صحافة

حماس» و«فتح» والنظام السوري: نهج التعرّج ومسلك التقلّب

استفظع البعض، ليس في أوساط سورية فقط بل فلسطينية أيضاً، تصريح أسامة حمدان، ممثل حركة «حماس» في لبنان، الذي يشكر فيه بشار الأسد على موقفه الداعم للقضية الفلسطينية، معتبراً أنّ هذا «ليس غريباً ولا مفاجئاً». من جانبه قال خالد مشعل، رئيس الحركة في الخارج: «في الوقت الحاضر لا توجد اتصالات مع دمشق. مكثنا فترة في دمشق وكانت فترة ذهبية في الدعم الرسمي والشعبي». وأضاف: «نتمنى أن تستقر الدولة السورية لكل أبنائها ولسنا طرفا في أي أزمة، بعيداً عن الاستقطاب الطائفي والعرقي والديني. نستطيع أن نتعايش ونخوض معاركنا معاً».
مواقف التعرّج والتقلّب الانعطاف والارتداد، إلى الحال ونقيضها على منوال الـZigzag في التوصيف الأوضح، ليست جديدة على الحركة؛ بصدد النظام السوري أوّلاً محددة، ثمّ إيران بدرجة تالية، ونظام عبد الفتاح السيسي في مصر ثالثاً، فضلاً عن الولايات المتحدة رابعاً، واللائحة طويلة وليست البتة قصيرة. طريف، إلى هذا، أنّ شكر حمدان لرأس النظام السوري نهض، بصفة حصرية وبناء على إلحاح المذيع السائل، على لقاء الأسد مع عدد من قادة الفصائل الفلسطينية (حركة الجهاد الإسلامي، الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة، الجبهة الشعبية، الجبهة الديمقراطية، الصاعقة، النضال الشعبي، فتح الانتفاضة، جبهة التحرير، حركة فتح)؛ لكنّ «حماس» لم تكن مدعوة، ولم يكن شاقاً استدعاء حمدان نفسه من بيروت إلى دمشق لحضور الاجتماع.
ولأنّ الشيء بالشيء يُذكر، ويذكّر، فإنّ صفحة الأسد على «تويتر» ما تزال تحمل تلك التغريدة الشهيرة، التي تعود إلى عام 2016: «كنّا ندعم حماس ليس لأنهم إخوان، كنّا ندعمهم على اعتبار أنهم مقاومة، وثبت فى المحصلة أن الإخونجي هو إخونجي في أي مكان يضع نفسه فيه». وأمّا الإخونجي الأوّل المقصود بهذا الفرز، فهو مشعل نفسه وشخصياً، ليس لأنه كان جليس الأسد طوال إقامة قيادة الحركة في سوريا، وحتى مغادرتها أوائل سنة 2012، فقط؛ بل كذلك لأنّ ما سيتكشف ذات يوم من وثائق الانتفاضة السورية سوف يُظهر أنّ مشعل كان، في سنة 2011 وبعد أسابيع قليلة على انطلاق الانتفاضة، رسول الأسد إلى وجهاء الغوطة للتوسّط حول وقف امتداد التظاهرات إلى الأحزمة الشعبية (الإسلامية، غالباً وتاريخياً) التي تطوّق العاصمة دمشق.
خلال الفترة ذاتها، تمّ اغتيال كمال غناجة، القيادي الحمساوي الذي تُجمع معظم المعلومات أنه كان رجل الظلّ الذي ينوب عن محمود المبحوح(اغتالته الاستخبارات الإسرائيلية في دبي خريف 2010)؛ مع فارق أنّ تصفية غناجة جرت في بلدة قدسيا على تخوم دمشق، وذلك حين كانت مدرعات اللواء 105، التابع للحرس الجمهوري، تحاصر قدسيا. وكما طوى «حزب الله» اللبناني أمر التحقيق في اغتيال عماد مغنية في قلب العاصمة السورية، سنة 2008، فإنّ «حماس» طوت اغتيال غناجة رغم أنها كانت قد التزمت بإجراء تحقيق شفاف وإعلان النتائج. هنا أيضاً، وعلى منوال ما سيشهده مخيم اليرموك الفلسطيني من فظائع ارتكبها النظام السوري، ابتلعت «حماس» الإهانة فوق الجرح، وجنحت إلى خيار الـZigzag إياه، وكفى الله المؤمنين شرّ الخصومة مع إيران/ عبر مخاصمة الأسد!
حركة «فتح» شقيقة «حماس» والشقّ الأوّل في المعادلة التنظيمية والسياسية والحكومية التي تتسيد المشهد الفلسطيني الداخلي اليوم، ليست أقل تعرّجاً وتقلّباً وانعطافاً وارتداداً بصدد الموقف من النظام السوري؛ خلال فترة رئاسة محمود عباس بصفة أخصّ؛ التي كانت أيضاً واحدة من أسوأ مراحل تكلّس الحياة الداخلية في «فتح». ولقد شهدت أيضاً انكماش الخيارات الداخلية والإقليمية والدولية، وانحطاط مدوّنة المقاومة والتاريخ النضالي الفتحاوي إلى حضيض غير مسبوق من الانعزال عن الشارع الشعبي الفلسطيني، والارتهان إلى مؤسسات السلطة، واستئناس الفساد أو الانخراط في ميادينه المختلفة.

وحين تلقت «فتح» صفعة شعبية كبرى في الانتخابات التشريعية اليتيمة سنة 2006 حين حصدت «حماس» 76 مقعداً وتركت لـ«فتح» 43 مقعداً؛ لم تكن هذه الأغلبية ناجمة عن تفضيل شعبي للحركة الأولى على الثانية، بقدر ما كانت عقاباً للثانية عبر تعزيز الأولى. ولقد قيل يومذاك، على ألسنة الكثيرين في «فتح» أساساً، إنّ حكومة اسماعيل هنية التي نجمت عن الانتخابات هي استطالة بيروقراطية للجهاز الأمني ـ العسكري الحمساوي؛ وتغاضى القائلون عن حقيقة أنّ حكومة سلام فياض انقلبت، بدورها، إلى استطالة بيروقراطية للجهاز الرئاسي الذي سكت تماماً، لكي لا نقول إنه شجّع، الذروة القصوى الدموية التي بلغتها أجهزة محمد دحلان في غزّة، اقتفاءً للغرض الحمساوي ذاته في الواقع: إبطال الفعل الديمقراطي الشعبي الذي جاء بـ«حماس». واستطراداً، إذا جاز اعتبار حكومة هنية حمساوية أصولية صاحبة أجندات إيرانية وسورية، ألم يكن من الجائز اعتبار حكومة فياض فتحاوية انتهازية صاحبة أجندات إسرائيلية وأمريكية وأوروبية؟
وحين وقع «انقلاب غزّة» الشهير، وتغدى الحمساويون بفتحاويي محمد دحلان قبل أن يتعشى الأخير بهم، تحدث محمود عباس عن «مخطط» وصفه هكذا: «سلخ غزة عن الضفة الغربية وإقامة إمارة أو دويلة من لون واحد يسيطر عليها تيار واحد من ميزاته التعصب»؛ وذلك «لتحقيق حلم مريض وأهوج في إقامة إمارة الظلام والتخلف، والسيطرة بقوّة الحديد والنار على حياة أبناء غزة وفكرهم». ولكن… ما الذي كانت كانت الإمارات الأخرى، الفتحاوية هذه المرّة، حيث الفساد والنهب والقهر، تسعى إلى تحقيقه؟ الحلم النظيف المستنير المعافى، بدولة الحقّ والخير والجمال؟ وعباس، الذي ألمح إلى ارتباطات «حماس» الخارجية، لماذا تناسى أنه زار دمشق لا ليبيع الزيارة (حتى في بُعدها الرمزي المحض) إلى الولايات المتحدة ودولة الاحتلال، أو ليساوم عليها مع بعض الأطراف العربية، فحسب؛ بل أساساً كي يعيد تسويق دور ما للرئاسة الفلسطينية في ما يخصّ الحوارات الأعرض نطاقاً مع طهران ودمشق، وكي لا يكون مشعل هو الضيف الوحيد على تلك الحوارات.
على مستوى «فتح» الحركة، إذْ قد يساجل بعض الفتحاويين طيّبي القلوب بأنها «مستقلة» عن السلطة، في سنة 2013 سافر الأخ شريف علي مشعل (عباس زكي، في ألقاب نضالات أيام زمان!) إلى دمشق، مبعوثاً من عباس؛ وشدّد هناك على «تضامن الشعب الفلسطيني مع سوريا في مواجهة العدوان الذي تتعرّض له» وأنّ «استهداف سوريا استهداف للأمة العربية، لأنّ ما يجري من استنزاف لمقدّرات شعبها وجيشها يأتي في سياق مخطط أكبر يرمي إلى تقسيم دول المنطقة وإضعافها خدمة لمصالح إسرائيل». وحين كان مخيّم اليرموك يخضع للحصار والتجويع، لم يجد زكي أيّ حرج أخلاقي في القول: «الأحداث التي تشهدها سوريا لم ولن تغيّر نهجها إزاء أشقائها الفلسطينيين الموجودين في سوريا، بل زادتهما لحمة وتماسكاً في مواجهة الاعتداءات الإرهابية التي تستهدفهما معاً»!
وحين كان الأسد يستقبل ممثلي الفصائل في دمشق، كانت أجهزة الأمن العسكري وعناصر ميليشيا «أبو الفضل العباس» تنفّذ حملات اعتقال واسعة في خان الشيح، الذي تقطنه غالبية من اللاجئين الفلسطينيين؛ وذلك لأنّ بعضهم، حمساويين وفتحاويين كما للمرء أن يتخيل، حاولوا التظاهر تضامناً مع القدس وغزّة ضدّ العدوان الإسرائيلي. لا «فتح» محمود عباس وعباس زكي وعزام الأحمد، ولا «حماس» خالد مشعل وإسماعيل هنية واسامة حمدان، رمت النظام السوري بوردة؛ مع التنويه بأنّ الذريعة الكبرى لدى الحركتين، بصدد تبرير نهج التعرّج ومسلك التقلّب، هي تلك التي تلحّ على أنهما ليستا… على كوكب آخر!

المصدر : القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى