مقالات

اغتيال المتصوفة لقيمة النقد!

أ.د فؤاد البنا

أكاديمي ورئيس منتدى الفكر الإسلامي
عرض مقالات الكاتب



نشأت الصوفية كرد فعل على غلو الفقهاء في الحديث عن الشروط والأركان المادية للشعائر التعبدية وغفلتهم عن الشروط والأركان الروحية، وكرد فعل على جدل علماء الكلام وسفسطة الفلاسفة ومبالغة تيارات اجتماعية عديدة في الترفّه المادي والاستمتاع بالشهوات بطريقة مسرفة!
لكن التصوف الذي ظهر في محاولة لحل المشاكل آنفة الذكر، سرعان ما تحول إلى مشكلة انضافت إلى سلسلة مشاكل الأمة التي أثقلت ظهرها حتى أقعدتها عن الحركة إلى الأمام؛ وذلك بسبب عدم الانضباط بالمنهج النبوي، وتحرك كثير من رموزه وفق أذواقهم الشخصية، والأذواق في الحقيقة إنما هي اسم آخر للأهواء!.

وقد تولدت عن التصوف السقيم خطايا عديدة، ويبدو لي أن أهمها قيامه باغتيال قيمة النقد في الثقافة الإسلامية خلال القرون الأخيرة. فقد سادت مقولات وسط الطرق الصوفية هي أشبه بالرصاصات، مثل قولهم: (اعتقد ولا تنتقد) وقولهم للمريد: (كُن بين يدي شيخك كالميت بيد المغسل)، ومع كرّ الليالي صار كثير من المسلمين أمواتاً بالفعل ولكنهم لا يعلمون!
وكان المصلح الجزائري الكبير عبد الحميد بن باديس قد فطن لخطورة تغييب النقد واستفزته مقولة أهل الطرق السقيمة (اعتقد ولا تنتقد)؛ فأسس جريدة سماها (المنتقد)، وكان شعارها يقول: (الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء)، وشن من خلالها نقدا لاذعاً لكل السلبيات التي كانت تسكن المجتمع الجزائري، وفي مقدمتها الخرافات و الأساطير التي يرددها المتصوفة، والقبوريات والشركيات التي يمارسونها، وندد بتقديس الأولياء وأدعياء الولاية وإعطاء بعض صفات الله لهم!

ويحكي واقع الحال أن من يصيرون بين أيدي مشايخهم وقادتهم وأمرائهم كالميت بيد المغسل، بأنهم قد صاروا أمواتاً بالفعل، رغم أنهم ما زالوا يأكلون ولكن كما تأكل الأنعام، ويسعون على أقدامهم ولكن كما تسعى الدواب التي تهيم على وجوهها باحثة عن ما يشبع الغرائز غير مبالية بشيء مما يهم الأمة!

لقد صاروا على هذه الحالة من الموت؛ حينما عطّلوا أسماعهم عن سماع الأشياء كما هي، مكتفين بما تسمعه آذان المشايخ والزعماء، وعطلوا أعينهم عن رؤية الحقائق معتقدين ان ما تراه أعين المشايخ والكبراء هو الحق الذي ليس بعده إلا الضلال، وأخرسوا ألسنتهم عن قول الصدق والصدع بالحق جازمين بأن ألسنة القادة والدراويش لا تنطق عن الهوى، وعطلوا عقولهم عن التفكير بماهيات الأشياء موقنين بأن عقول مشايخهم وقادتهم لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها!

لقد جعل القرآن قيمة النقد صفة أساسية من صفات الذين هداهم الله وجعلهم أولي الألباب، كما في قوله تعالى: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}، لكن المريدين عطلوا هذه القيمة وذبحوها بسكين الجهل والغفلة؛ حتى رأينا المنكرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية تنمو وسط المجتمعات الإسلامية، وشاهدنا الكبائر تسري في أوصال الأمة كسريان النار في الهشيم، بجانب الرذائل والخطايا التي أقبلت من خارج منظومة الأمة ولم تجد من يمنعها من النفاذ إلى بنيانها؛ بسبب طغيان السلبية وعجز كثير من العقول عن التفريق بين الاقتباس الحضاري المشروع وبين الغزو الثقافي المرفوض!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى