مقالات

سد النهضة ، المحور الرابع: سد النهضة والحق الأثيوبي في التنمية “4”

محمد شريف كامل

مدون وكاتب مصري
عرض مقالات الكاتب

نبدأ حديثنا عن سد النهضة بالتأكيد على أهمية الأمر بالنسبة لمصر دون غيرها، فمصر هي الدولة الوحيدة التي تعتمد اعتماد كليا على مياه نهر النيل لأنها الدولة الوحيدة من دول حوض النيل التي ليس لديها أي مصدر أخر للمياه العذبة لندرة الامطار بها، فالنيل ينبع من أوغندا وكينيا وتنزانيا وأثيوبيا، وخلال رحلته للمصب النهائي تزداد طاقته المائية خلال عبوره السودان والتي تتمتع بالتقاء العديد من الروافد بالإضافة لسقوط الأمطار في العديد من ارجائها وبالتحديد في منطقة ما يعرف الأن بجنوب السودان.

وقد استعرضنا سابقا الاتفاقيات الدولية الخاصة بتوزيع مياه نهر النيل، وفندنا ادعاء البعض بأن اتفاقية 1929 ليست اتفاقية لمجرد انها تمت من خلال تبادل رسائل بين الحكومة المصرية والبريطانية، فقد أقرت كل الحكومات بأن تلك المراسلات هي اتفاقية ووثقتها باسم اتفاقية 1929 لنهر النيل.

وفي عام 1911 انعقدت في مدريد الدورة العامة لمعهد القانون الدولي، وأقرت بأنه لكون مجرى النيل يمر عبر عدة دول فلا يجوز لدولة إحداث أي تغيير أو إقامة أية مشروعات عليه بدون موافقة الدول الأخرى، ولا يجوز لأي دولة أن تستغل أو تسمح باستغلال المياه في إقليمها بطريقة تضر بالدول الأخرى. وكذلك فأنه لا يجوز سحب كميات من مياه النيل لاستغلالها في توليد القوى الكهربائية إذا كان ذلك يؤثر على مجرى النهر أو كمية المياه في دول المصب.

ويجب أن نذكر أن مصر عند الشروع في بناء السد العالي احترمت نص تلك المذكرة القانونية والتي تنص على أنه لا يجوز لدولة المصب أن تقيم منشآت على إقليمها تؤدى إلى إحداث فيضانات في دول المنبع، ولذا كان من الضروري ان يبرم الاتفاق المصري السوداني عام 1959 قبل البدء في مشروع السد العالي، فتطبيق مصر لتلك المذكرة القانونية يحميها من محاولات البعض اسقاطها، وللأسف ذلك البعض “مصري”.

وتاريخ رغبة اثيوبيا المشروعة في استخدام نهر النيل في التنمية وتوليد الطاقة ليس بجديد، فبداية مشروع سد النهضة أو كما يعرف باسم سد الألفية يعود إلى منتصف القرن الماضي وتحديدا في الفترة بين 1956-1964 وبعد تمهيد جيد من رجال المخابرات الأمريكية في المنطقة، قام مكتب الولايات المتحدة لاستصلاح الأراضي بإجراء مسح شامل للنيل الأزرق لتحديد أنسب الأماكن لإقامة سد على النيل الأزرق، على أن تقوم الولايات المتحدة والبنك الدولي بتمويله، وكان ذلك محاولة للضغط على مصر لإفشال مشروع السد العالي.

ولما كانت علاقات مصر وأثيوبيا قوية، وكان التواجد المصري في أفريقيا له احترامه، وكانت للعلاقة الوطيدة بين الإمبراطور هيلا سيلاسي وعبد الناصر أثر كبير على ذلك، فتم التشاور في الأمر وأتفق على أن يتم التعاون على مثل تلك المشروعات بين البلدين، ولذا بدأت مصر في التفكير في إقامة عهد جديد من التعاون الأفريقي الذي يسمح لباقي دول المنطقة من التنمية بدون أن يؤثر ذلك سلبا على دول المصب وتحديدا مصر، فكانت الفكرة التي وئدت لتوصيل نهر الكونجو بنهر النيل وإعادة توزيع حصص المياه.

ولا شك أن هزيمة 1967 غيرت من الأولويات المصرية، ثم كانت فترة السبعينات والثمانينيات من ضياع الرؤية وتسليم المنطقة بالكامل للولايات المتحدة واتباعاها في المنطقة هي السبب الرئيسي في وئد فكرة التعاون وفك أوصال الارتباط المصري الأفريقي، ولعله لا يكون فك ارتباط أبدي

وتزامن ذلك مع دخول أثيوبيا في دوامة الحكم العسكري بعد انقلاب 1974 وحتى مطلع التسعينيات، وبعد الإطاحة بالحكومة العسكرية ووصول مهندس التنمية الأثيوبي “ملس زيناوي” لصدرة الحكم، والذي تولى رئاسة الجمهورية المؤقتة ما بين 1991- 1995 ثم رئاسة الوزارة ما بين 1995- 2012، عادت الفكرة للحياة، ولذا وقعتا مصر وإثيوبيا عام‏ 1993 الإطار العام للتعاون بينهما والذي نص على امتناع الطرفين عن القيام بأي نشاط يتعلق بمياه النيل يمكن أن يضر على نحو محسوس بمصالح الأطراف ألأخرى، وعلى ضرورة التعاون والتشاور بخصوص المشروعات بما يساعد علي تعزيز مستوي تدفق المياه وتقليل الفاقد منها‏، وعدم المساس بالاتفاقيات السارية.

وفي عام 1999 أعلن ما سمي في ذلك الوقت “مبادرة 1999” التي ضمت مصر والسودان وجنوب السودان وأوغندا واثيوبيا والكونجو وبورندي وتنزانيا ورواندا وكينيا وأريتريا، وتم توقيع المبادرة بهدف تدعيم التعاون بين هذه الدول عن طريق شراكة إقليمية من أجل تنمية وحسن استخدام وادارة مياه النيل.

وقد رفضت مصر فيما بعد التوقيع على الإطار القانوني للمبادرة إلا إذا تضمن عدم المساس بحصة مصر من مياه النيل وحقوقها التاريخية، والالتزام بالإخطار المسبق بأي مشروع يقام بأعالي النيل، وضرورة ألا يتم تعديل الاتفاق إلا بالإجماع وليس بالأغلبية.

وفى عام 2010 انفردت أثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا بالتوقيع على مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول بلا محددات تحفظ حقوق دول المصب وتسقط الاتفاقات الدولية السابقة، علما بأنه تلك الدول الموقعة غير معنية بأي مشروعات على النيل الأزرق الذي ينبع من أثيوبيا ويغذي نهر النيل بالسودان متجها لمصر، وقد رفضت مصر والسودان وباقي دول حوض النيل التوقيع.

وبدأت مشروعات السدود الأثيوبية عام 2002 بسد تيكيزي، الذي بني على نهر عطبرة، وانتهى العمل به عام 2009، وإن كان هذا السد لم يؤثر تأثيرا كبيرا على تدفق المياه إلا أنه قام بحجز 40% من الطمي المغذي للنهر وهو المصدر الرئيسي لمصر من الطمي، ومثل ذلك المشروع بداية الفشل أو التخاذل المصري في إدارة الصراع.

ولم يكن ذلك هو السد الأوحد بل وقعت اثيوبيا عقود لبناء 5 سدود أخرى، وجميعها كانت من نتائج دراسة مكتب الولايات المتحدة لاستصلاح الأراضي المشار إليه بعد ترتيبات أولية عن طريق المخابرات الأمريكية، والأمر الخطير في كل ذلك ان تلك السدود تقع في اثيوبيا والتي ينبع منها النيل الأزرق والذي يغذي نهر النيل بـنسبة 80-85% من مياه نهر النيل الإجمالية، ولا يحدث ذلك إلا أثناء مواسم الصيف بسبب الأمطار الموسمية على مرتفعات إثيوبيا، وهو ذات الوقت المحدد لمراحل ملئ الخزان خلف سد النهضة.

وبصورة عامة فأن جميع دول حوض النيل لا تعتمد على نهر النيل كمصدر للمياه إلا بنسبة ضئيلة جدا، فأثيوبيا تحديدا لا يمدها نهر النيل إلا بـــ 1% من إجمالي احتياجاتها من المياه، وباقي دول حوض النيل لا تعتمد على مياه النيل إلا بنسب متفاوتة تتراوح يبن 0-5% فقط، بينما تعتمد السودان عليه بنسبة 77%، وتعتمد مصر اعتماد كلي على مياه النيل بنسبة 97%،

ورغم كل ذلك فقد وقعت مصر والسودان مع اثيوبيا اتفاق مبادئ في 23 مارس 2015 والتي بموجبها تلتزم الدول الثلاث بـمبادئ عامة، وقد أكدت الاتفاقية على حق اثيوبيا في بناء سد النهضة، وأن تتعاون الدول الثلاثة على المنفعة المشتركة وحسن النوايا وتحقيق المكاسب للجميع، وأن تتخذ الدول الثلاث الإجراءات المناسبة لتجنب التسبب في ضرر.

ثم نصت على الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد التشغيل السنوي لسد النهضة، والتي يجوز لمالك السد ضبطها من وقت لآخر مع إخطار دولتي المصب، وأن تقوم الدول الثلاث بتسوية منازعاتهم الناشئة عن تفسير أو تطبيق هذا الاتفاق بالتوافق من خلال المشاورات أو التفاوض وفقاً لمبدأ حسن النوايا.

ومن الواضح أن هذا الاتفاق حول الإلزام المنصوص عليه في الاتفاقيات الدولية إلى إخطار وليس اتفاق ولا حتى استشارة، فمَثل ذلك صك استسلام بلا مبرر.

وما هذا إلا دليل على أن توقيع مصر على اتفاق المبادئ في 23 مارس 2015، كان بمثابة إهدار كامل لكل حقوق مصر ؛وتفريط واضح في مصدرها الأساسي من المياه، مما يهدد ليس فقط كل اشكال التنمية في مصر بل يمتد لتهديد كل اشكال الحياة على أرض مصر، وأن سوء الإدارة وليس ثورة 25 يناير 2011 كما يدعي البعض هي المسئولة عن تلك المصيبة الكبرى.

ولكن ما هو الحل وكيف لمصر أن تنجوا من ذلك الفخ الذي نصب لها عبر عشرات السنوات ووقعت مصر فيه بسوء إدارة الملف أو بسوء نية؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى