصرة في الحرب، تقرَّر تأسيس بنك التَّسويات الدُّوليَّة (Bank of International Settlements)، الَّذي انضمَّت إليه البنوك المركزيَّة في العالم، وكان مقرُّه مدينة بازل في سويسرا، الدَّولة الَّتي أسَّسها المرابون اليهود في قلب أوروبا وجعلوها سلميَّة وخزَّنوا فيها أموالهم، كما يذكر وليام غاي كار في كتابه أحجار على رقعة الشَّطرنج (1955م).

أفضى تطبيق خطَّة يونج، الَّتي أخضعت النّظام المالي في ألمانيا إلى سيطرة المرابين اليهود، إلى مزيد من التَّدهور الاقتصادي، مع تراجُع في الإنتاجين الزّراعي والصّناعي، وتفاقُم في البطالة، وتردٍّ في الأحوال الاجتماعيَّة؛ وأدَّى كلُّ ذلك بدوره إلى حاجة الشَّعب الألماني إلى زعيم قومي يؤدّي دور المنقذ، وهنا بدأ نجم أدولف هتلر في البزوغ. اكتسب الحزب النَّازي وزعيم وخطيبه المفوَّه، هتلر، شعبيَّة واسعة بعد هجومه عام 1929م على معاهدة فرساي، ودعوته إلى عدم سداد التَّعويضات المجحفة، واستجاب بنك التَّسويات الدُّوليَّة إلى ضغوط الحزب النَّازي بإسقاط التَّعويضات عام 1932م. من هنا، حصد الحزب أغلبيَّة الأصوات في الانتخابات البرلمانيَّة، حتَّى انفرد بالسُّلطة في مارس 1933م، بعد مؤامرة لإسقاط الحكومة السَّابقة تمثَّلت في إحراق مبنى البرلمان الألماني في فبراير 1933م، ومن بين تفسيرات الواقعة أنَّها من تدبير الحزب النَّازي، تمهيدًا لسيطرته على السُّلطة بعد إزاحة الحكومة القائمة حينها. ويجد الأمير تشابهًا لحريق البرلمان الألماني مع واقعة حريق القاهرة في 26 يناير 1952م، وفي ذلك يقول:

وأشهر حريق من هذا الطّراز في الشَّرق هو حريق القاهرة في 26 يناير 1952م، والَّذي كان خطوة في الطَّريق إلى ثورة يوليو سنة 1952م، وإدخال مصر هي الأخرى في عقيدة الاشتراكيَّة القوميَّة وعصر الزَّعيم الخالد.

حسم أنتوني جيم ساتون، عالم الاقتصاد البريطاني والأستاذ في عدد من الجامعات الأمريكيَّة المرموقة، مسألة تواطؤ الحزب النَّازي مع المرابين اليهود في سوق المال في وول ستريت في أمريكا، بأن أكَّد في كتابه Wall Street and the Rise of Hitler-وول ستريت وصعود هتلر (1976م)، على أنَّ هتلر وحزبه ما كانا ليصلا إلى السُّلطة في الرَّايخ الألماني، أو الإمبراطوريَّة الألمانيَّة، بدون التَّمويل الَّذي وفَّرته مؤسَّسات وول ستريت الماليَّة. ينتقد الأمير في مؤلَّفات ساتون الَّتي تناولت هذه المسألة أنَّها، على كثرتها، لم تُشر إلى هويَّة المؤسَّسات الماليَّة الدَّاعمة لهتلر وحزبه، وهي أنَّها “كلُّها يهوديَّة، وأنَّ أصحابها من صفوة اليهود والماسون في الولايات المتَّحدة الأميَّة، مملكة اليهود والماسون”، على حدّ قوله (ص137). نفى ساتون نفسه إمكانيَّة جهل رجال المال الأمريكيين بحقيقة الحزب النَّازي ومدى خطورته عند تقديمهم التَّمويل إليه، ممَّا يثبت أنَّ مشروع هتلر استهدف في المرتبة الأولى خدمة مخطّط الصُّهيونيَّة العالميَّة خلال الفترة الممهّدة للحرب العالميَّة الثَّانية وخلال سنواتها السّت؛ ولعلَّ في ذلك ما برَّر استمرار أباطرة المال في تمويل هتلر خلال الحرب. لم تكن البنوك الرّبويَّة الَّتي أسَّستها فئة قليلة من العائلات اليهوديَّة منذ القرن الرَّابع عشر الميلادي سوى امتداد لنظام الصُّكوك والقروض الرّبويَّة لمنظَّمة فرسان الهيكل في غرب أوروبا، وانبثق عنها النّظام المصرفي الحديث لاستكمال مهمَّة التَّحكُّم في ثروات الشُّعوب، ظنًّا من المرابين اليهود أنَّهم بذلك سيجبرون أهل الأرض جميعًا على الخضوع أمام نظام الدَّجَّال.

كيف خدمت النَّازيَّة الحركة الصُّهيونيَّة؟

يذكّر الأمير بأنَّ موشيه هس، أحد أساطين الصُّهيونيَّة والدَّاعين إلى الهجرة اليهوديَّة إلى الأرض المقدَّسة، هو أوَّل من خرج بمفهوم الاشتراكيَّة القوميَّة، الَّذي طوَّره مواطنه اليهودي كارل ماركس ليصبح ما بات معروفًا بالماركسيَّة. كما سبقت الإشارة، ليس الاعتقاد في تفوُّق العرق الآري على سائر الأعراق ببعيد عن الاعتقاد في التَّميُّز العنصري اليهودي؛ حتَّى أنَّ أدولف هتلر قال في سيرته الذَّاتيَّة كفاحي (1925م) ما يثبت تشابُه ذلك، نقلًا عن الأمير (ص211):

إبَّان القرون الوسطى، كانت الإمبراطوريَّة الألمانيَّة تمثّل الإله على الأرض، وهي شريكة في الحكومة الإلهيَّة للبشر، ومن ثمَّ فالرَّايخ الثَّالث يقوم على هذا التَّقديس، ومن أجل تمجيد الشَّعب الألماني المختار.

لم تنشأ الحركة الصُّهيونيَّة بعيدًا عن ألمانيا، فغالبيَّة رجالها كانوا من الألمان، وصارت ألمانيا مركزًا للحركة بعد وفاة مؤسّسها تيودور هرتزل عام 1904م. وفي عام 1897م، الَّذي شهد عقْد المؤتمر الصُّهيوني الأوَّل في مدينة بازل السّويسريَّة، أُسّس الاتّحاد الصُّهيوني في ألمانيا في 31 أكتوبر، برئاسة ماكس بودنهايمر، وكان مقرُّها مدينة كولن الألمانيَّة، وأُتبع ذلك بتأسيس جمعيَّة الوطن اليهودي عام 1916م، لتكون من أذرع الحركة الصُّهيونيَّة، وكان مقرُّها برلين. وممَّا يثبت أنَّ يهود ألمانيا كانوا على استعداد للرَّحيل إلى الأرض المقدَّسة بدافع عقائدي، وأنَّ الاضطهاد النَّازي كان مجرَّد مبرّر، أنَّ المؤتمر الصُّهيوني الثَّالث عشر، المنعقد في مدينة كارلسباد الألمانيَّة عام 1923م، أوصى بتحفيز يهود ألمانيا على الهجرة إلى فلسطين، الواقعة حينها تحت الانتداب البريطاني منذ عام 1920م بموجب قرار “عصبة الأمم المتَّحدة الماسونيَّة” (ص212). ليس غريبًا أن يوصي المؤتمر ذاته اليهود بعدم المطالبة بالمساواة مع الألمان؛ لأنَّ ألمانيا ليست وطنهم، بل هي مقرُّ إقامة مؤقَّت.

أدار أدولف هتلر منذ وصوله إلى السُّلطة مطلع عام 1933م حملة منظَّمة للتَّضييق على اليهود في ألمانيا، سعيًا إلى دفعهم إلى الهجرة إلى فلسطين، بدأت بالدَّعوة إلى مقاطعة المنتجات اليهوديَّة، ثمَّ بإجبار الموظَّفين من غير الأصول الآريَّة التَّقاعد، وعلى رأس هؤلاء اليهود. والمفارقة أنَّ الحركة الصُّهيونيَّة الَّتي كان مقرُّها ألمانيا حينها كانت تعمل دون كلل لتسهيل هجرة اليهود، بعد تدريبهم على الزّراعة، وكانت التَّبرعات تُجمع لذلك الغرض دون حرج. أُصدرت بعد ذلك مجموعة من القوانين عُرفت بقوانين نورمبرج أقرَّها البرلمان الألماني لتشريع الفصل العنصري بين المواطنين المنتمين إلى العرق الآري واليهود، جاء على رأسها تجريم زواج اليهود من مواطني الرَّايخ من الألمان، ثمَّ إسقاط الجنسيَّة الألمانيَّة عن اليهود بحسب نسبة نقاء دمهم واختلاطه بالدّم الألماني. ويرى الأمير أنَّ اليهود الخُلَّص الَّذين نبذهم المجتمع الألماني كانوا بمثابة هديَّة من النَّازيَّة إلى الصُّهيونيَّة، من خلال دعم المجتمع اليهودي في فلسطين بعناصر بشريَّة جديدة تشغل المستوطنات الجديدة وترفع من عدد اليهود في مواجهة العرب.

لم تكن الهجرة اليهوديَّة عشوائيَّة، بل تمَّت بعد دراسة وافية لأرض فلسطين لتحرّي أنسب الأماكن للمهاجرين من ألمانيا، بعد زيارة ميدانيَّة للمعاينة. نقلًا عمَّا أورده ليني برينر في كتابه Zionism in the Age of the Dictators-الصُّهيونيَّة في زمن الدّيكتاتوريَّة (1983م)، وروى عنه أحد النَّاجين من معسكرات الاعتقال النَّازي، ونشرته مجلَّة History Today، أو التَّاريخ اليوم، في عددها الصَّادر في يناير 1980م، أجرى البـارون لیوبولد إدلـر فـون میلدنشـتاین، وهو أعضاء منظَّمة حماية النَّازيَّة، بمشاركة كـــورت تیشـــلر، عضـــو اللجنـــة التَّنفيذيَّة للاتّحـــاد الصُّهيوني في ألمانيا، زيارة تفقُّديَّة لفلسطين، واصطحب كلٌّ منها حينها زوجته. برغم العداء المفترض بين التَّيَّار السّياسي الَّذي ينتمي إليه كلٌّ منهما، اتَّفق فـون میلدنشـتاین مع تيشلر على معاينة أنشطة المستوطنات الجديدة في فلسطين قبل السَّماح بهجرة اليهود المنبوذين اجتماعيًّا في ظلّ الحُكم النَّازي. بدأت الرّحلة في أبريل 1933م، واستمرَّت 6 أشهر، وشملت زيارات لشتَّى المستوطنات، بمعرفة قوَّات الانتداب البريطاني وحمايتها.

شملت استعدادات ما قبل الهجرة إبرام اتّفاقيَّة لتقنين التَّرحيل ما بين الحزب الحاكم والحركة الصُّهيونيَّة، عُرفت باسم “اتّفاقيَّة هعفراه”، أو اتّفاقيَّة النَّقل والتَّرحيل. ورد الحديث عن تلك الاتّفاقيَّة في أكثر من مصدر، من بينها كتاب The Transfer Agreement: The Untold Story of the Secret Pact between the Third Reich and Jewish Palestine-اتّفاقيَّة التَّرحيل: القصَّة غير المرويَّة عن التَّحالف السّرّي بين الرَّايخ الثَّالث وفلسطين اليهوديَّة (1984م)، ودراسة تحت عنوان The Secret Contacts: Zionism and Nazi Germany, 1933-1941″-الاتّصالات السّريَّة: الصُّهيونيَّة وألمانيا النَّازيَّة، 1933-1941″، نُشرت عام 1976م عبر مجلَّة الدّراسات الفلسطينيَّة. استهدفت تلك الاتّفاقيَّة في المقام الأوَّل فكّ الحصار الاقتصادي على الاستثمار الغربي في ألمانيا، الَّذي كان يُفرض عليه ضرائب باهظة، والأمر ذاته كان ينطبق على رؤوس الأموال الألمانيَّة الخارجة منها، وكان أصحاب رؤوس الأموال يلجؤون إلى التَّحايل في سبيل الهروب بأموالهم، وهذا بالضَّبط ما فعله اليهود لتفادي تسديد الضَّرائب الباهظة أو تجميد أموالهم. فقد اقترح الصُّهيوني سام كوهين أن يحوّل اليهود المهاجرين من ألمانيا أموالهم إلى منتجات ومعدَّات زراعيَّة تُصدَّر إلى فلسطين، ثمَّ تُباع هناك ويسترد المهاجرون أموالهم.

 خدعة الهولوكوست وحقيقتها

يتناول الأمير في آخر فصول كتابه (2018م) واقعة كان لها عظيم الأثر في إكساب الهجرة اليهوديَّة إلى فلسطين الشَّرعيَّة بعد إثارة تعاطُف العالم تجاه اليهود ومصابهم، ألا وهي المحرقة، أو الهولوكوست. كما أورد ليني برينر في كتابه The Iron Wall: Zionist Revisionism from Jabotinsky to Shamir-الجدار الحديدي: الصُّهيونيَّة التَّصحيحيَّة من جابوتنسكي إلى شامير (1984م)، نصَّ الاتّفاق بين منظَّمة شتيرن الصُّهيونيَّة والحزب النَّازي على إجبار اليهود على الرَّحيل إلى الأرض المقدَّسة، معتبرًا أنَّ “حلّ المشكلة اليهوديَّة ” و “تحرير الشَّعب اليهودي نهائيًّا وإلى الأبد” يكمنان في “إقامة الدَّولة اليهوديَّة بحدودها التَّاريخيَّة”، وتحديدًا في فلسطين، نقلًا عن الأمير (ص247). ويبدو أنَّ هتلر نفَّذ ما نصَّ عليه الاتّفاق، من خلال حيلة لإجبار اليهود على الرَّحيل من ناحية، وإسكات المعارضين لهجرتهم من النَّاحية الأخرى باختلاق مبرّر مقنع ومثير للشَّفقة لتلك الهجرة، وهو هروب اليهود من الاضطهاد النَّازي. وما يؤكّد على أنَّ المحرقة اليهوديَّة كانت وسيلة برَّرتها غاية عظيمة، هي إتمام الهجرة اليهوديَّة وإشغال المستوطنات الجديدة في فلسطين، التَّسمية الَّتي اختارها اليهود لها، وهي الهولوكوست. يشير الأمير إلى أنَّ ذلك المصطلح مشتقّ من المصطلح اليوناني Holókautos، أي القربان المقدَّس؛ ممَّا يوحي بأنَّ ضحايا المحرقة من اليهود وغيرهم كانوا قربانًا بشريًّا قُدّم لتسهيل تأسيس وطن اليهود الموعود.

يتحدَّى الأمير زعْم المصادر اليهوديَّة بشأن الهولوكوست، وبخاصَّة الَّتي تدَّعي منها أنَّ تعبير “الحلّ النّهائي للمشكلة اليهوديَّة في أوروبَّا” رُدّد لأوَّل مرَّة في مؤتمر للحزب النَّازي عُقد في 20 يناير 1942م، أي خلال سنوات الحرب العالميَّة الثَّانية، حضره كبار المسؤولين الأمنيين في ألمانيا النَّازيَّة، ممَّن كُلّفوا حينها بـ “إبادة اليهود في كلّ مكان في أوروبَّا غزته الجيوش النَّازيَّة” (ص250). في حين ذُكر تعبير الحلّ النّهائي للمشكلة اليهوديَّة” في مذكّرة أرسلها الاتّحاد الصُّهيوني الألماني إلى حكومة هتلر النَّازيَّة في 31 يونيو 1933م، ولم يكن المقصود هو الإبادة، إنَّما الإجبار على الهجرة والعزل عن باقي أفراد المجتمع. تعمَّدت الرواية الرَّسميَّة، الَّتي يعتمدها اليهود بشأن المحرقة، إثارة التَّعاطف تجاه الواقعة، بسرد أحداث لا يمكن تصديقها، ولعلَّ من أشهر الأمثلة على ذلك ما ورد في مؤلَّفات المؤرّخ اليهودي مارتن جلبرت، ومنها كتاب The Holocaust: The Jewish Tragedy-الهولوكوست: المأساة اليهوديَّة (1987م). يتحدَّث جلبرت في هذا المؤلَّف عن مخطَّط لإبادة اليهود، عمد الجيش النَّازي إلى تنفيذه في كلّ مكان وقع تحت سيطرته، في بولندا ولاتفيا وليتوانيا وإستونيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء وغرب الاتّحاد السُّوفييتي. تدَّعي الروايَّة الرَّسميَّة، أو “الرُّواية المقدَّسة”، أنَّ الجيش النَّازي شنَّ حملة لتقتيل اليهود في الشَّوارع في مذابح جماعيَّة، علاوة على تعريضهم للجوع والبرد وإجبارهم على ممارسة أعمال شاقَّة.

من المفترض أنَّ عدد المقتولين في المذابح الجماعيَّة ومعسكرات الاعتقال 600 ألف يهودي، ويُضاف إلى ذلك العدد 500 ألف ماتوا نتيجة الاختناق في غرف الغاز. أمَّا عن إجمالي عدد اليهود من ضحايا الاضطهاد النَّازي، فهو 6 ملايين، وفق تقدير مارتن جلبرت، الَّذي اعتبر أنَّ الرَّقم الحقيقي يفوق ذلك، كما أخبر في كتابه The Holocaust: Maps and Photographs-الهولوكوست: خرائط وصور (1978م، ص22). أمَّا عن العدد الحقيقي والمنطقي، فهو لا يكاد لا يتجاوز ربع المليون، نقلًا عن الصُّحافي البريطاني دوجلاس ريد فيما أورده في كتابه The Controversy of Zion-جدل صهيون (1978م). يخصّص ريد في هذا الكتاب فصلًا يحمل عنوان “The Talmudic Vengeance”، أو الانتقام التُّلمودي، يتحقَّق فيه من الرَّقم الحقيقي لقتلى اليهود، من خلال مراجعة مختلف الإحصاءات الواردة بشأن عدد اليهود في العالم قبيل الحرب العالميَّة الثَّانية عام 1939م، والَّذي لم يتجاوز 16 مليونًا، ثمَّ مقارنته بعددهم عام 1947م، ليجد أنَّ عددهم ربَّما زاد قليلًا، ولم ينقص 5 ملايين، كما تشيع مصادر يهوديَّة. لم يزد عدد ضحايا اليهود خلال الحرب العالميَّة الثَّانية على 400 ألف شخص، وربَّما يقلُّ، من بين ما يتراوح بين 62 و78 مليون قتيل، وفق تقديرات موسوعة ويكيبيديا الرَّقميَّة لضحايا الحرب. ويعلّق الأمير بقوله (ص299):

ومن ثَم يصل ريد إلى أن خسائر اليهود البشريَّة في الحرب العالميَّة، وفـي العـالم كله، تسـاوي عـدد مواليد اليهود فـي الفتـرة نفسـها، أو الزّيادة الطَّبيعيَّة الَّتـي كـان مـن المفتـرض أن يزيدها اليهود إذا لـم تقـع هـذه الخسـائر، وبعـد عرضـه لمعـدَّل المواليد وزيادة اليهود فـي الولايات المتحـدة، يقدّر ريد عـدد القتلـى والمـوتى مـن اليهود إبَّـان الحـــرب ببضـــع مئـــات مـــن الألـــوف، يتراوحون بين ثلاثمائـــة ألـــف وأربعمائـــة ألـــف يهودي!!!

تساؤلات ختاميَّة

1.استغلَّت الآلة الدَّعائيَّة اليهوديَّة واقعة المحرقة النَّازيَّة، أو الهولوكوست، لصالح تبرير هجرة اليهود من أوروبا إلى فلسطين خلال سنوات الحرب العالميَّة الثَّانية (1939-1945م). إذا كانت مراجع حديثة لمؤرّخين بعضهم من اليهود تشير إلى الأصول اليهوديَّة لزعماء الحزب النَّازي في ألمانيا، وعلى رأسهم أدولف هتلر؛ وإذا كانت الوثائق تثبت أنَّ العدد الحقيقي لضحايا المحرقة من اليهود لا يكاد يتجاوز 5 بالمائة (300-400 ألف) من الرَّقم الَّذي يدَّعيه اليهود (6 ملايين)؛ وإذا كان التَّطهُّر بغبار ذبيحة محروقة طقسًا يهوديًّا للتَّخلُّص من الدَّنس، كما تقول الآية “يَأْخُذُونَ لِلنَّجِسِ مِنْ غُبَارِ حَرِيقِ ذَبِيحَةِ الْخَطِيَّةِ وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ مَاءً حَيًّا فِي إِنَاءٍ” (سفر العدد: إصحاح 19، آية 17)، فهل كانت المحرقة النَّازيَّة وسيلة لتطهير اليهود من آثامهم الَّتي أفضت إلى طردهم من الأرض المقدَّسة بعد تدمير دولتهم عام 70 ميلاديًّا لكي يعودوا إليها ويؤسّسوا دولتهم من جديد؟

2.كوَّن عبد الله بن الحسين، مؤسّس المملكة الأردنيَّة الهاشميَّة، علاقات سريَّة مع الحركة الصُّهيونيَّة، وحصل في مقابل عدم معارضة تأسيس دولة يهوديَّة في فلسطين على وعْد ببسط سلطانه على كافَّة دول الشَّام في فيدراليَّة رباعيَّة تشمل القسم العرب من فلسطين تُعرف بـ “مملكة سوريا الكبرى”، بل ويمكن ضمُّ العراق إليها، بعد أن دعا إلى تأسيس مجلس دستوري يسهّل ذلك في أغسطس 1947م، أي قبل قرار تقسيم فلسطين بأشهر قليلة. غير أنَّ القدر لم يمهل عبد الله بن الحسين لتحقيق ذلك الحلم بأن قُتل على يد فلسطيني في 20 يوليو 1951م في ساحة المسجد الأقصى. والسُّؤال: هل كان من الممكن أن يسمح اليهود بتأسيس مملكة سوريا الكبرى على أراضٍ تدخل ضمن مخطَّط تأسيس دولة إسرائيل الكبرى؟ ومن المستفيد من موت عبد الله بن الحسين بعد أن أدَّى مهمَّة تسهيل تأسيس الكيان الصُّهيوني باستخدام جيشه في الاستحواذ على أراضي الضَّفَّة الغربيَّة لنهر الأردن بدلًا من دعْم المقاومة الفلسطينيَّة في مواجهة قوَّات الاحتلال؟ وما هو مستقبل المملكة الَّتي أسَّسها بعد ضمّ مستوطنات الضَّفَّة الغربيَّة وغور الأردن إلى إسرائيل؟

3.تشير الوثائق التَّاريخيَّة، كما يذكر المؤرّخان اليهوديَّان ايوجين لورانس روجان وآفي شليم في كتابهما حرب فلسطين: إعادة كتابة تاريخ 1948 (2001م)، إلى ضعْف القدرات القتاليَّة للجيوش العربيَّة المشاركة في حرب فلسطين؛ كما تشير إلى تواطؤ بعض الحُكَّام مع اليهود على حساب الأراضي العربيَّة، حفاظًا على مصالحهم الفرديَّة الَّتي كانت بريطانيا تتحكَّم فيها، وإن تظاهروا بالعداء تجاه اليهود لحفظ ماء الوجه وتسكين الجماهير الثَّائرة. إذا كان موقف هؤلاء الحُكَّام قد أفضى إلى تأسيس دولة إسرائيل عام 1948م وهمَّ يدَّعون معاداة اليهود، فإلى ما سيفضي بعد تسابُق هؤلاء إلى تكوين علاقات علنيَّة معها؟

4.ورث بنو إسرائيل الأرض المقدَّسة بأمر من الرَّبّ، الَّذي أراد معاقبة سُكَّان أرض كنعان على شركهم وعبادتهم للأوثان، كما يخبر سفر العدد “كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّكُمْ عَابِرُونَ الأُرْدُنَّ إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ. فَتَطْرُدُونَ كُلَّ سُكَّانِ الأَرْضِ مِنْ أَمَامِكُمْ، وَتَمْحُونَ جَمِيعَ تَصَاوِيرِهِمْ، وَتُبِيدُونَ كُلَّ أَصْنَامِهِمِ الْمَسْبُوكَةِ وَتُخْرِبُونَ جَمِيعَ مُرْتَفَعَاتِهِمْ. تَمْلِكُونَ الأَرْضَ وَتَسْكُنُونَ فِيهَا لأَنِّي قَدْ أَعْطَيْتُكُمُ الأَرْضَ لِكَيْ تَمْلِكُوهَا” (سفر العدد: إصحاح 33، آيات 51-53). إذا كان سُكَّان أرض كنعان استحقُّوا عقوبة الطَّرد بسبب عبادتهم للأوثان، ألم يفقد بنو إسرائيل حقَّهم في ميراث الأرض المقدَّسة بعد أن “تَرَكُوا الرَّبَّ وَعَبَدُوا الْبَعْلَ وَعَشْتَارُوثَ” (سفر القضاة: إصحاح 2، آية 13)؟ وإذا كان التَّخلّي عن ثوابت الإسلام بنشر عقيدة أشبه ما تكون بالقبَّالة اليهوديَّة هو مقابل التَّعايش السّلمي بين المسلمين واليهود، كما يُزعم، ألا ينطبق مبدأ التَّخلّي عن عقيدة استباحة أرض عرب فلسطين كونهم من سلالة كنعان بن حام، الَّذي لُعن لأنَّه نظر على عورة النَّبي نوح؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى