دين ودنيا

التعارض بين العقل والنقل عند الإمام ابن جزي الأندلسي

سعد عبد الرحمن التركماني

كاتب وباحث تركي
محرر الشؤون الدينية في رسالة بوست
عرض مقالات الكاتب

إن مما يجب اعتقاده لدى المسلمين أن نصوص الوحي الصحيحة والصريحة في دلالتها؛ لا يعارضها شيء من المعقولات الصحيحة، وقد خلق الله العقل محصورًا وجعل له قوةً محدودة كما خلق للعين قوة محدودة وللأُذن كذلك، فأمر الإسلام العقل بالاستسلام والامتثال للأمر الشرعي الصريح حتى لو لم يدرك الحكمة والسبب في ذلك .
وقد حدثت أول نشوء لشبهة التعارض بين المعقول والمنقول بعد اتساع رقعة الدولة الإسلامية، واحتكاك المسلمين مع الثقافات الأخرى، فتُرجمت كتب الفلسفة اليونانية والمنطق، حتى تأثّر بعض علماء المسلمين ومفكريهم بتلك الفلسفة بتعظيمها للعقل وجعله معيارًا لقبول الأشياء وردِّها، فما عارضه من الوحي يجب تأويله بما يتوافق مع دلائل العقل طبقًا لمتطلبات تلك الفلسفة، وقد وقف الإمام “ابن جُزَي” موقفًا واضحًا وصارمًا تجاه تقديم العقل على النقل، حيث قال في الوصية التي كتبها في خاتمة كتابه “النور المبين”: (وها أنا أوصيك بما يقوّي يقينك، ويثبّتُ – إن شاء الله – دينك وأُحذرك مما يُزيغ قلبك ويُفسد نظرك ولُبَّك).
فدلّ على ما يقوّي اليقين ويثبّت الدين في مقدمة وصاياه، وحثَّ على التمسك بالقرآن تلاوةً وتدبرًا واستدلالًا، والاتّباع لسنة النبي ﷺ ثم الاقتداء بالسلف الصالح، وسرد من النصوص والأدلة ما يؤيد ذلك، ثم قال: (وأما الذي أُحذّرك منه فأمران:
الأول: الاشتغال بالعلوم القديمة غير الشرعيَّة؛ كالفلسفة، والتنجيم، فإن ذلك في الغالب مما يضعف به الإيمان، ويُظلِم به القلب، ويورث صاحبهُ البغض في قلوب المؤمنين، مع أنها علومٌ لا فائدة فيها، وأنها لم يأتِ بها المرسلون والأنبياء، ولو علم الله أن فيها خيرًا لبعثَ بها رسله، وقد أمر عمر رضي الله عنه أن تُطرح كُتُبها في البحر وقال: “إن كان فيها خيرٌ فالذي هدانا إليه خيرٌ منها”) .
وهذا موقف صريح للإمام “ابن جُزَي” من الفلسفة؛ التي جعلت العقل أساسًا في قبول ما جاءت به الشريعة، ولو نظرنا إلى طريقة إيراده لِما أوصاه أنه قدّم في الوصية؛ الأمر بالتمسك بالقران والسنة ثم جاء بالتحذير من الفلسفة وقَرَنه بالتنجيم، وهذه إشارة منه إلى أنه يُقدّم النقل على العقل، بل إنَّ التحذير منه يدل على تحريم الاشتغال به إلا للضرورة وبه قال جمهور الفقهاء.
يقول ابن نجيم الحنفي: (تعلّم العلم يكون فرض عين وهو بقدر ما يحتاج إليه لدينه، وفرض كفاية وهو ما زاد عليه لنفع غيره، ومندوبًا وهو التبحّر في الفقه وعلم القلب، وحرامًا وهو علم الفلسفة، والشعبذة، والتنجيم، والرمل، وعلم الطبيعيين، والسحر) .
وقد ردّ “ابن جُزَي” على من يقول بضرورة الاشتغال بعلم الكلام للرد على المبتدعة حيث يقول بعد التحذير من الفلسفة: (فإن قيل: إن ذلك يحتاج للرد على المخالفين وإبطال أقوالهم.
فالجواب: إن المخالفين على قسمين: كفارٌ، ومبتدعون.

  • فأما الكفار فقد أبطل القرآن أقوالهم، وبيّن افتراقهم وضلالهم، وهو حجة الله على خلقه فلا يحتاج معه في هذا إلى غيره.
  • وأما المبتدعون فينبغي أن لا يحكي أقوالهم ولا يذكر حُجّتهم إلا إذا ضُمَّت لذلك ضرورة، فحينئذٍ يشتغل بالرد عليهم كما ردّ عليٌّ وابن عباس  على الخوارج لما انتشر أمرهم.
    وهذا هو الذي دعا أئمة المتكلمين كأبي الحسن الأشعري، وأبي بكر بن الطيب الباقلاني وغيرهما إلى الكلام في ذلك لظهور طوائف المبتدعين في زمانهم).
    فموقف “ابن جُزَي”  هو المنع من تعاطي هذا العلم والاشتغال به ومجالسة أصحابه أو حتى الرد عليهم إلا لضرورة؛ وذلك أنه نظر إلى منهج الرسالة من الكتاب والسنة، فوجده قد انتهج منهجًا خاصًا في تقرير العقيدة الإسلامية، فاتجه إلى العقل الإنساني والفطرة البشرية يخاطب ما جبلت عليه من حقائق تجعل الإيمان بوجود الخالق وضرورة عبادته وحده أمرًا بديهيًا، لا حاجة فيه إلى الجدل والسفسطة، وأن الإسلام مبناه الخضوع والاستسلام.
    ومنهج الإمام “ابن جُزَي” في الاستدلال يدل على أن لا تعارض بين العقل الصريح، والنقل الصحيح، حيث اقتصر على الدليل العقلي من مشكاة الوحي دون الرجوع إلى علم الكلام والفلسفة والاشتغال بهما، وقد سبق في الإشارة إلى ذلك قبل الإمام ابن جزي رحمه الله , الأصبهاني فيما نقله عن أبي المظفر حيث يقول : (وَاعْلَم: أَن فصل مَا بَيْننَا وَبَين المبتدعة هُوَ مَسْأَلَة الْعقل، فإِنهم أسسوا دينهم عَلَى الْمَعْقُول، وَجعلُوا الِاتِّبَاع والمأثور تبعًا للمعقول، وأمّا أهل السّنة؛ فقَالُوا: الأَصْل فِي الدّين الِاتِّبَاع والمعقول تبع، وَلَو كَانَ أساس الدّين عَلَى الْمَعْقُول لاستغنى الْخلق عَنِ الْوَحْي، وَعَن الْأَنْبِيَاء، ولبطل معنى الْأَمر وَالنَّهْي، ولقال من شَاءَ مَا شَاءَ، وَلَو كَانَ الدّين بني عَلَى الْمَعْقُول لجَاز للْمُؤْمِنين أَن لا يقبلُوا شَيْئًا حَتَّى يعقلوا).
    وذلك لأن العقل يدرك الأشياء على وجه الإجمال وقد يعلم بعض التفاصيل سواء أكانت من طريق السمع أم من طريق الحواس التي تمدّه بالمعلومات، فلو كان العقل مدركًا للأشياء على وجه الإجمال والتفصيل والإحاطة التامة؛ لاستغنى الخلق عن الوحي وعن الأنبياء واستقلوا بعقولهم، ولبطل معنى الأمر والنهي، كما بيّن ذلك الأصفهاني، وهذا معلوم بالضرورة بطلانه.
    والذي أراده “ابن جُزَي” في منهجه وتقريره للعقيدة؛ هو بيان غنى نصوص الوحي بالدلائل العقلية اليقينية والكافية في سائر أبواب الاعتقاد، وما يخطر من الشبهات والوساوس على القلب دواؤه محصور في الكتاب والسنة دون الالتفات إلى علم الكلام، فيقول رحمه الله : (فإن قيل: قد يخطر على القلب خطراتٌ، ويوسوس الشيطان في صدر الإنسان، ويُلقي عليه إشكالات، فما يفعل من جرى له ذلك؟ فالجواب أن هذا داءٌ قد تبيّن دواؤه في الكتاب والسنة).
    وكلامه هذا يوافق ما قاله أئمة المتكلمين كأبي الحسن الأشعري، وأبي سليمان الخطابي، والغزالي، وغيرهم بأن غاية ما يريدون الوصول إليه من البحوث العقلية قد جاء القرآن بخلاصته وأربى عليه، حيث يقول الإمام أبو الحسن الأشعري: (ولعمري إن فيهما [أي الكتاب والسنة] الشفاء من كل أمر مُشْكِل، والبرء من كل داء مُعْضِل، وإن في حراستهما من الباطل على ما تقدم ذكرنا له آية لمن نصح نفسه، ودلالة لمن كان الحق قصده، وفيما ذكرنا دلالة على صحة ما استندوا إلى الاستدلال، وقوة لما عرفوا الحق منه، فإذا كان ذلك على ما وصفنا، فقد علمتم بهت أهل البدع لهم في نسبتهم لهم إلى التقليد، وسوء اختيارهم في المفارقة لهم، والعدول عما كانوا عليه معهم، وبالله التوفيق).
    والخلاصة: أن الإمام “ابن جُزَي”، التزم بمنهج السلف في مسألة النقل والعقل بحيث قرر مسائل العقيدة بالدلائل العقلية الموجودة في الكتاب والسنة؛ مشيرًا إلى أن العقل لا تعارض بينه وبين ما جاءت به الشريعة، وبيّن أن الوحي مقدّمٌ على غيره، ثمَّ إن خير الاستدلال ما كان على طريقة السلف الصالح من الصحابة، والتابعين، وأئمة المسلمين، وهو الاستدلال بكتاب الله وتدبر آياته، والاعتبار في بديع مخلوقاته، وعجائب مصنوعاته، والاقتداء بأخبار المصطفىﷺ وجميل سيرته وباهر علاماته، ثم إخلاص المحبة له ولأهل بيته الطاهرين وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الأبرار الأكرمين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين “رضي الله عنهم أجمعين.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. جزاك الله خير اخي الحبيب
    هذا هو نهج سلف الأمة وما ينطق عن الهو ان هو إلا وحي يوحا…
    اما اهل الكلام والفلسفة قد ضلو واضلو بل ومن المسلمين سماعون لهم..
    بوركت اخي شيخ سعد التركماني وزادك الله من فضله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى