دين ودنيا

ما حكم قابيل الذي قتل أخاه هابيل وهل يصح أن يقال إنه مشرك؟

د. هاني السباعي

مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية بلندن.
عرض مقالات الكاتب

وردني سؤال من أخ فاضل كريم أرسله له شخص فأحاله إلى لأجيب عنه من باب إحسانه الظن بالعبد الضعيف.

نص السؤال: “السلام عليكم ، لديّ استفسار هلا اجبتني عنه.. أو ترسله لأحد المتبحرين بالدين: قابيل قتل هابيل.. وهو ابن أول نبي في البشرية ،ولم يكن هنالك شرك على وجه الأرض حتى زمن إدريس ونوح عليهما السلام ، والله سبحانه وتعالى قال إنّه يغفر الذنوب جميعًا إلا أن يشرك به.. فهل كان قابيل مشركًا ؟؟ لأننا تعلمنا أن عذاب قابيل عظيم وهو أشد أهل النار عذابًا! وفي روايات ذكرت عن قاتل قتل٩٩ نفسًا ثم استغفر الله وغفر له ، واختصمت ملائكة الرحمة والعذاب في موضع دفنه ورحمه الله تعالى فهل عندك اجابة؟”انتهى

الجواب

أقول وبالله التوفيق:

أولاً: لم يثبت بسند صحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن (هابيل) كان نبياً.

ثانياً: بالنسبة للشرك بالله؛ فقابيل لم يكن مشركاً؛ حيث لم يعرف الشرط أصلاً لأن الله خلق الناس على التوحيد فطرة الإسلام قال تعالى في محكم التنزيل: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الروم آية 30.

هكذا قد خلق الله آدم عليه السلام على التوحيد، وكان ابناؤه كذلك على التوحيد عدة قرون. ثم ظهرت عبادة الأصنام بصورة سافرة قبل نبي الله نوح عليه السلام حيث أنذر قومه بعاقبة الشرك  (قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا. وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا ۖ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا) نوح آيات 24:21.

ثالثاً: الأصل أن الله خلق الناس على التوحيد، وهذا عكس ما يزعمه المتخرصون من علماء الاجتماع وغيرهم من أن البشرية كانت على الشرك، ثم تدرت من الطفولة العقلية حتى بلوغ الرشد والنضوج العقلي فعرفت التوحيد! وأحياناً يزعمون أن الإنسان بنضجه اخترع التوحيد!! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

رابعاً: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: “كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة، هل ترى فيها جدعاء”أهـ الحديث..

وفي رواية عند مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا؛ كل مال نحلته عبدا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا”أهـ الحديث.

الشاهد من الحديثين أن الله خلق الناس على التوحيد ثم جاءت الشياطين فوسوت لهم واستخفوا بهم فذهبوا الحق إلى الباطل أزالوهم من التوحيد إلى الشرك.

خامساً: بالنسبة لقتل قابيل لأخيه هابيل:

(أ) قال الله تعالى في محكم التنزيل: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) المائدة آية27. ثم إلى قوله تعالى: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) المائدة آية 30.

أقول: إذن قتل قابيل أخاه هابيل حسداً لانه لم يتقبل قربانه.

(ب) لم يثبت بسند صحيح في السنة النبوية الشريفة أن قابيل كفر بقتل أخيه، كما لم يثبت بسند صحيح أنه في الجنة.

(ج) وبالنسبة للقتل العمد يقول الله تعالى (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) النساء آية 93.

أقول: هذا وعيد شديد من رب العالمين لمن اقترف جريمة القتل العمد ومن أراد التفصيل فليرجع لتفسير هذه الآية من سورة النساء وأقوال المفسرين في مظانها.

(د) وأما عن وزر قابيل فقد روى البخاري في صحيحه بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:  “لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا، إلَّا كانَ علَى ابْنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِن دَمِها؛ لأنَّهُ أوَّلُ مَن سَنَّ القَتل”أهـ الحديث.

أقول: هذا لا يدل على أن قابيل مات كافراً بل هو من الوعيد الشديد لكي ينزجر الناس عن القتل، ولتبشيع هذه الجريمة الشنعاء في إزهاق نفس معصومة بالإسلام؛ إلا إذا كان القاتل قد استحل قتل النفس المؤمنة المعصومة بالإسلام فحينئذ يكفر.  

(ج) عقيدة أهل السنة في من قتل مسلماً عمداً أنه عاص مرتكب كبيرة وعلى خطر عظيم ويستحق دخول النار لكنه لا يخلد فيها. أما إذا استحل قتل نفس معصومة بالإسلام فقد كفر؛ يقول اله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) الإسراء آية 33ه كذا حرم الله تعالى قتل النفس إلا بالحق؛ فمن استحل قتل نفس فقد استحل ما حرمه الله تعالى ومن ثم فقد كفر. هذا معتقد أهل النسة والجماعة.

(د) يقول الإمام العلامة أبو جعفر الطجاوي المتوفي سنة 321هـ صاحب متن العقيدة الطحاوية: “وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موَحدون، وإن لم يكونوا تائبين، وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم، كما ذكر عز وجل في كتابه: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ـ وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته”أهـ.

(هـ) أما عن توبة القاتل عمداً بغير حق: يقول الله تعالى (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) الفرقان آيات 70:68.

وقد ورد في السنة النبوية عن الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً وأكملهم بمائة: ففي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب فأتاه، فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة”أهـ الحديث.

لكن قد يسأل سائل لماذا استسلم هابيل لأخيه قابيل ولم يدافع عن نفسه؟ أرى أن قابيل قتل أخاه هابيل فيلة وغافله وهو نائم. وعلى افتراض جدلاً أن عدم مقاومة القاتل كان جائزاً في شريعتهم!! بالطبع لا أتفق مع هذا الرأي.. لكن من باب الافتراض الجدلي فإن هذا يتعارض مع شريعتنا في دفع الظلم وعدم الاستسلام فلا يوجد في شريعتنا (سلميتنا أقوى من الرصاص)!!

في الصحيحين من حديث عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرٍو رضي الله عنه: قال رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم “مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ”أهـ الحديث. وعند مسلم: نْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: “فَلاَ تُعْطِهِ مَالَكَ” قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: “قَاتِلْهُ” قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: “فَأَنْتَ شَهِيدٌ” قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: “هُوَ فِي النَّارِ”. رواه مسلم. الخلاصة أن قابيل قتل هابيل غيلة.

سادساً: عودة للتساؤل: هل كفر قابيل؟

قال العلامة القاضي ابن عطية الأندلسي المتوفى 541هـ رحمه الله تعالى في تفسيره:  “وجمهور الناس كان هابيل أشد قوة من قابيل ولكنه تحرج. وهذا هو الأظهر ، ومن هنا يقوى أن قابيل إنما هو عاص لا كافر؛ لأنه لو كان كافرا لم يكن للتحرج وجه، وإنما وجه التحرج في هذا أن المتحرج يأبى أن يقاتل موحداً، ويرضى بأن يُظلم ليُجازى في الآخرة؛ ونحو هذا فعل عثمان رضي الله عنه”أهـ المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: ابن عطية ـ طبعة ابن حزم ـ بيروت ـ ط1 ص532.  وممن أيد هذا الرأي ونقله العلامة أبو عبد الله القرطبي المتوفى سسنة 671هـ في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن الكريم) مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ ط1 ـ 1427هـ ـ ج7ص413، والعلامة أبو زيد الثعالي المتوفى سنة 875هـ في تفسيره الجواهر الحسان طبعة تراث التراث بيروت 1418هـ ج2 ص70.

صفوة القول

 بعد هذا التطواف السريع حول موضوع قتل قابيل لاخيه هابيل أقول: لم يثبت بسند شرعي صحيح أن قابيل كان مشركاً لان الشرك بالله قد حدث بعد عدة قرون من نزول آدم على الأرض. كما أنه لم يثبت أيضاً أن هابيل كان نبياً. كما أنني أرى أن الأرجح لدي أن قابيل قتل أخاه هابيل حسداً؛ أي أنه ارتكب كبير قتل نفس ظلماً وعدوانا بغير حق لكن حكمه حكم أهل الكبائر حسب معتقد أهل السنة؛ كما ذكرت آنفاً أقوال أهل العلم. والله أعلم. نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن يفقهنا في ديننا وأن يجعلنا من العاملين بديننا.

د. هاني السباعي  17شوال 1442هـ ـ 29 مايو 2021

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى