مقالات

هل يستحق الساروت لقب بطل سوريا؟

طارق منصور

ناشط إعلامي
عرض مقالات الكاتب

يحتاج من أراد تزوير حقيقة ما إلى الاستعانة بكل شياطين الأرض لينقلوا عنه ما أراد تزويره للملأ على أنه حقيقة، ويحتاج إلى تفجير كامل طاقة الكذب الكامنة بداخله ليستطيع إقناع المشككين به، فإن قنعوا فالوطن يتسع للجميع، وإن لم يقنعوا فهناك سجون تتسع للجميع أيضاً، بهذه الطريقة تم تزوير حقيقة “البطل حافظ الأسد” ، “بطل تشرين” ، وصاحب الحركة التصحيحية المجيدة، وقبِلَ السوريون بهذا في سبيل الحفاظ على أرواحهم، وصار “للبطل” ألقاب أخرى كثيرة منها: المعلم والقائد والأب والرفيق، وكانت تماثيله وصوره منتشرة في كل مكان، في المدارس والجامعات والدوائر الحكومية وعلى أغلفة الدفاتر المدرسية، حتى في البيوت، وقال في هذا الراحل نزار قباني: هذي البلاد شقةٌ مفروشةٌ، يملكها شخصٌ يسمى عنترة، كل هذه الألقاب والمزايا حصل عليها حافظ الأسد دون أن ينتصر في حرب واحدة، وحين توفي لم يكن قد أشبع رغبته من السلطة والألقاب بعد، فصار بعد وفاته “القائد الخالد”، أراد أن يحكمنا حياً وميتاً، و تولى الحكم من بعده ابنه طبيب العيون بعد عملية تعديل الدستور أي تزويره وصار “بطلاً” جديداً ، وحتى نكون صادقين فإن هذه كذبة والصدق والصواب أنه فاقئ العيون، أما الدستور فقد زوره بالفعل والبطولة كانت إرث ابيه، وظل هذان “البطلان” يحتكران البطولة لفظاً ومعنى لعقود من الزمن بدعم من أجهزة الأمن وقوى الجيش،
إلى أن جاءت الثورة السورية و أماطت اللثام عن وجه بطل جديد لا يشبه الأبطال التي عهدناها، خرج من الأحياء العشوائية، كسب قلوب الناس بتشجيعهم وليس بتخويفهم، واستطاع على صغر سنه أن يجمع السوريين بكل طوائفهم من حوله ليهتفوا معه: الشعب يريد إسقاط النظام وحانن للحرية وجنة جنة، وكان له دويتو رائع مع الراحلة فدوى سليمان أغاظ النظام السوري العلماني أيما إغاظة، وكان رياضي يحب الجماهير وتحبه، وكان يرى أن حراسة الثورة أهم من حراسة مرمى المنتخب، وسرعان ما تخلى عن مركزه في حراسة مرمى المنتخب السوري للشباب ونادي الكرامة وانتقل لحراسة الثورة السورية، ومهمة الحراسة أعظم شأنا من مهمة الهجوم وتحتاج إلى كثير من التيقظ والحنكة والشجاعة وتحتاج إلى ذراع متينة وثابتة لا ترتجف تحت القصف ومرنة وصلبة لتأمين الحماية اللازمة لمساحة المرمى الممتد من القائم إلى القائم، ومساحة الوطن الممتد من الحدود إلى الحدود، وكان يميل إلى عدم التكلف بالخطابة ويفضل التحدث باللكنة البدوية على التحدث بالفصحى، وكان يعتبر الهدنة العدو الأساسي، وأن نصرة الغوطة حق، ومؤازرة درعا واجب، وفضل البقاء في سوريا على الخروج منها مع وفرة الفرص وكثرتها، وكان يرى أن طريق الخلاص الوحيد يمر عبر فوهة البندقية التي ظل متشبثاً بها إلى أن فارق الحياة، وصار سادس الشهداء لأمه التي زفته بثوب جديد كما كان يوصيها، قضى هذا البطل نحبه واقفاً وهو يسعى لتحرير حمص العدية التي اشبعها حبا وغزلا في أهازيجه، كان يرى أن القتال في سبيل العدية أسمى بكثير من القتال في سبيل المصالح الشخصية أو الدولية، لم يكن يطمح لمنصب ما في المستقبل، لم يطمح إلا لتحرير سوريا والعودة بعد ذلك إلى مدينته حمص ليستقر هناك بكل هدوء.
قاتل هذا البطل قرابة العشر سنوات في سبيل التحرير والوحدة ولم يكن السوريون قد اتفقوا بعد، لم يتفق السوريون إلا حين استشهد الساروت! اتفقوا على حبه،
ألا يستحق لقب البطل من اتفق السوريون على حبه مع كثرة خلافاتهم المذهبية والقومية والوطنية ؟
النموذج الأكثر تجسيداً للثورة السورية في تعرجاتها وتقلباتها في انتصاراتها وانكساراتها ألا يستحق لقب البطل؟
أخجلنا الساروت برحيله وأكثر ما يحزننا أنه رحل قبل أن نعتذر إليه، حين فقدناه شعرنا أننا فقدنا كل شيء، وحين بكيناه كنا نبكي سوريا كلها، أقيمت لوفاته عشرات الوقفات في أوروبا ومشى بتشيع جثمانه الآلاف من تركيا إلى سوريا طوعاً، كان التشيع الأكبر والأكثر حزناً وألماً في هذا العصر، حشود المشيعين كانت أشبه بحشود مشيعين “البطل” السابق، الذين كانوا يبكون في تشيعيه من شدة الفرح، على عكس حشود مشيعين هذا البطل الذين كانوا يبكون من شدة الحزن والخجل.
استشهاد الساروت أحيا روح الثورة التي ماتت عند كثير من السوريين، رجلٌ بألف، هكذا نقول حين نمدح الأبطال بعد النظر إلى الإرث الذي تركوه لنا، وبغض النظر عن الإرث سواء كان مادي أو أدبي أو عن تاريخ طويل من النضال فإننا نحزن بشدة وقد ندخل في دوامة الكآبة لأيام.
بعد عقد كامل من انخراطي في الثورة ومتابعة أخبارها بشكل يومي لم أرى إلى يومي هذا إرث معنوي ونفسي كإرث الساروت للسوريين، أحيا روح الثورة ، وصفع عقول تسللت إليها فكرة اليأس، البطل الذي يحيي نفساً واحدة يكون كمن أحيا الناس كلها، فماذا يكون من يحيي روح الثورة عند شعب كامل؟
الساروت بطل الحياة والممات، بطل على ظاهر الأرض وسيبقى كذلك في باطنها ، سننتزع لقب البطل عنوة من سارقيه، ونمنحه لساروت، وسيذكره التاريخ على أنه بطل حقيقي وليس مزور، وسيظل السوريون يبكون عند سماع يا يما بثوب جديد ويرقصون عند سماع جنة جنة، ولن يستطيع ألف مزور أو مدلس في التاريخ أن يعبث بسيرة الساروت في المستقبل، وسيبقى الساروت ومن مثله أبطال سوريا إلى الأبد، البطل لقب يستحقه الساروت ويسعى إليه كل ساروت سوري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى