دين ودنيا

ثورة التجديد والسنن الكونية

د. حسين محمد الكعود

دكتوراه في العقيدة الإسلامية
عرض مقالات الكاتب


إن رياح التغيير التي هبت على صحراء القلوب، وسفينة التجديد في صفحة الكون العابسة، غيرت معالمها وحسَّنت أحوالها، وساهمت في زرع بذور الإيمان التي استظلت بها الأمة على مر الزمان، كانت تسير وفق منهج اختارته الحكمة المحمدية في معالجة الأمور ومواجهة الظروف التي واجهت الدعوة في جميع مراحلها فكان من أبرز سماتها:
1ـــ الالتزام بالسنن الكونية
لقد شاءت مشيئة الله رب العالمين أن يجري أمر هذا الدين، بل أمر هذا الكون على السنن الجارية، لا على السنن الخارقة، دفعاً للتقاعس من الأجيال اللاحقة، والتي قد تتذرع بقولها: إنَّ الأولين نُصِروا بالخوارق، فتفتر همتهم عن واجبهم المقدس في نشر هذا الدين والذود عنه ، وهذه الحال تدب في القلوب إذا تراكم في طريقها الأسى والألم. والقرآن الكريم حينما يوجه أنظار المسلمين إلى سنن الله تعالى في الأرض، فهو بذلك يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها، فهم ليسوا بِدعاً في الحياة، فالنواميس التي تحكم الكون والشعوب والأمم والدول والافراد، جارية لا تتخلف، فلا تمضي الأمور جزافاً، ولا تجري الحياة على الأرض عبثاً، إنما تتبع هذه النواميس، وهذه السنن واحدة، فما وقع منها في زمن لا تتخلف عنه في زمان آخر .ولقد علم النبي الكريم ﷺ صحبه فقه هذه النواميس، وبدت في سيرته منهجاً عملياً واضحاً، استقت منه الأمة معالم دربها في النهوض بركب الحضارة إلى سدتها العليا.
2ـــ سُنَّة التدرج
بدأت الدعوة الإسلامية متدرجةً تسير بالناس سيراً دقيقاً، بدأت بمرحلة الاصطفاء، ثم التأسيس، ثم مرحلة المواجهة والمقاومة، ثم مرحلة النصر والتمكين، وما كان يمكن أن تبدأ هذا مجتمعة إلا كانت المشقة والعجز، وما كان يمكن أن تقدم إحداها على الأخرى إلا كان الخلل والإرباك . يقول أبو الأعلى المودودي: «إننا إذا درسنا القرآن الكريم، والسنة المطهرة دراسةً عميقةً، علمنا كيف وبأي تدرج وانسجام تم التغيير الإسلامي في بلاد العرب، ومنا إلى العالم كله على يد النبي ﷺ، فقد كانت الأمور تسير رويداً رويداً حسب مجراها الطبيعي، حتى تستقر في مقرها الذي أراده لها الله عزَّ وجلَّ». ولعل رعاية الإسلام للتدرج هي التي جعلته لا يقدم على إلغاء نظام الرق الذي كان نظاماً سائداً في العالم كله عند ظهور الإسلام، وكانت محاولة إلغائه تؤدي إلى زلزلة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فكانت الحكمة في تضييق روافده، بل ردمها كلها ما وجد إلى ذلك سبيلاً، وتوسيع مصارفه إلى أقصى حد، فيكون بمثابة إلغاء الرق بالتدرج .
3ـــ الإيمان بحتمية التغيير
والإسلام يوم جاء وبزغت شمسه الأولى، وقف في وجهه واقع ضخم، وضع الجزيرة العربية، وواقع الكرة الأرضية، وقفت في وجهه عقائد وتصورات، وقيم وموازين وخرافات، وأنظمة وأوضاع ومصالح وعصبيات. لقد كان بين الإسلام وواقع الناس في الجزيرة العربية، بل والأرض كلها مسافةً سحيقة وهائلة، وكانت النقلة التي يريدهم إليها بعيدة، وكانت تساند الواقع أحقاب من التاريخ، وأشتات من المصالح، وألوان من القوى، كلها وقفت في وجه هذا الدين الجديد .
إن التغيير الذي قاده النبي ﷺ، بمنهج الله تعالى بدأ بالنفس البشرية، وصنع منها الرجال العظماء، ثم انطلق بهم ليحدث أعظم تغيير في شكل المجتمع حيث نقل الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن التخلف إلى التقدم، وأنشأ أروع حضارة عرفتها الحياة.
وارتباط السنة الربانية بالتمكين للأمة الإسلامية واضح غاية الوضوح، ذلك: أن التمكين لا يمكن أن يتأتى في ظل الوضع الحالي للأمة الإسلامية، فلابد من التغيير، كما أن التمكين لن يتحقق لأمة ارتضت لنفسها حياة المذلة، والتخلف، ولم تحاول أن تغير ما حل بها من واقع وأن تتحرر من أسره .
ــــ عَن عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: {{…إنَّما نَزَلَ أوَّلَ ما نَزَلَ منه سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ والنَّارِ، حتَّى إذَا ثَابَ النَّاسُ إلى الإسْلَامِ نَزَلَ الحَلَالُ والحَرَامُ، ولو نَزَلَ أوَّلَ شيءٍ: لا تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقالوا: لا نَدَعُ الخَمْرَ أبَدًا، ولو نَزَلَ: لا تَزْنُوا، لَقالوا: لا نَدَعُ الزِّنَا أبَدًا…}} . وأوَّل ما نَزَل اقْرَأ والمُدَّثِر، ففي كُلٍّ منهُما ذِكْر الجنَّة والنَّار. حتَّى إذا ثاب، أي: رَجَع النَّاس إلى الإسلامِ، واطمَأنَّت نُفوسُهم عليه وتَيقَّنوا أنَّ الجنَّةَ للمُطيعِ والنَّارَ للعاصي نزَلَ الحَلال والحَرام، أشارتْ به إلى الحِكمة الإلهيَّة في تَرتيب التَّنزيل، وأنَّه أوَّل ما نَزَل من القُرآنِ الدُّعاء إلى التَّوحيد والتَّبشير للمُؤمنين والمُطيعين بالجنَّة، والإنذار والتَّخويفِ للكافرينَ بالنَّارِ، فلمَّا تَطَبَّعَت القُلُوبُ على ذلكَ أُنزِلَت الأحكامُ. لقد ربَّت مدرسة القرآن أصحاب النبي الكريم ﷺ، على الثبات والصبر، واليقين بموعود الله عزَّ وجلَّ، ومكنت من قلوبهم عقيدة التوحيد، فعرفوا من القرآن الكريم ربهم جلَّ وعلا وصفاته، ونزهوا عقولهم عما ختل منها، من زيغ وانحراف في حق الله سبحانه قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ {ص:29}. لقد تربى الرعيل الأول ــــ رضي الله عنهم ــــ على فهم صفات الله، وأسمائه الحسنى، فَعَظُمَ الله في نفوسهم، وأصبح رضاه غاية مقصودهم، واستشعروا مراقبة الله الدائمة لهم، فكبحوا جماح نفوسهم عن الزلل، ونزهت مسيرتهم في سبيل دعوتهم من الخلل، فطهرت نفوسهم من دنس الشرك والكفر، وصح اعتقادهم بمولاهم عزَّ وجلَّ بما يليق بجلاله سبحانه وتعالى . قال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ {الزمر:23}.
ولقد صور القرآن الكريم بأسلوبه الفريد الجنة والنار وكأنهم يرونها رأي العين، فسرحت النفوس طمعاً وشوقاً لجنة الخلد التي وصف، وعزفت نفوسهم عما يوردهم النار من معاصي وذنوب. يقول الباري سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ* وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ َيَنظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ* وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثْنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ {الزمر:67-75}. ومثيل هذه الآيات كثير في كتاب الله عزوجل، زاخر بمعانيه التي تشربت بها مدرسة النبوة والتي عَرَّفَت الإنسان بحقيقته، وما اختصته يد العناية الربانية فيه، وما فضل الله به الإنسان عن سائر المخلوقات، من صورة حسنة، وقوام معتدل، ورزقه السمع والأبصار والأفئدة. لقد ميز الله الإنسان بالعقل والإدراك، واختص منهم رسلاً وأنبياء، وعَلِمَ معنى حمل الأمانة التي أنيطت بكاهله، فرسمت نعم الله السابغة معنى فريداً في حب الله له، ودفاعه عمن انتسب بالعبودية إليه، وممن صار من جنده وحزبه سبحانه وتعالى. قال عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ {الأحزاب:72}.
لقد علم الإنسان أنَّ طاعة الله سبحانه هي جوهر الإسلام، وعلم من نفسه أنه قابل للخطأ والنسيان، ونفسه قد تجهل فتصبح من أهل الهوى والعصيان، فتَعَلَّمَ من خطيئة أبيه آدم أثر المعصية، وعلم معنى التوبة إلى الله والإنابة إليه، فتعلم مداخل الشيطان، وأن الحسد والكبر مما يجب الاحتراز منه والابتعاد عنه، وأخذ عهداً عليه أن يتخذ من إبليس عدواً، قال تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ {فاطر:6}. لقد زكت نفوس الصحابة، وارتقت لمعنى الأخوة الحقيقية بين المؤمنين، بل أوجب الإيمان عليه الدفاع عنه، والبذل تجاهه، بقلوب مطمئنة، ونفوس راضية متوكلة على الله سبحانه وتعالى.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. بوركت أنامل خطت هذه الكلمات وبورك فكر يؤمن بحتمية التغيير في حال الأمة … استنهاض الهمم من أهم روافد الدعوة وأجداها. بوركت د حسين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى