منوعات

كيف أُحبب القراءة لأبنائي؟

مصعب الأحمد

كاتب وباحث وشاعر سوري
عرض مقالات الكاتب

كنت أستمع لأحدهم، وقد سألته مذيعة: ما هواياتك؟ فقال لها: (القراءة والسباحة وركوب الخيل)!
وسمعت غير مرة أن ما يقرأه الإنسان الياباني خلال سنة يعادل ما يقرأه العربي خلال ستين سنة! على اعتبار أن صاحبنا يقرأ!
وسألت مجموعة من الشباب الحالم كم كتابا قرأت في حياتك وكانوا عشرة؟ واحد منهم أجاب ثلاثة كتب! ولما استوضحته أكثر تبين لي أنه قرأ قراءة تصفح لبعض الأشياء فقط.
نفهم من ذلك أننا أمة لا تقرأ، وأن القراءة إن كانت لا تعدو أن تكون هواية، وأن بين شبابنا والقراءة بُعد المشرق والمغرب.
ولنحب الشيء ونمارسه يجب أن ندرك أهميته لنا وللأمة وللأبناء، ثم نسير على منهج في تربية الذات على حب القراءة وترويضها، لأن النفس تألف الشيء السهل قليل الكلفة والقراءة ثقيلة في البداية. حتى تصير القراءة عادة لا هواية، أصلاً لا فرعاً، حاجةً لا تسليةً. نافعة دافعة رافعة. من خلال خطوات ضرورية:
الخطوة الأولى
معرفة أهمية القراءة:
مفتاح ذلك أن ندرك نحن أولاً، ونُفهم أبناءنا أن القراءة هي الركن الأول في بناء العقل والتفكير، وهي عمود الخيمة للإنسان المثقف الواعي، وهي وقود العالم، وذخر الباحث، وطريق الهداية، وسبيل الرشد.
عندما تقرأ كلام الله تعالى فأنت تستمع لمخاطب لك يكلمك ويرشدك وينصحك {ومن أصدق من الله قيلاً}؟
عندما تقرأ كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- والأنبياء من قبله فكأنك جلست إليهم، وسمعت منهم ونهلت من فيضهم.
قد لا يمكنك الزمان من مجالسة العظماء قديماً وحديثاً، والحديث معهم والاحتكاك بهم، والغرف من معين عقولهم، لكن القراءة تفعل ذلك!
عندما ما تقرأ ما كتبه أرباب العقول وأصحاب التجارب، وأئمة الهدى أنت بذلك تخالطهم وتجالسهم، وإن بعد الزمان، وشطت الدار.
لا ريب أن تقدُّم الأمم يقاس بمثقفيها وعلماءها ومبدعيها ومفكريها، والسبيل لصناعة هؤلاء العلم وحده، ولا طريق للعلم إلا بالقراءة..
العالم الحديث اليوم بسبب ثورة المعلوماتية أبعد النشء تماماً عن الكتاب والقراءة، وأبعد المدرس أيضاً عنهما، وشغل الناس، حتى كسد سوق الكتب لأدنى مستوياته التاريخية، وهبط مستوى الثقافة، وتدنى منهج التفكير، وصارت الأجيال الحديثة إلا من رحم الله خاوية على عروشها، فارغة إلا من العبث واللعب، وصرت تجد أجسام الجبال وأحلام العصافير، وكأننا بلغنا من أنفسنا مبلغاً لم يحلم أن يبلغه أعداؤنا منا..
نحن أمة اقرأ، ولكننا لا نقرأ.
جلد الذات ليس موضوعنا، لكن معرفة أهمية القراءة هي أساس التوجه لها والانشغال بها.
في هذه الأزمنة راجت الكتب وصارت مجانية بصورة كبيرة، وصار الحصول عليها بضغطة زر ومع ذلك قلَّ القراء، وندر المثقفون وابتعد الناس عنها..

الخطوة الثانية:
ترويض النفس على حب القراءة، ويكون ذلك عبر البداية بقراءة ما ترغبه النفس وتميل اليه أياً يكن! مما لا ضرر فيه، ولو كتب الطرائف والنوادر، والقصص، والأشياء المسلية، لأن الغاية في هذه المرحلة التعوّد على القراءة أكثر من الاستفادة منها.
علما أن في كتب الطرائف والنوادر والقصص ما يفتق الألباب ويحفز العقول، وينمي الملكات. حتى لا يفهم القارئ أن هذه كتب فارغة لا قيمة لها.
ثم مراعاة عدم الإكثار منها في البداية، لكي نراعي أن النفس لم تألف بعد واختيار الأوقات التي ننشط فيها للقراءة، وعدم إكراه النفس عليها مطلقاً، ودون تحديد ساعات معينة وأيام معينة.
حتى إذا ألفت النفس ذلك نحدد مدة معينة للقراءة قليلة، ثم أياما ثم نزيد الصفحات تدريجياً..

الخطوة الثالثة:
قراءة ما أحتاجه لا ما أرغبه، أي بالقدر الذي أستطيع فهمه وعقله، فليست الغاية كثرة القراءة، بل فهم وضبط وإدراك المقروء!
فالمكتبة ذاخرة بالمؤلفات وليس كل الكتب نحتاجها، فلو استثنينا كتب العلوم العميقة، ثم كتب المتخصصين في العلوم، ثم كتب الترف العلمي، ثم السفاهات الشخصية، ثم كتب الانحراف والعقائد الفاسدة، ثم كتب الصحف البائدة، لضاقت الدائرة.
وهنا يلزم المرشد والمعلم القارئ المثقف الواعي لزوم الفريضة المحكمة والضرورة الملحة، الذي يناط به أن يعلمنا كيف نقرأ؟ وماذا نقرأ؟.
وكما أن لممارسي رياضات كمال الأجسام والسباحة مدربين مختصين يعلمونهم كل حركة يفعلونها ضمن نسق معين، وعدد معين، وطرق معينة، حتى يرتقوا بهم تدريجياً، وحتى يجنبوهم خطر الإصابات الخطيرة الكارثية، كذلك ينبغي لمن يتناول الكتب ويمارس القراءة أن يفعل ذلك وهو أحوج إليه أي (المعلم المرشد)، فالكتب فيها الشيء النافع والسم الناقع، فيها الحياة الرغيدة والشقاء المقيم، فيها الهداية والضلال، فيها كل الأضداد. ومعرفة ذلك لا تكون إلا من خلال المرشد الثقة العارف الفاهم.
فما ضل من ضل إلا بسبب أنه تناول العلوم وحده دون معلم، فكان معلمة الشيطان..
تناول الكتب دون معلم كتناول الدواء دون طبيب، كلاهما يتلف الجسد والعقل والروح.
يبدأ بالقراءة كما يبدأ بالدواء النفسي، جرعات خفيفة، ومناسبة للحالة، ثم يتدرج في ذلك في شيء واحد مهمته أن يبني له أساسات متينة وعقائد سليمة، وأفكار متسقة، ومعارف حقيقية حتى إذا اكتمال البنيان وثبتت الأركان وقوية الشوكة، واكتملت المناعة الذاتية، أعطاه الإذن أن يقرأ ما يشاء، عندها يطوف و ينوع المعارف ومعه زاد قوي يدرك فيه الصواب من الخطأ لا تحرفه التيارات المتقلبة، ولا المناهج المنحرفة، ولا الثقافات الملوثة، ولا تعبث به الأفكار السقيمة.
واتفق أني زرت مكتبة الاستاذ عبد الكافي المرعب العامرة وتصفحت بعض الكتب فيها، فرأيته يكتب في بداية كل كتاب توصية لأبنائه وغيرهم (فمثلا: هذا كتاب لا يصلح للناشئ! أو هذا كتاب للمختصين في كذا! أو هذا كتاب لا يستحق القراءة… وهكذا.
أعجبني ذلك فقد يذهب الأب فجأة وتبقى كلماته مسطورة وإرثه موجه.
الكتب كالطعام، منها كثير الدسم والخير والنفع، الثقيل على البدن، ومنها الخفيف اللطيف، ومنها كالفاكهة والحلويات، ومنها ما يزيد الوزن العلمي أو يسبب أمراض العقول والنفوس ومنها داء ومنها دواء. تتنوع الأصناف ولكل وقته وحاجته وكميته. والإسراف في العموم مذموم..
يجب على الأب أن يوفر ذلك لنفسه، ثم إذا تمكن منه وفره لأبنائه ففاقد الشيء لا يعطيه، ثم أن يوفر في البيت مكتبة تألفها الأنظار، وهي أساس من أسس الرياضة النفسية، فالكتاب الإلكتروني جسد بلا روح، كالزوجة الإلكترونية، لا تشفي غلة ولا ترقأ علة، جسم بلا روح، وهو سلاح ذو حدين، ضرورة لا بد منها وكارثة كبيرة إذا بالغ الإنسان في حساب المآلات، فالكتاب الورقي هو الركن الركين من أركان القراءة والمعرفة، ولا ينبغي لطالب علم أن يبتعد عنه، وله غايات منها أن يألف الابن أباه وفي يده الكتاب يجلس إليه لساعات، حتى يحبه كما يحب التلفاز والجوال والهوايات ، فالتعليم بالحال أثبت وأقدر على بلوغ الغاية من ألف تعليم بالمقال.
ومنها أنه يفتح الكتاب وريثما يصل إلى المراد يطلع على أشياء كثيرة فتغريه بقراءتها.
ثم يكافئه ويرغبه ويحاسبه ويعاقبه، لا على القراءة بل على إدارة الوقت، فلا ينبغي للمربي أن يجبر الناشئ على القراءة ويكرهه عليها إلا في بعض النفوس التي لم تنجح معها سبل الترغيب ولفترة معينة، ثم ينعطف معه إلى الترغيب والتحبيب.
هكذا يمكننا أن نصنع أمة قارئة واعية رشيدة ثقيلة، تعرف ما لها وما عليها. وتدرك كيف تؤكل الكتف، لا يستطيع أي مرياع أن يسيرها، ولا أن يقودها حيث يشاء.
أعدى أعداء القراءة المستبدون، لأنهم يدركون أن الجهل يجعل من الناس أنعاماً، يسهل قيادتها، وركوبها، لذلك يفعلون كل ما من شأنه أن يلهي الجيل، ويضيع الأوقات، ويزيد الهوة بين المتعلم والمعلم وبين القراءة والقارئ.
لذا يعمد إلى الأفلام والمسلسلات، والتفاهات فينشرها ويرغب بها، ويبتعد عن أي شيء هادف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى