مقالات

سد النهضة: مصر وافريقيا بين الماضي والحاضر والمستقبل ، العلاقات المصرية الإفريقية “2”

محمد شريف كامل

مدون وكاتب مصري
عرض مقالات الكاتب

لا يغيب عن أحد أن أفريقيا هي العمق الاستراتيجي لمصر، وقد أدرك ملوك الفراعنة ذلك، كما أدرك ذلك محمد على وجميع الحكومات المصرية المتعاقبة حتى وقت قريب، ولا يخفى علينا أن الأعداء قد أدركوا ذلك بذات القدر ويزيد، ولم يقتصر هذا العمق الاستراتيجي على نهر النيل وحسب، بل كان نهر النيل هو أهم ما في الأمر لكون مصر دولة مصب وليست أرض للمنبع.

وقد لعب الاستعمار دور كبير في استنزاف موارد قارة أفريقيا السمراء، ولكن كان هناك أثر جانبي لذلك فصراع بريطانيا مع الدول الاستعمارية الأخرى مثل فرنسا وايطاليا وبلجيكا هو ما أنتج اتفاقيات توزيع مياه النيل وهو ما ألقى الضوء على ضرورة احترام حقوق دول المصب وهو ما ساعد على فتح ملف المجاري المائية المشتركة.

وحتى لا يتصور البعض من أنصار الاستعمار أن للاستعمار منافع، فإن الاستعمار لم يقم بذلك حبا في شعوب المستعمرات وحرصا على مواردها ومستقبلها، ولكنه قام بذلك كجزء أساسي في استغلاله لتلك البلاد وثرواتها وأهلها، وعندما تتعارض المصلحة فالاستعمار على أتم استعداد للتفريط في مصالح أي من تلك المستعرات وأقرب مثل على ذلك أنه لم ينفذ تعهداته ولا الاتفاقيات الخاصة بنهر النيل حين شرع في مشروع إنشاء محطة توليد الكهرباء من مساقط شلالات أوين بأوغندا إلا عندما ذكرته الحكومة المصرية بالالتزام وطالبته التأكد من تطبيق القواعد المتفق عليها والتي تحمى مصالح مصر.

وقد شكلت عدة ملفات الأُطر الرئيسية لتلك العلاقة، فكانت علاقة مصر والسودان أحد أهم تلك الملفات، وكذلك مشروع التحرر الوطني الذي انطلق عقب الحرب العالمية الثانية، والصراع مع الاستعمار الاستيطاني الذي تمثل في العديد من دول القارة وفي مقدمتها الجزائر والكونجو، وبلا شك جنوب افريقيا وزيمبابوي (رود يسيا البيضاء).

وهناك بلا شك بعد أخر وهو الصراع على ما يعرف باسم القرن الأفريقي وباب المندب، وهذا أمر يطول شرحه وسنتناوله في مقال تالي.

وظل أهم هذه الملفات هي علاقة مصر والسودان، فقد ربطت مصر والسودان علاقات قوية مشتركة غلب عليها التفاهم وشابها الخلاف، وكانت النقطة المحورية في العلاقات المصرية السودانية هي استقلال السودان والذي تضاربت حوله الآراء، واعتبره البعض انفصال، علما بأن الانفصال لا يأتي إلا بعد وحدة وهذا مالم يكن.

في بداية القرن التاسع عشر، وتحديدا في عام 1821 أرسل محمد علي جيشه في محاولة لإعادة السودان لدولة الخلافة، وفى عام 1881 قامت ثورة المهدي الأولى للتخلص من الخلافة العثمانية، ووقعت معارك متعددة مع الجيش المصري حتى سيطر الثوار في عام 1885 على الخرطوم وأعلنوها عاصمة السودان.

وفى عام 1896 تدخلت الجيوش البريطانية مباشرة انتقاما لمقتل جورج جوردون القائد البريطاني، وبلا شك كان الجنود المصريين هم عصب ذلك الجيش، وهزمت دولة المهديين وتم رفع العلمين البريطاني والمصري في عام 1899 وأعلنت الحماية البريطانية المصرية المشتركة، وتم توقيع اتفاقية الحكم الثنائي المصري البريطاني على السودان.

وأورثت تلك الاتفاقية عدة مشاكل، أولها ان ذلك الاتفاق أخذ شكل احتلال واضح، واُضيفت له إشكالية ترسيم الحدود على خط عرض 22 درجة شمالاً، وهذا بلا شك دليل على أنه لم تكن هناك وحدة، وذادت المشكلة تعقيدا بقرارات وزارة الداخلية المصرية بتعديل الحدود لتسهيل حركة القبائل وهو ما تسبب فيما نعيشه الأن من مشكلة حلايب وشلاتين.

وتطورت الأمور بعد ذلك، فبعد مقتل السير لي ستاك عام 1924 تم طرد الجيش المصري من السودان، وبعد إلغاء معاهدة 1936 التي مثلت استقلال صوري لمصر عن بريطانيا، وتحديدا في عام 1937 وافق مصطفى النحاس على طلب منح السودان حق تقرير المصير، واتفقت بريطانيا ومصر على منح حق تقرير المصير للسودان بعد فترة حكم ذاتي للسودانيين.

وفى عام 1951 صوت مجلس النواب السوداني بالإجماع على الانفصال عن مصر، وفى ذات العام أقرت مصر بذلك في الامم المتحدة، وصدر مرسوم مصطفى النحاس بأن يكون للسودان دستور منفصل عن دستور مصر، والغريب أن ذلك قد كله تزامن مع مفاجئة تسمية الملك فاروق نفسه ملكا على مصر والسودان، وهو الأمر الذي اعترضت عليه بريطانيا واستخدمته في مفاوضتها مع مصر بخصوص توقيع اتفاقية دفاع مشترك في منتصف عام 1952، وتحديدا في 7 يوليو. ولم تكن هذه أول محاولة لملك مصر في إعلان نفسه ملكا على مصر والسودان، فقد حاول الملك فؤاد ذلك من قبل في عام 1922 إلا أنه تراجع عنه فورا للرفض البريطاني والسوداني.

ومن المعلوم أن مصر أصرت على أن يكون حق تقرير مصير السودان جزء من في مفاوضات الجلاء البريطاني عن مصر، ومع تقدم محادثات الجلاء وتوقيع الاتفاقية مع بريطانيا، كان من الطبيعي أن تتقدم مطالب السودان بالاستقلال وقد أقر البرلمان السوداني ذلك وأعلنه رئيس الوزراء إسماعيل الازهري خلال جلسة البرلمان في مطلع يناير 1956، ورغم عدم رضاء مصر الذي جاء من جانب واحد، عن هذا القرار إلا انها لم تجد مفر من قبول ذلك خاصة وأنها كانت ترفع شعارات التحرر وحق تقرير المصير.

وحرصا على استمرار العلاقة الأخوية بين البلدين قررت مصر استمرار عمل المؤسسات التعليمية والثقافية المصرية في السودان، كما قررت ترك أسلحة الجيش المصري المغادر للسودان هدية للجيش السوداني، وقد كان ذلك من دوافع تحسن العلاقة الذي جاء أثره الإيجابي واضح في مفاوضات بناء السد العالي وتوقيع اتفاقية 1959 والتي حددت بوضوح موافقة السودان على التعاون مع مصر في بناء السد العالي وكذلك الاتفاق على توزيع مياه النيل.

ولم تكن العلاقة المصرية السودانية هي المحور الأوحد في العلاقات المصرية الأفريقية، ولكننا نركز هنا على الأمور المتعلقة بنهر النيل والمؤثرة في أزمة سد النهضة، ولذا أنتقل هنا للحديث عن العلاقة مع الكونجو ودور مصر في طريقها للتحرر من الاستعمار البلجيكي، ومع دخول الكونجو في عام 1960 مرحلة الاستقلال انخرطت في الحرب الأهلية، ووقفت مصر على الحياد في ذلك الصراع ولكنها وقفت مع زعيم حركة التحرر والوحدة “باتريس لومومبا” والذي خذلته فيما بعد التدخلات الأمريكية والموقف السلبي لقوات الأمم المتحدة خاصة بعد اغتيال سكرتير عام الأمم المتحدة “داج همرشولد” الذي اغتيل عمدا لإخراج الأمم المتحدة من المعادلة وتسهيل الانقلاب، وظل دور مصر محوري، ومازال شعب الكونجو رغم التقسيم والصراعات الداخلية يشعر بالامتنان والعرفان لدور مصر.

ولكن ماهي علاقة الكونجو بنهر النيل؟ بالإضافة لدور مصر التحرري في افريقيا فقد مثلت الكونجو بعداً استراتيجيا هاماً وخاصاً، فمن المعلوم أن نهر الكونجو وهو ثاني أطول نهر في أفريقيا والذي يقع بالكامل داخل جمهورية الكونجو الديمقراطية، التي عرفت في فترة باسم زائير، ولا تستفيد الكونجو من مياه النهر التي يضيع منها ما يزيد عن ألف مليار متر مكعب سنويا في مياه المحيط الأطلنطي، وهو ما يمثل أكثر من 90% من وارد المياه ولا يوجد إي طاقة استيعابيه له.

لم يغب عن مصر أن اتفاقيات تقسيم مياه نهر النيل بين دول المنبع والمصب سيأتي يوم وتحتاج لإعادة دراسة، خاصة وأن أثيوبيا والتي تعتبر مصدر مصر الرئيس من المياه لديها مشروعات للتنمية ستحتاج معها لإقامة السدود، وهو أمر له تاريخ طويل، ولذا ولدت في منصف الستينات ومع قرب الانتهاء من مشروع السد العالي فكرة ربط مياه نهر الكونجو بنهر النيل والتي بها يمكن الاستفادة من النهر الذي تضيع مياهه سدى ويساعد ذلك في زراعة ملايين الأفدنة في مصر والسودان وكذلك يتم توليد الطاقة في الكونجو لخدمتها وخدمة الدول المحيطة، إلا أن هذا المشروع قد وئد بعد حرب 1967.

وكان دور مصر التحرري وإنشاء منظمة الوحدة الأفريقية عام 1963، ودور تلك المنظمة المساعد في حركات التحرر والتنوير، ورفضها وأغلب دول افريقيا أن تعترف بالاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين، وكان من العوامل الأساسية لإصرار الحملة الصهيونية على التغلغل في افريقيا لفتح مجالات لها ولضرب العمق المصري هناك، وهذا ما نخصص له المقال التالي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى