بحوث ودراسات

معاهدات السلام العربية الإسرائيلية في ميزان الشريعة الإسلامية 6

د. عطية عدلان

مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول
عرض مقالات الكاتب

الشرط الثاني: شرط المصلحة

 لا أعتقد أنّ الأيام والأحداث تركت للناظر في المصلحة مساحة للاجتهاد، فكأنّ مجرى الأحداث لسانُ جهيزةَ الذي قطع قولَ كلِّ خطيب، فها هي إسرائيل في المنطقة دولة عظمى، متربعة على عرش الشرق الأوسط، وقد مدت أذرعها الإخطبوتية في أحشاء الأمة الإسلامية، وصارت لكل دولة من تلك الدويلات العربية الهزيلة المتهافتة سَمْعَها الذي تسمع به وبَصَرَها الذي تبصر به، ولو شاءت لغزتهم جميعا ولطوتهم عن آخرهم؛ فهي اليوم تملك من السلاح والعتاد والمعلومات ما لا تملكه هذه الدويلات مجتمعة، ولكنّها تعرض عن ذلك بمحض إرادتها، وربما لو كان هناك ما يعيقها عن ذلك فليس إلا تلك المقاومة الصامدة من تلك الطائفة المنصورة التي لم يضرها خذلان من خذلها؛ فلم تزل تقاتل حول بيت المقدس وفي أكناف بيت المقدس.

لماذا لا تغزو إسرائيل بلادنا وتجتاح بجيشها كل أراضينا؟  الجواب غاية في البساطة والتلقائية، الجواب يأتي في سؤال مضاد: ولماذا تغزوها؟! أليست إسرائيل اليوم تحكم وتتحكم وتملي إرادتها وتفرض سيادتها؟!

أليست كلمتها في المنطقة كلها هي العليا؟ أليست هي الدولة العظمى التي تمثل قطبا محوريا تدور حوله كل المصالح فتصطفي لنفسها أعلاها وتنفي أدناها؟! فلماذا تكلف نفسها عناء الحرب، وتثير على نفسها أصوات الحقوقيين والصحفيين والأصوات الحرة القليلة التي تنادي بالعدالة والحقوق الفطرية؟! إنّها اليوم في حلّ من ذلك كله، وفي حل من إنفاق الأموال وإثارة عداوات المسلمين وغير المسلمين، وفي ذات الوقت تتحقق كل مطالبها؛ ليس بمعركة الحرب وإنّما ب”معركة السلام!”.

لقد بدأت مكاسب إسرائيل الكبرى بذلك الاعتراف الرسميّ من دول المواجهة مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، لم تعد إسرائيل في عرف هؤلاء جميعا كيانا صهيونيا غازيا غاصبا محتلاً، بل لم تعد عدواً، وإنّما صارت دولة لها احترامها وسيادتها على ما تزعم أنّها أراضيها، وهذا في الواقع وفي ضمير الأجيال الحالية والآتية له أثره الكبير في سلب الشرعية عن أيّ مقاومة أو نضال أو جهاد، فها هي الآن الدول التي تسارع إلى التطبيع تتهم المقاومة بالإرهاب، وترى إسرائيل دولة جوار، وهذا عين ما أرادت إسرائيل غرسه في المنطقة كلها؛ لذلك – وبرغم أنّ الأوضاع في فلسطين أمست في الحضيض – رأينا ثقافة البلاد العربية تبدلت إلى حدّ الانقلاب على الرأس، فالذين يرون التطبيع اليوم حضارة وأخوة وتعايشا سلميا حضارياً كانت رؤيتهم بالأمس لدى توقيع مصر لاتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل عكس ما هي عليه اليوم تماما.

    فقد جاء في البيان الصادر عن مجلس الوزراء لدولة الإمارات العربية المتحدة في 21/9/1978م “… فإنّ دولة الإمارات العربية المتحدة ترى أنّ اتفاقيتي كامب ديفيد لا تقدمان حلولا عادلة نهائية للأزمة طالما أنّهما لم تتضمنا التزاما إسرائيليا واضحا بالانسحاب من كافة الأراضي العربية المحتلة، وباستعادة حقوق الشعب الفلسطينيّ …” ([1]).   

وجاء في بيان مجلس الوزراء البحريني 20/9/1978م “تؤكد حكومة البحرين التزامها بمقررات قمة الجزائر والرباط ولاسيما القرارات الخاصة بانسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية المحتلة بما في ذلك مدينة القدس، وكذلك حق الشعب العربي الفلسطيني في أرضه … إن حكومة البحرين ترى أن القضية هي لجميع العرب، وبالتالي فإنّ حلها حلا عادلا لا يمكن أن يتم إلا بتضافر جميع الجهود العربية وبالتضامن العربي المخلص وتخطي كل الخلافات”([2]).

وَوَرد في بيان مجلس الوزراء السعوديّ 19/9/1978م : ” … إنّ حكومة المملكة العربية السعودية مع تقديرها للجهود التي بذلها الرئيس الأمريكي جيمي كارتر قبل المؤتمر وخلاله؛ ترى أنذ ما تم التوصل إليه في مؤتمر كامب ديفيد لا يعتبر صيغة نهائية مقبولة للسلام؛ وذلك لأنّ المؤتمر لم يوضح بصورة قاطعة عزم إسرائيل على الانسحاب من كافة الأراضي العربية التي احتلتها بالقوة وفي مقدمتها القدس الشريف، ولم ينص على حق الشعب الفلسطينيّ في تقرير مصيره وإنشاء دولته على أرضه ووطنه … إنّ حكومة المملكة العربية السعودية – رغم تحفظها المشار إليه آنفا على نتائج مؤتمر كامب ديفيد – لا تعطي نفسها الحق في أن تتدخل في الشئون الخاصة لأي بلد عربي ، ولا أن تناقش حقه في استرداد أراضيه المحتلة عن طريق الكفاح المسلح أو عن طريق المساعي السلمية بالقدر الذي لا يتعارض مع المصالح العربية العليا”([3]).

وقد أَوْرَدْتُ هذه البيانات لدول بعضها سارع هذه الأيام إلى التطبيع، وبعضها يطبع دون إعلان، فانظر إلى البون الشاسع بين رؤية هذه الدول قبل أربعين عاما أو يزيد وبين رؤيتها اليوم!

و انظر كيف استطاعت إسرائيل تنفيذ مخططها بنجاح مدهش؟!

 إنّها لم تكن تحلم بأكثر من هذا: أن تُحَيِّدَ دول الطوق المؤثرة؛ ريثما تمتص لطمة حرب أكتوبر، وتنجح في تمزيق شمل العرب ؛ حتى لا يطاردها مرة ثانية شبح التضامن المؤقت الذي وقع على أثر حرب أكتوبر، وتتمكن من الهيمنة على المنطقة، وتتوسع في إنشاء المستوطنات وفي جلب المستوطنين إليها، وتكون في وضع يؤهلها لانطلاقة ثانية، تبدأ اليوم بالحديث عن صفقة القرن ،وعن القدس الإسرائيلية الموحدة ، وعن الدين الإبراهيمي الموحد، وغدا عن أحلام الألفية الثالثة التي تأخرت بسبب موجات الربيع العربيّ، حيث بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى، وبعدها تكون مهيأة للحلم الأكبر الذي لم ولن تنساه يوما وهو دولة إسرائيل الكبرى.

وفي هذا الطريق الصاعد جاء التطبيع الإماراتي الإسرائيليّ في سياق التعجيل بتصفية القضية الفلسطينية، تمهيدا لصفقة القرن التي وثب نحوها ترامب وثبة كبيرة، وتوالي العمليات التطبيع في هذه الأيام يُراد منه تكريس الوضع القائم ، وتجاوز قطار التطبيع لحقوق الشعب الفلسطيني وعدم انتظاره لتحقق مطالبهم([4]).

وقد تجاوز الإعلان الثلاثي عن التطبيع الإماراتي مع إسرائيل حدود التراجع العربي الكبير والمستمر في الموقف من القضية الفلسطينية إلى صيغة تحالف مباشر مع العدو الأول للشعوب العربية على حساب القضية المركزية لهذه الشعوب، وفي إطار وتوقيت يسعى لتغليب أدوات تصفية الحقوق الفلسطينية، وفرض الرؤية الأمريكية الإسرائيلية على شعب فلسطين، وتجاوز الموقف الفلسطيني الرافض لهذه الخطة، وذلك من خلال انتقال نظم عربية من خانة الضغط على الفلسطينيين لقبول تسوية مجحفة، إلى الشروع في ترتيب جديد لشكل المنطقة تتحالف فيه هذه النظم مع إسرائيل، وتتبنى مواقف قريبة منها فيما يتعلق بالفلسطينيين وقوى المقاومة في المنطقة التي صنفتها بعض هذه النظم قوى إرهابية، وتصنف معظم رعاتها وحلفائها كخصوم ودول معادية، ومصادر للتهديد([5]).

فإن تطرق بنا الحديث إلى آثار التطبيع على مصر كأنموذج، ورأينا كيف استطاع العدو الصهيونيّ أن يتغلغل ويتغول في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية، وكيف استطاع من خلال تغوله وتغلغله هذا أن يدمر الاقتصاد والزراعة والصحة والتعليم، وكيف وصل من خلال شبكة الجاسوسية إلى سويداء قلب الدولة؛ فسوف يربو الألم والأسى على مستوى احتمال المشاعر، والحديث في هذه الزاوية الخطيرة يطول ويمتد، لكنني سأكتفي فقط ببعض النماذج، وأحيل مسئولية الاستيعاب إلى عمل آخر ربما نقوم به في مركز محكمات عن قريب بإذن الله.

فمن أمثلة السطو على الاقتصاد ومقدرات البلاد أنّ إسرائيل مارست على مصر الابتزاز لتنهب البترول بأرخص الأثمان، فقد “صَعَّدت إسرائيل مطالبها خلال فترة الانسحاب ، وهددت بعدم استكمال الانسحاب من سيناء إذا لم تنفذ المطالب … وأصبح لليهود حصة منتظمة من النفط المصريّ تتراوح الكميات من 2 إلى 2.5 مليون طن سنويا، أي ما يساوي ربع ما تحتاج إليه إسرائيل من البترول تحصل عليه بسعر يقل 5 دولار في البرميل الواحد في السوق بالنسبة للنفط المصريّ”([6])، كما أنّها أخرجت مصر من هيئة الأقطان العالمية ودخلت مكانها بلعبة غاية في المكر؛ حيث ملأت السوق المصرية ببذرة للقطن عالية الإنتاج؛ فرغب فيها المزارعون وزهدوا في النسخة طويلة التيلة؛ وعندما اندرست البذرة المصرية ضَنُّوا على السوق المصري بتلك البذور العالية الإنتاج ، وأغرقوه بسلالة ضعيفة؛ فتهاوى الإنتاج.

 ولا تسل عن البذور المهرمنة ، والمسرطنة ، والمحملة بالأمراض التي مزقت أجساد المصريين وأصابتهم بالفشل الكلوي والكبدي وأنواع السرطان كافة، لا تسل عنها لأنّها صارت تتحدث عن نفسها في إحصائيات الحكومة نفسها، هذا سوى فساد الزراعة والمياة والبيئة.

أمّا الجاسوسية فمثال صارخ لأضرار التطبيع، فمن المشهور أنّ أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية تمارس أنشطتها من خلال السفارة ، ومن خلال مكاتب اليهود في مصر مثل المكتب التجاري ومكتب شركة العال ، وعدد من الشركات العالمية في مصر ، وشركة موتورولا للري ، وشركة كور للتجارة ، وشركة تاهال للمياه ، وشركة سوليل بونيه ، بخلاف شركات تمتد على الطرق الصحراوية من القاهرة للأسكندرية ، ومن القاهرة للإسماعيلية والسويس والصعيد ، وغيرها تحت ستار الاستثمار الزراعي، وغير ذلك من أعمال الجاسوسية وأعمال صناعة شبكات التجسس”([7]).

وكل من يعملون في السفارة الإسرائيلية بالقاهرة السفير موشي سامون والملحق الثقافي ، أورون أمير والملحق الإعلامي إسحاق بارموشي ، وغيرهم هم ممثلون لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وتكونت من هؤلاء وممن حولهم مجموعات، فالمجموعة الأولى يقودها السفير موشي سامون مهمتها خلق لوبي مصري من سياسيين وفنانين ورجال أعمال مؤيد لمسيرة التطبيع، ومؤمن بضرورة التواصل مع الكيان الصهيونيّ، والمجموعة الثانية بقيادة دافيد سلطان تمثل شعبة الاستخبارات العسكرية “أمان” ومهمتها إنشاء خلايا تجسس ومجموعات تخريب عن طريق الاتصال بكبار ضباط الجيش والشرطة المتقاعدين والإغداق عليهم والتواصل مع السياح الوافدين وغيرهم، وأما المجموعة الثالثة بقيادة أورن الملحق الثقافي ، وهو في الأصل ينتمي لشعبة الأبحاث بوزارة الخارجية، ومهمة هذه المجموعة جمع المعلومات المتعلقة بمصر والمنطقة وتحليلها”([8])، وأمّا المعهد الأكاديمي الإسرائيلي الذي أقيم عام 1982م بحيّ الدقي فإنّه يمثل مؤسسة استخباراتية بامتياز ، وإن تستر بالبحث العلميّ ، وتجنيد كثير من الطلاب بالتسهيلات المادية والأكاديمية لخدمة الأعمال التجسسية”([9]).

هذه هي النتيجة؛ فأين المصلحة؟ إنّ المصلحة كلها ذهبت إلى إسرائيل، فما الذي بقي لنا، وما الذي غنمناه؟

 سيناء،  وحكم ذاتي فلسطيني ما أبخسه من ثمن !وما أبورها من صفقة! :

فأمّا سيناء فها هي كما ترونها خرابا ويبابا، لا تنمية ولا استقرار ولا أمن؛ لماذا؟ لأنّ إسرائيل أرادت أن تبقى هكذا، وقد تحقق لها ما أرادت، إنّ سيناء تحررت على الورق وحسب، والبروتوكول الخاص بالانسحاب الإسرائيلي (ملحق1 من معاهدة السلام) الذي قسم سيناء جعل من سيادة مصر عليها سيادة منقوصة منخرمة، فقد قسم سيناء إلى ثلاثة مناطق :

 المنطقة (أ) 50 كم من القناة هي التي بها قوات، وليس فيها فقط سوى فرقة مشاة واحدة.

أما المنطقة (ب) فليس فيها غير القليل من الكتائب المساعدة للشرطة المدنية المختصة بتنظيم الحياة في سيناء، وأما المنطقة

(ج) فهي منزوعة السلاح تماما إلا من بعض الشرطة المدنية، بينما على الجانب الإسرائيلي فليس كذلك، وتعتبر بذلك سيناء منزوعة السلاح؛ بما يجعلها عرضة للاجتياح السريع في أي وقت تشاء إسرائيل([10]).

ولو أنّ سيناء رجعت كاملة غير منقوصة بسيادة كاملة لمصر، وتمكنت مصر من تنميتها وتعميرها بوجه كامل شامل؛ لما كان في ذلك مغنم كبير إذا قيس بحجم المفاسد المقابلة، فإنّ ما حدث بعملية كامب ديفيد “لا يخرج عن كونه تنفيذا للخطة الإسرائيلية الموضوعة سلفا من استخدام ورقة سيناء للمقايضة عليها بأن تخرج مصر من حلبة النزاع العربي الإسرائيلي مقابل إطلاق يد إسرائيل في الضفة الغربية وغزة وهما بيت القصيد”([11])، وقد كان للإسرائيليين ما أرادوا دون أن تتمتع مصر بسيناء؛ فتأمل إلى أيّ مدى حققت إسرائيل انتصارا كبيرا فيما أسمته “معركة السلام”؟!

وأمّا ما تمخضت عنه “أوسلو” وما بعدها من حكم ذاتي للفلسطينيين فليست الخيبة فيه بأقل من الخيبة في سيناء؛ فقد “تم تقسيم الأراضي إلى مجموعة (أ) ومجموعة (ب) ومجموعة (ج)، حيث تكون المجموعة (أ) للسكان الفلسطينين وإدارة السلطة الفلسطينية.

و المجموعة (ب) للسكان الفلسطينين وإدارة إسرائيل.

 والمجموعة  (ج) تحت وصاية كاملة للإسرائيلين وبإدارة إسرائيلية.  

كان هذا على الورق الفاخر، أما في الواقع فكانت الأراضي التي تخضع للإدارة الإسرائيلية (ب،ج) تتمدد كخلايا السرطان بسرعة كبيرة من خلال عمليات الاستيطان ، والتي يختنق بها الوجود الفلسطيني في المنطقة (ب)، أما أراضي المجموعة (أ) والتي يفترض أن تكون خالصة إداريا للسلطة الفلسطينية فلم يسلم الفلسطينيون فيها من غارات وتدخلات من الجيش الإسرائيلي”([12]).

أضف إلى ذلك أن حدود الأراضي الفلسطينية تحت إدارة كاملة من قوات الاحتلال الإسرائيلي. وعلى أي زائر للضفة الغربية من الحدود الأردنية أن يتعامل مع الضباط الإسرائيليين، وقل مثل ذلك في التنقل الداخلي بين الأراضي الفلسطينية حيث نقاط التفتيش الإسرائيلية الدائمة والمؤقتة تنتشر انتشار البثور في الوجه المجدور، وعليه فإنه في الواقع لا وجود لأرض تحت السيادة الفلسطينية، فالحقيقة أن الزوّار العرب للأراضي الفلسطينية يخضعون أنفسهم للرقابة والإشراف المباشر من قِبل قوات الاحتلال الصهيوني”([13]).

إنّ المصلحة الشرعية التي تصورها العلماء وتحدثوا عنها كشرط لصحة عقد الهدنة لا علاقة لها بأفكار هؤلاء الحكام وطموحاتهم الصغيرة الضيقة، فهؤلاء الحكام ينشدون استقرارا لعروشهم ، وسلما يريحهم من القيام بما يجب عليهم وعلى الشعوب المسلمة من الجهاد لدفع المعتدي ومنع فتنته الواقعة والمتوقعة؛ لذلك عندما فسر العلماء المصلحة ضربوا لها أمثلة متعلقة باستراتيجية الجهاد الذي يجب أن يستمر ولا يتوقف، فإن كان بالمسلمين ضعف وبعدوهم قوة لا يقدرون عليها؛ انتفعوا بالهدنة في استعادة قواهم واستجماع قوتهم لمواصلة الجهاد، وإن كان بهم قوة ولكن يأملون في عدوهم أن يسلم فيسلم بإسلامه أمم وشعوب؛ اتخذوا من الهدنة ذريعة للتسلل إلى العقول والقلوب، وأحلوا قوة البيان محل قوة السنان، وإن كانوا يواجهون أعداء متعددين؛ التمسوا في الهدنة حلا ناجعا بتحييد بعض القوى وتفريق تحالفاتها، وهكذا ..

وعلى هذا المنهج كانت تمضي سياسة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ففي عهد الحديبية وادع الرسول -صلى الله عليه وسلم- قريشا؛ فحقق به جملة من المصالح المتصلة بسياق الجهاد وباستراتيجيات المواجهة مع الجاهلية، من ذلك أنّه أحبط سعي قريش لصد من يسلم من قبائل العرب، وفتح الطريق آمنا لكل من أراد من العرب أن يدخل في الإسلام أو في حلف مع دولة الإسلام([14]).

وعلى نفس النهج من التماس المصلحة الصحيحة شرعاً وادع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بني ضمرة في السنة الثانية للهجرة، واستقرت المصالحة على ألا يغزو بني ضمرة ولا يغزونه ولا يعينون عليه عدوا ولا يكثرون عليه جمعا([15])؛ ليمتهد السبيل إلى القضاء على العدو الأخطر وهو قريش، وكذلك كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأهل نجران عقد ذمة يتمتعون بموجبه بحكم ذاتي تابع للدولة الإسلامية ولهم الذمة وعليهم الجزية، ولا يحق لهم بموجب هذا العقد التحالف مع فارس ولا مع الروم.

 وكأنّ الصهاينة استفادوا من حكمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فقاموا بتحييد مصر وإخراجها من الصراع، ثم بتحييد الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية التي تعاونت بعد ذلك معهم في مواجهة حركات المقاومة، ثم بضرب طوق وحصار على غزة، واستفادوا من فترة الأمن هذه فزادوا من قوتهم وأنقصوا من قوة العرب الذين ازدادوا على أيديهم تمزقا وتشرذما، ولم تَضِنّ في مقابل ذلك بسيناء تعطيها لمصر منزوعة السلاح، وبحكم ذاتي تزجيه لمنظمة التحرير لا سيادة له ولا سلطان، وبسلم مؤقت من جهتها ودائم من جهتنا ترخيه فوق عروش الملوك والرؤساء مشروطا بوضع اللجام في الحنك.

 لقد حققت إسرائيل في ظل هذا الأمن والاستقرار سبقا كبيرا في مجال التسلح، فقد أعد مركز مكافحة انتشار الأسلحة النووية التابع لسلاح الجو الأمريكي تقريرا عام 1999م أورد فيه أن إسرائيل تمتلك 400 قنبلة نووية فيها قنابل هيدروجينية، وأنها أنجزت في عام 1995م قنابل نيتروجينية وألغام نووية وقنابل الحقيبة، وأشار التقرير إلى امتلاك إسرائيل لـ50: 100 صاروخا من نوع يريحو 1 و 30: 50 من نوع يريحو 2 هذا بالإضافة إلى أعداد هائلة من القنابل النووية الصغيرة والتكتيكية والأسلحة الكيماوية والبيولوجية والصواريخ البالستية ([16])، أمّا ما بلغته اليوم من القوة والتسليح بعد مرور عقدين على ذاك التقرير فحدث عن بني إسرائيل ولا حرج.

واليوم ترتب لبناء الهيكل على أنقاض المسجد، ولفرض الدين الإبراهيمي على الشرق الأوسط، ولصفقة القرن التي تفضي إلى تفردهم بالقدس عاصمة موحدة، وتفردهم بالقيادة للمنطقة برمتها، وفي سبيل ذلك تخطو خطوة أوسع في التطبيع مع دول عربية في المحيط البعيد عن المواجهة؛ لكي تكون حلفا تقوده بنفسها في مواجة أي قوة أخرى في المنطقة يمكن أن تكون عائقا أمام مشروعها الكبير، ويومها سيكون نتنياهو هو لورانس العرب الجديد.

وسوف تقوم معهم أمريكا في هذا الشأن، ولن يمنعها عن ذلك تغير الرؤساء ولا تقلب نظم الحكم؛ فأمريكا وإسرائيل بالنسبة للعرب كعمدة الحيّ الظلوم وولده المدلل الخشوم، وهذا أمر بدهيّ؛ لأنّ المنطلق العقائديّ واحد والغاية كذلك واحدة.

* تقول الكاتبة الأمريكية غريس هالسل: “سألت البروفيسور (غوردون والتي) عالم الاجتماع:

هل من الأخلاق إعطاء المال لإسرائيل لإبادة الفلسطينيين؟

 فأجاب: “… إنّ الإنجيليين الأصوليين الذين يجمعون الأموال لتدمير المسجد يمارسون نفس العقيدة التي مارسها أجدادهم من قبل … وكما أنّ بعض المستوطنين المسيحيين وجدوا أنه من الصواب قتل الهنود الحمر فإنّ بعض المسيحيين يجدون الآن أنّه من الصواب تقديم المال إلى الصهاينة الذين يقتلون الفلسطينيين”([17]).

*ونقل الدكتور يوسف حسن عن كارتر قوله أمام الكنيست:

“لقد آمن سبعة رؤساء أمريكيين ، وجسدوا هذا الإيمان بأن علاقات الولايات المتحدة الأمريكية مع إسرائيل هي أكثر من علاقة خاصة، بل هي علاقة فريدة ؛ لأنها متجذرة في ضمير وأخلاق ودين ومعتقدات الشعب الأمريكي نفسه، لقد شكل إسرائيلَ والولاياتِ المتحدةَ الأمريكيةَ مهاجرون طليعيون ونحن نتقاسم تراث التوراة”([18])

*كما نقل عن ريجان قوله لرئيس الإيباك: “حينما أتطلع إلى نبوءاتكم القديمة في العهد القديم وإلى العلاقات المنبئة بهرمجدون أجد نفسي متسائلا عمّا إذا كنّا نحن الجيل الذي سيرى ذلك واقعاً، ولا أدري إذا كنت قد لاحظت مؤخرا أيا من هذه النبوءات، لكن صدقني إنها قطعا تنطبق على زماننا الذي نعيش فيه”([19]).

    وكارتر الذي قال هذا الكلام هو الرئيس الأمريكيّ الذي أشرف إشرافا كاملا على معاهدة كامب ديفيد، وريجان هو الرئيس الذي تلاه على حكم أمريكا فباشر إتمام الصفقة و، ابتدأ الحوار مع الدول العربية الأخرى، وكل منهما يمثل مدرسة، فكارتر ديمقراطيّ وريجان جمهوريّ، فلا فرق بين الحمائم والصقور؛ لأنّ الخطوط العريضة لاستراتيجية التحالف الصهيوني الإنجلوسكسونيّ مهيمنة تماماً على السياسة الأمريكية.

وكذلك لا فرق بين الحمائم والصقور في استراتيجية الصهاينة المرنة للوصول إلى حلمها الكبير، فالتغيير في الخطط لا يعني تغيير الاستراتيجية والمشروع؛ « كشف إسرائيل شاحاك رئيس رابطة حقوق الإنسان الإسرائيلية عن هدف المخطط الصهيوني بقوله: إن السيطرة على الشرق الأوسط هدف كل السياسات الإسرائيلية، وإن هذا الهدف مشترك بين كل الحمائم والصقور على السواء، وإن كان الاختلاف بينهم على الوسيلة: بالاحتلال أم بالسيطرة الاقتصادية؟»، وهو المعنى نفسه الذي ذهب إليه شيمون بيريز عندما قال: إن إسرائيل تواجه خيارا حادا: فإما أن تكون إسرائيل الكبرى اعتمادا على عدد الفلسطينيين الذين تحكمهم، أو أن تكون إسرائيل الكبرى اعتمادا على حجم السوق التي تحت تصرفها»([20]).


([1]) اتفاق كامب ديفيد وأخطاره .. عرض وثائقيّ – مؤسسة الدراسات الفلسطينية – ط أولى 1978م – بيروت – لبنان – صــــ126

([2])اتفاق كامب ديفيد وأخطاره .. عرض وثائقيّ – مؤسسة الدراسات الفلسطينية – ط أولى 1978م – بيروت – لبنان – صــــ 127

([3]) اتفاق كامب ديفيد وأخطاره .. عرض وثائقيّ – مؤسسة الدراسات الفلسطينية – ط أولى 1978م – بيروت – لبنان – صــــ 128

([4]) التطبيع الإماراتي الإسرائيلي .. الجذور والدوافع والآثار –  مركز رؤية للتنمية السياسية Send an email8 سبتمبر، 2020 – عرفات الحاج

([5]) التطبيع الإماراتي الإسرائيلي .. الجذور والدوافع والآثار –  مركز رؤية للتنمية السياسية Send an email8 سبتمبر، 2020 – عرفات الحاج

([6]) التطبيع استراتيجية الاختراق الصهيونيّ – غسان حمدان – دار الأمان – بيروت – لبنان – ط أولى 1989م صــــ97

([7]) راجع: التطبيع استراتيجية الاختراق الصهيونيّ – غسان حمدان – دار الأمان – بيروت – لبنان – ط أولى 1989م صــــ154

([8])  راجع: التطبيع استراتيجية الاختراق الصهيونيّ – غسان حمدان – دار الأمان – بيروت – لبنان – ط أولى 1989م صــــ155-163

([9]) راجع: التطبيع استراتيجية الاختراق الصهيونيّ – غسان حمدان – دار الأمان – بيروت – لبنان – ط أولى 1989م صــــ164 وما بعدها

([10])راجع: التطبيع استراتيجية الاختراق الصهيونيّ – غسان حمدان – دار الأمان – بيروت – لبنان – ط أولى 1989م صــــ176 وما بعدها و راجع: اتفاقيتا كامب ديفيد ومعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل – أحمد علي حسن – مكتبة الآداب – القاهرة – ط الثانية 2012م – صـــ30 وصـ 71:73

([11]) السلام الضائع في اتفاقيات كامب ديفيد – محمد إبراهيم كامل – ط أولى 2002م – مركز الأهرام – القاهرة – صـــ476

([12]) أخطار التطبيع العربي مع العدو الصهيوني – عبد القدوس الهاشمي – مدونات الجزيرة –  8/6/2017

([13])أخطار التطبيع العربي مع العدو الصهيوني – عبد القدوس الهاشمي – مدونات الجزيرة –  8/6/2017

([14]) ر: أحكام المعاهدات في الشريعة الإسلامية – خالد رشيد الجميلي – الجزء الأول – ط أولى 2008 – مركز الدراسات الإسلامية صــــ160

([15]) ر: راجع الوثائق السياسية لحميد الله ص وأحكام المعاهدات في الشريعة الإسلامية – خالد رشيد الجميلي – الجزء الأول – صــــ160

([16]) انظر: مجلة البيان عدد 185، (ص62)، مقال للدكتور عز الدين المفلح.

([17]) النبوءة والسياسة – جريس هالسل – ترجمة محمد السماك – دار الشروق – القاهرة – ط ثانية 2003م – صــــ 89

([18]) البعد الديني في السياسة الأمريكية – د. يوسف حسن – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – ط أولى 1990م صـــــ 76

([19]) البعد الديني في السياسة الأمريكية – د. يوسف حسن – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – ط أولى 1990م صـــــ 172

([20]) كامب ديفيد وتكريس الهيمنة اليهودية البروتستانتية على العالم الإسلامي، حسن الرشيدي (مجلة البيان)، العدد 154 (ص110)، جماد الآخرة 1421- سبتمبر 2000.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى