مقالات

فلسطين ـــ مقلة العين ـــ عربية إسلامية ، اليهود والقدس 6

أ.د. أحمد رشاد

أكاديمي مصري
عرض مقالات الكاتب

   يرى معظم المؤرخين أن بداية تاريخ اليهود يبدأ بخروج بني إسرائيل من مصر بقيادة موسى عليه السلام بين الأعوام 1240 – 1230 ق.م. أما قصة الهيكل في تاريخ بني إسرائيل فبدأت منذ عهد موسى عليه السلام حينما خرج ببني إسرائيل من مصر واستقر بهم في سيناء يريد الأرض المقدسة، وتجدر الإشارة أن النبي موسى عليه السلام رسول بني إسرائيل، لم يأت إلى القدس ولم يدخلها غازياً أو فاتحاً، ومن ثم فليس هناك أية رابطة أو علاقة مادية أو روحية أو دينية تربط اليهود بالقدس، وعلى جبل الطور كلم الله موسى، وكانت المعجزات المتتابعة، والقرآن الكريم يذكر ذلك في سورة البقرة “الآيات : 49 ، 50 ، 51” ، وسورة الأعراف “آية: 138″ وتذكر التوراة ذلك أيضاً في سفر الخروج، ولكنها هنا تخالف ما جاء في القرآن الكريم، إذ تجعل من هارون صانعاً للتماثيل كي يعبدها بني إسرائيل، بينما القرآن الكريم ينزه هارون عن ذلك، ويذكر شخصاً آخر هو الذي فتن بني إسرائيل يعرف بالسامري كما قال تعالى :”قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري”. وغضب الله على بني إسرائيل، ونزل موسى من الجبل وفي يده لوحا الشهادة، فوجد قومه يعبدون العجل، ويؤيد القرآن الكريم هذه الرواية: {ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون}، ثم صعد موسى الجبل وكتب عهد الرب:”فكتب على اللوحين كلمات العهد الكلمات العشر” ويؤيد القرآن الكريم هذه الرواية أيضاً: {وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء}، ويذكر ابن خلدون أن هذه الكلمات العشر عبارة عن وصايا تمثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

     ومع موسى في أرض سيناء تتحدد النواة الأولى لتابوت العهد، الذي سيحوي ألواح موسى ليحملها بنو إسرائيل أينما ذهبوا ويقدسونها ، ويحافظون عليها بداخل هيكل في سيناء على شكل خيمة ، فقد أعطى الله لموسى لوحي العهد، وطلب منه صناعة تابوت توضع فيه هذه الشهادة، وقد وصفت التوراة ذلك بكثير من التفصيل، هذه الخيمة وما احتوت هي هيكلهم الأول، الذي يؤدون فيه عبادتهم، وذلك على الرغم من ارتدادهم عن دينهم ونبيهم موسى بينهم حي يرزق ، حيث لم تنتزع عبادة الأوثان من قلوبهم وأنهم اختلفوا مع موسى عليه السلام، واختلفوا على كلام الله الذي جاءهم في الألواح أثناء وجوده، وبعد مماته، ولقد حدثت محاولات كثيرة منهم في سيناء لقتل موسى عليه السلام وإيذائه لقوله تعالى في سورة الصف: { وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم، فلما زاغوا، أزاغ الله قلوبهم، والله لا يهدي القوم الفاسقين.}

     حينما حاول موسى الدخول ببني إسرائيل إلى الأرض المقدسة عصوا أمره ورفضوا خائفين مذعورين، وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك في سورة المائدة من كلام موسى موجهاً إلى اليهود :{ يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ، ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين . قالوا : يا موسى إن فيها قوماً جبارين،  وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها ، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون }  إلى قــــــــوله تعالى في نفس الآيات :  { قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها ، فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . قال : رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين . قال : فإنها محرمة عليهم ، أربعين سنة يتيهون في الأرض ، فلا تأس على القوم الفاسقين}

    عندما عبر بني إسرائيل سيناء بعد موت موسى وصلوا إلى كنعان ومعهم الخيمة ـ وقد قاومهم الكنعانيون مقاومة شديدة ـ وبقيت هذه الخيمة إلى عهد داود، فلما أتم سليمان عليه السلام بناء الهيكل نقل الخيمة مع كل أثاثها إليه.

   ارتحل اليهود إلى فلسطين حيث خرج بهم من التيه يشوع بن نون الذي خلف موسى عليه السلام ووقع الصدام بينهم وبين الفلسطينيين الكنعانيين أصحاب هذه الأرض يساندهم الصيدونيين (أهل صيدا) وسكان جبل لبنان إلى مدخل حماة، حيث ورد أثناء ذلك في رسائل تل العمارنة التي تعود إلى سنة “1450 ق.م” اسم “أدوني صادق” ملك أورشليم اليبوسي الذي اتحد مع ملوك حبرون ولخيش وعجلون إلى ساحل البحر إلى لبنان، وأجمع هؤلاء معاً على محاربة بني إسرائيل والتصدي لهم، ومنذ ذلك الحين بدأ يشوع وقومه يتلقون ضربات أهل البلاد ، ولم يعد من السهولة لهم وضع قدم فيها بالحرب ، وعندما حدث زلزال عام 1927م في أريحا وما حولها ، أدى إلى تدمير الكثير من المباني مما أدى إلى ظهور أنقاض مدينة أريحا القديمة، وبعد فحص هذه الأنقاض وخاصة الأدوات الفخارية من قبل علماء الآثار وعلى رأسهم : الأستاذ جارستارج مدير مصلحة الآثار الفلسطينية في عهد الانتداب البريطاني تبين أنها تعود للفترة التي هاجم فيها يشوع بن نون أرض كنعان بعد خروجهم من سيناء ، واستطاع علماء الآثار تحديد تاريخ هذه الغزوة بعام 1400 ق.م . وقد بقيت مناطق فلسطينية كثيرة لم يستطع يشوع بن نون مهاجمتها لحصانتها تشمل كل أراضي الفلسطينيين على طول الساحل، وجزء من أرض الكنعانيين، وأرض الجبال إلى لبنان، أما المناطق التي احتلوها فتبدأ من أريحا إلى الشمال، أما جنوب أريحا، وهو المساحة العظمى من أرض فلسطين غرب الأردن والبحر الميت إلى العقبة فلم تكن لإسرائيل أدنى علاقة بها في عهد يشوع بن نون، ولا بعده، حتى عام 1948 م.

   وإذا قلنا أن الأرض الفلسطينية التي نزل فيها اليهود لا تتجاوز 10% ــــــ 15% من مساحتها الكلية واتخاذ هذه المساحة المحدودة لإقامة اليهود، قهراً، وبقوة السلاح لم يستمر إلا وقتاً يسيراً لم يتجاوز ثمانين عاماً، فكيف سيكون لهم حقاً تاريخياً فيها؟             !!

     استطاع الفلسطينيون بعد موت يشوع تحقيق النصر على اليهود، الذين هربوا إلى تابوت الله لينقذهم، ولكن الفلسطينيون استولوا عليه وبقي معهم سبعة أشهر، ثم أعادوه إليهم ثانية.

    وعندما أذلت الملوك المجاورة لبني إسرائيل قبائلهم ، هربوا إلى نبيهم صموئيل أو شموئيل بن بالي واستغاثوا به وطلبوا منه تعيين ملكاً عليهم يكون قادراً على توحيد صفوفهم لمواجهة خطر الفلسطينيين، فاختار لهم طالوت، أو “شاؤل” من بني نيامين، فرفضه بني إسرائيل واستنكروا اختياره مع أنهم طلبوا منه ذلك بأنفسهم، وورد ذلك في القرآن الكريم: { وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً، قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعةً من المال، قال إن الله قد اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم} ، وفي آية أخرى وضح القرآن الكريم آية ملكه: { وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وهارون تحمله الملائكة، إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين} . ومع أن اليهود نجحوا في إقامة ملك في جزء من أرض فلسطين لفترة محدودة تقارب الثمانين عاماً بقيادة داود وسليمان، إلا أن القبائل اليهودية لم تستطع تكوين كيان سياسي موحد له حدود محددة ونظام إداري مركزي، فعندما تولى داود الملك على بني إسرائيل (1012-972) استطاع قتل جالوت في قصة تذكرها التوراة والمصادر العربية، وحكم لمدة أربعين عاماً: في حبرون سبع سنين، وفي جزء من يبوس ثلاثاً وثلاثين سنة، أراد داود عليه السلام أن يجعل لملكه عاصمة يستقر فيها، فتوجه إلى أورشليم أي “يبوس”، لكن أهلها قاوموه وصدوه عنها فأقام عاصمة ملكه في حصن صهيون في نهاية القرن الحادي عشر ق.م “حوالي سنة 1049 ق.م”، وجاء في العهد القديم :(وذهب داود وكل إسرائيل إلى يبوس، وهناك اليبوسيون سكان الأرض، وقال سكان يبوس لداود لا تدخل إلى هنا، فأخذ داود حصن صهيون، وهي مدينة داود( .

    أراد داود عليه السلام بناء مكان مقدس للعبادة، وبدأ بالتحضير لذلك ، ولكنه بُني في عهد ولده سليمان عليه السلام الذي اعتلى ملك بني إسرائيل بعد أبيه، حيث تم البناء خلال سبع سنوات وذلك في عام 1007 ق.م، وقد قص الله تعالى نبأ سليمان ، وأخبر أنه سخر له الجن والإنس وكل شيء بقوله تعالى :{ وحًشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون} ،وفي آية أخرى { فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب ، والشياطين كل بناء وغواص }، وقد جاء البناء على شكل خيمة الاجتماع ، معبدهم الأول في عهد موسى، بضعف المساحة والمقاييس والزينة .

   وقد ذكرت المصادر العربية هذا البناء لبيت المقدس ، والمعبد الذي فيه بين الإيجاز والتفصيل والتحليل،  فقد أشار إليه الطبري بقوله :”وفي سنة أربع من ملكه ـــــ أي سليمان ــــ ابتدأ ببناء بيت المقدس” بينما جاء ابن خلدون بوصف مفصل لبيت المقدس، أما السيوطي فيوضح مشاركة الإنس والجن في البناء، ولكن ابن كثير جاء بتحليل لأصل هذا البناء الذي يذكره بالمسجد ، وأن الذي بدأ بالبناء هو يعقوب، بل ويذهب السيوطي إلى أبعد من ذلك بقوله : ” إن الأساس القديم الذي كان لبيت المقدس وضعته الملائكة بعد وضع أساس المسجد الحرام ” ، وفي قول آخر أن آدم عليه السلام هو أول من بنى مسجد بيت المقدس ، وقيل أيضاً أن الذي أسسه سام بن نوح ، كما قيل أن إبراهيم عليه السلام هو الذي وضع أساسه بعد الفراغ من بناء الكعبة التي أمره الله تعالى ببنائها بأربعين سنة كما جاء الحديث الشريف ، عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه ، قال : سألت رسول الله عن أول مسجد وضع على الأرض ، فقال : “المسجد الحرام” ، قلت : ثم أيّ ؟ ، قال :”المسجد الأقصى”، قلت : وكم بينهما ؟ قال : “أربعون عاماً ثم جعلت الأرض لك مسجداً فحيثما أدركتك الصلاة فصلّ فيه ” ، وقيل : أول من بناه يعقوب ، أو أنه طور البناء الذي كان قائماً فقط، ويجمع المؤرخون أن البقعة الطاهرة التي بني عليها المسجد الأقصى كانت معروفة لليبوسيين الكنعانيين ، ثم بناه داود عليه السلام وسليمان على ذلك الأساس القديم ، وما قاله ابن كثير والسيوطي ينهي أحقية داود وسليمان في تأسيس هذا البيت ، إذ اقتصر عملهما على إعادة تجديده عندما أصبح لهما مملكة ، وهذا ما يتخذه اليهود اليوم ذريعة محمومة للبحث والحفر عن هيكل اندثر ، فيطمسون كل ما هو قائم من أجل ما قد فني واندثر.

   عندما تقدمت السن بسليمان عليه السلام ، وضعفت قبضته على بني إسرائيل حاول شعبه التمرد عليه كعادتهم وتطلعوا إلى ملك جديد هو ابنه يربعام ، الذي فر إلى مصر خوفاً من والده وبقي فيها حتى وفاة والده سنة 935 ق.م ، وقد نصب اليهود عليهم بعد سليمان ابنه رحبعام ، إلا أنهم سرعان ما انقلبوا عليه وانحاز أغلبهم لأخيه يربعام ، ولم يبق مع رحبعام سوى سبط يهوذا وبنيامين ، وبذلك سرعان ما تفسخت هذه المملكة وانقسمت على نفسها إلى مملكتين متنازعتين ( وكانت أصلاً منقسمة قبل توحيدها على يد داود وسليمان ) إحداهما في الشمال ، وتسمى إسرائيل وعاصمتها نابلس/السامرة بقيادة يربعام ، وقد انتهت هذه المملكة سريعاً في عام 721 ق.م على يد سرجون الثاني ملك بابل ، والثانية في الجنوب وتسمى يهوذا وعاصمتها القدس بقيادة رحبعام التي انتهت عام 586 ق.م، ووقع بين المملكتين حروب وسادهما الاضطراب، وفي السنة الخامسة للملك رحبعام هاجم “شيشنق” ـ الذي كان من الضباط الأجانب في جيش فراعنة مصر ـ بعد أن بسط نفوذه على مصر اليهود في القدس مستغلاً انقسام مملكة سليمان وضعفها، واحتل “يبوس” أو القدس حوالي سنة 926 ق.م ، فكان أول تدمير للهيكل ولكيان اليهود في القدس.

   أما العرب والفلسطينيون فقد حاولوا استرداد القدس بالهجوم عليها عام “845 ق.م” وقد جرت محاولات أخرى للاستيلاء على القدس أهمها محاولة “سنحاريب” ( 704-681 ق.م ) ملك آشور حينما هاجم فلسطين في السنة الرابعة عشرة لملك يهوذا “حزقيا بن آحاز” واستطاع القائد الآشوري من محاصرة أورشليم سنة 713 ق.م ودكّ أسوارها كما استولى على جميع مدن مملكة يهوذا، وهزم الجيش المصري الذي كان يساندها، ولم يستقر الآشوريون طويلاً وعادوا بعد هذه الحملة نظراً لانتشار الطاعون في ذلك الوقت .
   وفي عهد نبوخذ نصر ( 604-562 ق.م) ، ثار ملك يهوذا “يهوياقيم” (609-598 ق.م) على سيده البابلي مما دفع نبوخذ نصر إلى التوجه إلى فلسطين والقضاء على الثورة ، وأخذ الملك عبداً عنده ثلاث سنوات ثم أعاده ، فعاد ثانية إلى التمرد على سيده، ثم عاد لقمع الثورة مرة أخرى ، وبعد موت يهوياقيم جاء من بعده ولده “يهوياكين” الذي تذكره المصادر العربية باسم:”يوياحين بن يوياقيم” ، وقد وقع بمملكته تحت حصار نبوخذ نصر الذي أخذه وأهل أورشليم أسرى إلى بابل ، وهو ما عرف “بالسبي البابلي الأول” سنة 597 ق.م، أما السبي البابلي الثاني على يد نبوخذ نصر أيضاً ـ وهو المشهور ـ فكان في عام (587 ق.م) في عهد صدقيا حاكم القدس بسبب تمرده مما جعله يحاصر القدس ثمانية عشر شهراً، ثم دخلها وتم تدمير الهيكل وكل بيوت أورشليم ، وهدم جميع أسوارها وسبى جميع من بها.

   وتشير المصادر العربية إلى هذا السبي البابلي لليهود، وخراب الهيكل على يد نبوخذ نصر الذي يذكره المؤرخ الطبري باسم: “بخترشة”.

   وتتفق المصادر العربية في أن سبب قدوم نبوخذ نصر إلى أورشليم هو قتل اليهود لنبيهم يحيى بن زكريا، فحلّ غضب الله على بني إسرائيل فأرسل عليهم نبوخذ نصر، فحكم فيهم حكم الجاهلية وبطش الجبارين، وهدم بيت المقدس، وسبى بني إسرائيل إلى بابل، وبذلك ضاع معبد سليمان وهيكل بني إسرائيل ومعه البقية المفترضة من التابوت منذ عهد موسى عليه السلام. فمن هذا التاريخ الثابت، أي منذ ستة قرون قبل الميلاد، انتهى التاريخ السياسي لبني إسرائيل في القدس وفلسطين، وظلوا بعد ذلك خاضعين لدولة الفرس، ثم اليونان، ومن بعدهم الرومان.

    وفي سنة 538 ق.م سمح الملك الفارسي قورش ـــــ بعد أن احتل بابل ـــــ لليهود بالعودة إلى القدس، كما سمح لهم بإعادة بناء الهيكل الذي كان خرباً.

   دخلت القدس العهد اليوناني عندما احتلها المقدونيون بقيادة الإسكندر سنة 332 ق.م، وقد استقبلتهم المدينة بالرضا والارتياح، وقد ضاع بذلك الكيان السياسي لليهود الذين أصبحوا طوع حكام اليونان حتى أنهم بنوا مذابح للآلهة اليونانية، ونبذوا كل أحكام الشريعة اليهودية.

    ثم خضعت القدس للرومان ، وعلى عهد يوليوس قيصر “سنة 49 ق.م” تنفس اليهود الصعداء ، حيث عينوا هيرودس “سنة 37 ق.م” حاكماً عليهم الذي ثبّت أقدام الرومان في البلاد ، وحاول هيرودس أن يضفي على نفسه مجد سليمان بدأ في “سنة 20 ق.م” بترميم الهيكل ، واستغرق ذلك ثماني سنوات كما يرى ابن خلدون، بيد أن اليهود لم يلبثوا أن حولوا هذا الهيكل الجديد إلى بناء قذر، إذ جعلوه سوقاً للبيع والشراء، ومكاناً للتجارة والمساومة بدلاً من الصلاة والعبادة، فلما رأى عيسى المسيح عليه السلام ذلك تألم وقال لليهود: “مكتوب بيتي بيت الصلاة وأنتم جعلتموه مغارة لصوص”، وقال الناسك يوحنا لليهود وهو يبشر بالمسيح حينما كانوا يتجمعون حوله على شاطئ النهر: “يا أولاد الأفاعي، متى أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي، فاصنعوا أثماراً تليق بالتوبة، ولا تفكروا أن تقولوا لأنفسكم: لنا إبراهيم أباً، لأني أقول لكم أن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم”، وقد قال المسيح لتلاميذه نبوءة تحققت بعد ذلك :” فقال لهم يسوع أما تنظرون جميع هذه . الحق أقول لكم أنه لا يترك هنا حجر على حجر لا ينقض”، ومن الواضح أن طبائع اليهود لم تتغير بمضي الزمن إلى أيام السيد المسيح عليه السلام، الذي خاطبهم موجهاً كلامه إلى أورشليم بقوله: “يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمعُ الدجاجةُ فراخها تحت جناحيها ولم تريدي، هو ذا بيتكم يترك لكم خرابا”.

   في عصر نيرون الروماني “سنة 66 م”، تمرد اليهود في أورشليم، فتوجه قائد الجيش الروماني “تيطس” في ديسمبر “سنة 69 م” لمهاجمة القدس الذي دمرها وأسر أهلها “عام 70 م”. وقد أدى سقوط المدينة وتدمير الهيكل إلى هجرة كثير من اليهود إلى بلاد العرب الشمالية والحجاز، استقرت في يثرب وخيبر ووادي القرى وتيماء. وقد ذكرت المصادر العربية ما حصل في القدس على يد تيطس من خراب، فالطبري يوضح ما فعله تيطس بالمدينة من نسف وسبي، ويذكر في هذا السياق نبوءة عيسى المسيح عليه السلام حينما قال لتلاميذه: “حتى لا يترك هنا حجر على حجر”، أما ابن خلدون فيحمل اليهود مسؤولية ما حصل من تدمير للقدس على يد الرومان، حيث كثرت فتنهم وفسادهم ومؤامراتهم فيها، مما حذا بالرومان بقيادة تيطس للزحف عليها وحصارها وتدميرها.

    أما تدمير الهيكل بشكل نهائي كما تجمع المصادر القديمة والحديثة فجاءت على يد الإمبراطور الروماني “إيليوس هادريانوس” سنة 135 م”، حيث هدم كل مدينة القدس وبنى مكانها مدينة رومانية خالصة أسماها: “إيليا كابيتولينا”، كما أقام مكان الهيكل معبداً للإله الوثني الروماني “جويبتر”، وزينها بالأبنية الوثنية والملاهي والحمامات، إلى أن انتشرت المسيحية وأصبحت الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية، وبنيت كنيسة القيامة فيما بعد على يد الملكة هيلانة، ومُنع اليهود من دخول المدينة.

    وهكذا فقد انقطعت صلة اليهود بفلسطين مدة ” 1800 عام ” أي ثمانية عشر قرناً متواصلة. وبقيت القدس تتمتع بالأمن والسلام منذ عام ” 135 م ” إلى “سنة 614 م” حينما احتلت جيوش الفرس بلاد الشام من الرومان، ودخلت القدس ومعها عدد من اليهود، وأحرقت خلال ذلك كنيسة القيامة بعد نهب تحفها وكنوزها، كما هدمت الأديرة والكنائس في مختلف أنحاء فلسطين بتحريض من اليهود. إلا أن حكم الفرس في القدس لم يدم طويلاً فقد انتصر عليهم الإمبراطور هرقل عام 627 م ودخل القدس في العام التالي، واحتفل برفع الصليب الذي نقله الفرس إلى بلادهم. وبقيت القدس تحت حكم الرومان إلى أن فتحها المسلمون في القرن الأول الهجري / السابع الميلادي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى