مقالات

الشرّ.. ونحن..

الكاتبة

     

أين توجد دولة العدل والخير؟ وأين هي المدينة الفاضلة لأفلاطون ذلك الذي قال: “الخير طبع لمن اعتاده، والشر مباح لمن أراده”                                                                  

لقد أخبرتنا كتب التاريخ عن كلّ أنواع الصراعات والجولات بين الخير والشر التي شهدتها الحضارات المتعاقبة للبشرية؛ لكن أحداً لم يحسم الموقف لصالحه، وتلك هي الحقيقة.. حقيقة لا تبتعد عنا اليوم كثيراً. فما أن يستقر الخير على انتصار ما حتى تصيبه نكبة ويعود الشر لنزعته، وهكذا.. فهل تلك حكمة الله في خلقه؟

الإنسان يلجأ لمسار التاريخ ليدلل على ذلك الصراع, يحق للإنسان ذلك، وفي الوقت نفسه يحق له أن يشتكي ذلك المسار الذي لايأتي لصالحه دائماً؛ فمن يحسم الصراع إذاً؟ ففي ازدواجية الشكوى من الظلم وممارسته عاش الإنسان تلك الثنائية المزدوجة ولازال التاريخ يسجل الحدث.  أما اليوم، فالسؤال يصير ملحّاً أكثر لأنَّ البشرية، إلى جانب الصراع الحتمي بين النقيضين، تعيش أزمات أخلاقية على كل صعيد, فقد صار إذلال الإنسان وهدر كرامته وحقوقه وسفك دمه مباحاً أكثر من ذي قبل. ربما لأنَّ الخير نفسه يمر بأزمة فاقت قدرته على مجابهة الأشرار الذين يتكاثرون من حوله.. هنا يكمن جوهر المشكلة، فالخير يحتاج إلى الوعي، والوعي يقود إلى الضمير.. وفي صناعة الشر يتم تزييف الوعي وطمسه لذلك يتعثر الضمير في الوصول، ليس تعثراً في “ذات” الضمير بل بمن يرسمون العراقيل في طريقه نحو تحقيق الذات المفقودة في زمن تفاقم فيه الأشرار.

نعم , إنه مؤلم جداً لك كإنسان سوي أن ترى كل تلك النكبات التي ألمت بالخير..  فكأن من قال ” إن الشر لا يلقي سلاحه حتى يلفظ آخر أنفاسه” لم يكذب .  هذا يحدث كله الآن، وأمام البصر، يكاد يكون أبعد عن  “سنة” صراع الخير والشر، لأنّه ببساطة خرج عن القاعدة وفاق الحد.. إنه شرّ من نوع آخر..

فالاستثمار في الشر في زمننا كان ولايزال أحد أهم الاستثمارات التي نجح الانسان الشرير بها.. نعم، استثمار الأشرار هو الوسيلة لتمكين السلطة والسيطرة والنفوذ في زمن صار فيه دم الانسان أرخص مما يتصوره العقل الذي لم يتصور حتى اللحظة كيف بدأ الصراع بين الخير والشر بدم مهدور وانتهى بدم لانهاية له..                      

الاستثمار في الشر يرجح كفة الظالم، يضيّع الحقوق، يسهّل استعباد الانسان ونهب الثروة وخراب الأمة, وتمكين الفئة الفاسدة.. تمارسه دول تسمي نفسها عظمى, ويمارسه حاكم على شعبه, وتمارسه جماعات وأفراد.. وفي شرقنا نجد كل ذلك, نجد الأسئلة ونجد الإجابات, لكن لا حلول لكل ذلك. وخارج هذه المقولة نجد ذلك أزلياً في الكون, نشأ بنشأته، بل هو سنة الله في خلقه.  بدأ بصراع الشيطان وآدم, وحتى اللحظة يمثل الشيطان الشر المطلق لنا كبشر, وما أكثر أتباعه من أبناء آدام..! وكذا بين هابيل وقابيل وحكاية أول دم وأول جريمة.. واليوم من يوقف زحف الدماء في كوكبنا اللاهث خلف الخير.. فدم واحد لم يعد كافياً ولاشيء يوقف شهية الشر.. 

إنه صراع يترعرع وينمو،نجده في التفاصيل كلها، في السياسات التي يرسمها المتصارعون.. في الحروب التي لم تضع أوزارها، في عالم القوة والتسلح.. في الحديث المجوف عن السلام” نظرياً”  والحروب وسباقات التسلح” فعلياً”.. نجده في الاستبداد الذي عانيناه عقوداً وما يرافقه من كلام عن الحريات..  نجده في صناعة الفوضى والأزمات ودعم الظالم.. في المجاعات والقهر والتشرد والنزوج وما يرافقها من ادعاءات عن حقوق الإنسان .. فحتى اللحظة فإنَّ الشيء الوحيد الثابت في زمننا أن الخير نظريّ والشر فعليٌّ تطبيقي، في عالم يستثمر في الشّر لكي يحقق القوي نفوذه ،ويهمش النبلاء والأخيار. وإن عدنا لنظريات ميكافيللي سنجد إجابات.. فهو الذي الذي مهّد للأشرار من صناع السياسة والقرار طريقهم الممولة مسبقاً بفكره، عززها بعنوانه العريض: “الغاية تبرر الوسيلة” التي لاتزال سيدة المقولات في عالم السياسة الغربية، تلك السياسات التي وقعنا ضحاياها، مرة بالاستعمار المباشر ومرات بدعم الأنظمة المستبدة وصناعتها ومحاصرة محاولات النهضة والديمقراطية بطرق مباشرة أو بأساليب غير مباشرة مع الأخذ بالاعتبار  تقصيرنا كأمة وأفراد في ذلك.. 

فميكافيللي الذي برز في ما يسمى بعصر النهضة الأوروبية مهد الطريق لنظرية صارت فيما بعد دستوراً وواقعاَ يعيش في عصرنا بل في كل العصور. عصر نهضته لم يشفع له ولم يدخر لنفسه جهد تنمية طبيعة الخير في نظريته، بل اختار الانحياز إلى جانب النفس الشريرة في الإنسان فهو الذي أوجد التبرير لكل الأفعال التي ستأتي لاحقاً، أفعال يراها من مؤهلات السلطة والحكم.  

ففي كل هذا وذاك نجد الشعوب ضحايا.. ونجد أنفسنا كمشرقيين- مثلاً- ضحايا دائمين للشر الذي طالما أردناه خيراً بسبب تجاربنا مع الأشرار، فنحن في قلب الحدث تماماً،  في قلب صراع مستعر بين سلطة مستبدة تفعل ما تريد لتحافظ على نفوذها وبين عدو خارجي داعم بطريقة غير مباشرة لهذه السلطة التي هي أداته بعد أن كان يوماً مستعمراً مباشرا للأرض والانسان.

ولعل حالتنا السورية هي مثال حي على ذلك. فهي مثال واضح لصراع الخير والشر، والظالم والمظلوم والمستبد المرغوب به وشعب مغلوب على أمره تائه بين مصالح الدول. والمصالح هنا ماهي إلا شر علينا, وخير على أصحابها. وتلك هي لغة السياسة.. تحت مبدأ: ” الغاية تبرر الوسيلة”. أما نحن المثاليون جداً لا نطمح سوى لغاية واحدة.. أن نكون بوطن بأدنى” شر”.. وبالخير الممكن..

إن الخير والشر بطبيعتهما لا يرتبطان بمصلحة أو ينتميان إليها بل يرتبطان بمنطق عقلي بحت فأنا مع الخير لأن كذلك, وضد الشر لأن كذلك، وليس لسبب آخر. بعيداً عن الدين والإيديولوجيا والطائفية والتحزب والقومية.. فهل نستغرب أن نجد من يناصر حاكماً ظالماً فاق إجرامه التصور لأنه ينتمي لذات الطائفة؟                              

ومن هنا يبدأ الوعي، ثم التفكير ثم الضمير، ثم الانحياز للخير.. إنها مشكلة الإنسان وإرادته التي لا يمليها عليه أحد..  “إن القدرة على التمييز بين الخير والشر تكمن في عقل الإنسان ، لا في المجتمع” هكذا قال جوستين غاردر..

وفي معركتنا مع الشر نبحث دوماً عن خير ممكن..

فهل ذلك ممكن..؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى