بحوث ودراسات

المربط الصفوي مقاربات عقدية وسوسيولوجية وسياسية وتاريخية 21 والأخير

أكرم حجازي

كاتب وباحث أكاديمي
عرض مقالات الكاتب

ثانيا: رعب «إسرائيل»

   قد تبدو الدولة « اليهودية» بأحسن حال، في ظل التمزيق الذي تعانيه الدولة القومية في العالم العربي، والحروب الطاحنة التي تدور رحاها في عدة دول، وما خلفته من خسائر هائلة في الاقتصاد والاجتماع والبنى التحتية، المدنية والعسكرية. فلم يعد ثمة جيش عراقي ولا سوري ولا أي جيش عربي يمكن، بالمنطق اليهودي، أن يهددها. بل أن القضية الفلسطينية تراجعت سياسيا على كل مستوى، محلي وإقليمي وعربي ودولي. لكن هل انهيار المربط النصيري وتصعيد المربط الصفوي يصب في صالحها؟ أم يخصم من رصيدها؟

    الواقع أن «إسرائيل» في حالة رعب يصل إلى حد الشعور بالتهديد الوجودي. ففي كل الأحوال، القانونية

 والسياسية والاقتصادية والأخلاقية، تبدو «إسرائيل» في حالة تراجع[1]! وقد يعجب البعض من هذا التقييم،

لكنها الحقيقة التي يدركها اليهود منذ تأسيس الدولة. فمنذ السبي البابلي يعيش اليهود حالة استنفار دائم ليس خشية من العرب والمسلمين بقدر ما هي خشية من عقدة الذات التي تأبى الاندماج في أي جوار ثقافي أو حضاري، وما تخلفه من مشكلات مع البشرية لا تلبث أن تنفجر في شكل اضطهاد مستمر. وبعد إقامة الدولة « اليهودية»، درج المسؤولون اليهود والمثقفين على ترديد عبارات كثيرا ما تكررت على ألسنتهم، من قبيل: « لن يحدث هذا بعد اليوم! نعرف كيف ندافع عن أنفسنا! ما جرى لنا علّمنا أن ندافع عن أنفسنا وحدنا»! لذا؛ فقد سعت «إسرائيل» مبكرا لصناعة الأسلحة المتطورة فضلا عن حيازة السلاح النووي.

   لكن ما يخيف «إسرائيل» اليوم ليس البرنامج النووي الإيراني. فليس بين فارس واليهود صراع وجودي بقدر ما كانت العلاقة على الدوام ودية أكثر مما هي علاقة اليهود بأوروبا وبقية دول العالم. بل أن التراث اليهودي العقدي برمته يدين بوجوده إلى فارس ذاتها. كما أنه ليس بين فارس الأمس وفارس اليوم صراعا وجوديا، مثلما أنه لم يكن ثمة صراع وجود بين روما الأمس وروما اليوم. وبمنطق المصالح وأخلاق الحرب، لم تكن الإمبراطورية الرومانية فرحة بزوال الإمبراطورية الفارسية. وهنا بالضبط تكمن نقطة ضعف «إسرائيل»، وخشيتها التي تصل إلى حد الرعب من بناء المربط الصفوي الفارسي. فهو في كل الحسابات سيكون خصما من رصيد المربط اليهودي. فما من كبير جدوى من المربط اليهودي إذا ما تضخم المربط الصفوي، الذي دائما ما كان يدفع فارس إلى التوجه نحو الداخل الإسلامي، فضلا عن أن « اليهودية» العالمية ستخسر خاصة وأنها باتت تشكل عبءً بالغ الخطورة على الرأسمالية، بالإضافة إلى تآكل منظومة الشرعيات الاجتماعية والسياسية والقانونية والدولية التي حكمت المنطقة خلال المائة سنة الماضية. وهذا يتطلب قوى جديدة أكثر فاعلية من القوى الحالية التي استهلكت فاعليتها وجدواها بفعل ممارساتها المتوحشة طوال عشرات العقود الخالية.

   على مقربة من توقيع اتفاق نووي مع إيران أعلن رئيس حكومة «إسرائيل»، بنيامين نتنياهو، عن زيارة للولايات المتحدة الأمريكية، يلقي خلالها خطابا أمام الكونغرس الأمريكي، يحذر فيه من خطر توقيع الاتفاق. كانت الزيارة آخر المحاولات «الإسرائيلية» لعرقلة الوصول إلى اتفاق. وفي 2/3/2015 قال نتنياهو في خطابه: « إذا كان العالم حريصا على أن تكون إيران جزءً من المجتمع الدولي فلا بد من ضمان ألا تكون مصدرا للإرهاب والرعب لجيرانها وللعالم بأسره»، واتهم إيرانبغزو العديد من بلدان الجوار، مشيرا إلى أنها باتت تسيطر على أربع عواصم عربية.لكن وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، رد عليه في اليوم التالي بالقول: « إن خطاب نتنياهو مكرور وممل .. كرر كل أنواع الاتهامات والأكاذيب ضد إيران في خطابات سابقة … إنه يسعى للتأثير سلبا على المحادثات الجارية بين إيران والقوى الكبرى وهو لا يستطيع ذلك لأن التوتر لا يفيد أحدا». ولأن نتنياهو يعلم أنه يكذب؛ ويعلم أن التاريخ لا يكذب، وأن العلاقات «الإسرائيلية» الإيرانية لم تنقطع منذ عهد فارس مرورا بالشاه وانتهاء بـ « ولاية الفقيه»، فقد جاء رد الرئيس الأمريكي، في حديث للصحفيين أمام البيت الأبيض، بمثابة الصفعة له حين قال: « لم نتوصل إلى اتفاق بعد مع طهران. ولكن إذا نجحنا فسيكون ذلك أفضل شيء ممكن للتعامل مع إيران لمنعها من امتلاك سلاح نووي»[2]. بمعنى أن الولايات المتحدة لن تلقي بالا لأكاذيب نتنياهو، وستمضي قدما في تطبيع علاقاتها مع إيران مهما كانت الاعتراضات « اليهودية».

   فعليا؛ ومن وجهة نظر « إسرائيل» كدولة مهددة بالتراجع إلى مراتب خلفية، فإن: « بنيامين نتنياهو على حق: زيارته الأخيرة إلى واشنطن وخطابه أمام مجلسي الكونغرس الأمريكي، كانا بحق مصيريين وتاريخيين وفق كل المعايير»! هذا ما خلص إليه الكاتب سعد محيو في مقالته المثيرة حول حقيقة المعارضة «الإسرائيلية» لأي اتفاق مع إيران، وما يخلفه من خصومات إستراتيجية، تمس مكانة «إسرائيل» ونفوذها وحتى مشروعها. وبحسب المقالة، فإذا كانت الولايات المتحدة تريد أن تكون الصفقة مع إيران « بداية تحوّل استراتيجي كبير» لتوجّهاتها في الشرق الأوسط وقارة أوراسيا، فإن محور هذا التغيير يتلخص في « إعادة ترتيب أوضاع المنطقة، بحيث تتمكن الولايات المتحدة من تخفيف أعبائها ومسؤولياتها فيها من دون المس بمصالحها الأساسية، ثم لنقل مركز الثقل في نشاطاتها إلى منطقة آسيا – الباسيفيك التي باتت عملياً، المركز التجاري والاقتصادي والعسكري الأول في العالم بدل أوروبا، وذلك للمرة الأولى منذ خمسة قرون. وهذا يتطلب، من ضمن ما يتطلب، الاعتراف بالأدوار الإقليمية للعناصر الرئيسة في هذه المنطقة، والتي شكّلت كل أنظمة الشرق الأوسط السابقة في التاريخ: الإيرانيون والأتراك والعرب، وفي الدرجة الثانية اليهود والأكراد والمسيحيون وباقي الأقليات .. وهذا بالتحديد هو ما تخشاه إسرائيل، لأنه سيعني ببساطة تقويض النظام الإقليمي السابق الذي أقيم غداة الهزيمة العربية في حرب 1967، والذي رسّخ السيطرة شبه المطلقة لإسرائيل على نظام الشرق الأوسط، برعاية أمريكية ومباركة .. من تركيا الأتاتوركية، .. ومن إيران الشاهنشاهية، … ومصر الساداتية … ».

ويتابع الكاتب القول:

  « كل هذا الصرح، النووي والإستراتيجي، سيكون عرضة إلى الانهيار، في حال تم التوصل … إلى اتفاق، ما سيؤدي في الواقع إلى تسديد ضربات قد تكون قاتلة للمشروع الإسرائيلي في حلّته الصهيونية، الذي استند بقضه وقضيضه إلى فكرة تفرّد الدولة العبرية بالتفوق العسكري والإستراتيجي والاقتصادي الإسرائيلي المطلق، في إطار إمبراطورية حقيقية تمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج الفارسي. وهذا ما قد يفسِّر جانباً من الهستيريا الحقيقية التي تنتاب العديد من الدوائر الحاكمة في إسرائيل. فما هو على المحك لا يقل عن كونه تغيير كل البنية الإستراتيجية التي انبثق من ثناياها جل مشروع الدولة اليهودية العام 1948، لكن بخاصة العام 1967»[3].

    لا شك أن الخلاف مع المحافظين على أشده في الولايات المتحدة تجاه البرنامج النووي الإيراني. لكن المشكلات التي تواجهها الولايات المتحدة واحدة، سواء في الداخل الأمريكي أو الخارج. والمشكلات التي يواجهها العالم لم تعد تخفى على أحد، سواء تعلق الأمر بأزمات الرأسمالية أو الشرق الأوسط أو ظهور قوى عالمية وإقليمية كبرى وغيرها، وبالتالي فالصراع داخل أمريكا يتعلق بنظريتين: تتوجه الأولى؛ إلى الداخل بعيدا عن الغرق في المستنقعات العالمية، فيما الثانية ذات طابع أيديولوجي، لا ترى في التخلي عن أدوات القوة المباشرة سبيلا ناجعا للحفاظ على النفوذ والقيادة. وترى الأولى؛ أنه إذا كانت «إسرائيل» قد بلغت قدرا لا بأس به من العجز عن إدارة المنطقة، أو التعامل مع المتغيرات الثابتة ( القضية الفلسطينية)، والجديدة، فلا مفر من أن تفسح في المجال لغيرها. ومع ذلك فقد علق كاتب « الفورين بوليسي»، Dov Zakheim، على ما اعتبره « قراءة خاطئة للشرق الأوسط»، واصفا الرئيس الأمريكي بأنه: « مولع بفكرة أن كل شيء سيكون جيدًا في المنطقة إذا ما تم منح إيران مكانها المهيمن الصحيح، وإذا ما انخفضت إسرائيل إلى ممثل إقليمي من الدرجة الثانية»[4]

   ملاحظة Zakheim فيما يتعلق بخفض مكانة «إسرائيل» هي إحدى أهم ما يرعب الدولة « اليهودية». فالشخصية « اليهودية» إذا ما تراجعت استراتيجيا مرة واحدة فإن التراجع سيسير بمعدل متوالية هندسية. لذا فقد بدت حالة الرعب جلية في أعقاب توقيع الاتفاق النووي مع إيران (14/7/2015)، وما تبعه من عاصفة من الردود التي عكست مشاعر الرعب من تراجع في المكانة، أو فقدان الهيمنة والنفوذ على المنطقة، إلى الدرجة التي دعا فيها الكثير من المسؤولين والكتاب اليهود إلى إقامة تحالفات مع الدول العربية والإسلامية لمحاصرة النفوذ الإيراني. ولا بأس إن كانت هذه التحالفات واقعة في إطار تقاطع المصالح سرا أو علانية، أو

بفعل معاهدة صلح مع «إسرائيل»، أو أنها كتحصيل حاصل لعلاقات قائمة[5].

   ففي اليوم التالي تحدثت صحيفة « يديعوت أحرنوت» « اليهودية» عن واقع إيران ومستقبلها بعد توقيع الاتفاق. ونقلت عما وصفته بمصدر سياسي رفيع قوله أن: « رفع العقوبات يُدخل إلى الخزينة الإيرانية بين خمسمائة وسبعمائة مليار $ في الـ 15 سنة القادمة»، سيجري استغلاله: « لدعم الإرهاب والدول التي ترعاها إيران. ولن يخدم حقوق الإنسان أو الرفاه الاقتصادي، ولن يؤدي إلى تغيير الحكم بل يثبت نفسه». وأشار إلى أنهم في «إسرائيل» يعرفون: « نشاطا إرهابيا إيرانيا في ثلاثين دولة على الأقل. وامتد هذا النشاط إلى دول في أميركا اللاتينية، والولايات المتحدة، ودول أفريقية، وفي جنوب شرق آسيا. ومؤخرا شبكة إرهابية في قبرص يقودها حزب الله وتوجهها إيران»، وأن: « أخطبوط الإرهاب الإيراني يسيطر على المنطقة بأسرها». مشيرا إلى أن: « إيران تدعم حزب الله وحكم الأسد وهي الممول الأساس للحوثيين بالمال، والوسائل القتالية، والتوجيه العسكري. إضافة للنشاط المتزايد في ليبيا … »[6].

   وفي ذات اليوم كتب دان مرغليت في صحيفة «إسرائيل اليوم» مقالة بعنوان: « برعاية أوباما… إيران تتحول إلى القوة العظمى الأقوى في الشرق الأوسط»، قارب فيها بين رئاستين أمريكيتين هما جيمي كارتر وباراك أوباما، مشيرا إلى أنهما تشابها سياسيا فيما خلفاه من أضرار على المنطقة. إذ يرى أنهما: « تسببا في وصول الوحش الإيراني إلى مستوى جعل منه القوة الأكبر في الشرق الأوسط، فكارتر لعب دورا مهما في إسقاط نظام الشاه الذي كان يقمع حقوق الإنسان ويتصرف ببربرية، لكنه فتح الباب أمام الجمهورية الإسلامية بزعامة الخميني، وبعد 36 سنة يمنح أوباما للورثة في طهران مفتاح سياسة الشرق الأوسط». ويخلص في مقالته إلى القول بأن: « الأضرار التي تسبب بها هذان الرئيسان فيما يتعلق بالموضوع الإيراني هي حقيقة واقعة، ومواجهة إرثهما تستوجب من إسرائيل والسعودية ومصر والأردن ودول الخليج وحتى تركيا، البحث عن كيفية التعاون الأمني من أجل كبح طهران، النووية الإرهابية أو الإرهابية فقط، خلال الـ 15 سنة القادمة»[7].

     وفي مقالة له فيصحيفة « هآرتس» بعنوان: « الخيار الأفضل في السوق»، اعتبر أوري بار يوسف « الاتفاق هو الخيار الأفضل في السوق»، بالمقارنة مع خيارات أخرى قاتمة. وبعبارات كاشفة عن نمط التفكير اليهودي قال: إن « احتمال الاتفاق بين إيران والدول الغربية لم يكن في الحسبان»، وبحسبه، فإن: « سبب عدم قبول نتنياهو وإسرائيل بالاتفاق» يرجع إلى: « أننا غير مهيئين نفسيا لقبول إمكانية مواجهة الأخطار الكبيرة بالطرق الدبلوماسية»[8].

    واقع الأمر أن «إسرائيل» فشلت في اعتراض الاتفاق النووي في الكونغرس الأمريكي. ومن باب الثورة السورية، خلص المستشرق اليهودي، أفرايم هراره، إلى قناعة عبر عنها في صحيفة « إسرائيل اليوم»، تقول بأن: « المجتمع الدولي يسعى للمراهنة على الأقلية الشيعية أمام الأغلبية الجارفة، … استكمالا للاتفاق النووي الموقع بين القوى العالمية الكبرى وإيران، واستكمالا للدعم الروسي غير المحدود للنظام السوري وحليفه الإيراني»[9].

   في الحقيقة ثمة مخاوف كبيرة غير تلك الشائعة. فقد حفل اليوم الثاني من مؤتمر معهد أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب، وبحضور عدد من رجالات السياسة والجيش «الإسرائيليين»، في التعبير عن المخاوف من جهة واقتراح الحلول من جهة أخرى. ومن جهتها نقلت صحيفة «إسرائيل اليوم» تصريحات وزير الدفاع، موشيه يعلون، قال فيها: « لو قُدّر لي أن أختار بين خطر تنظيم الدولة أو إيران، فإن الأخيرة أكثر خطورة، لأنها تمتلك بنية تحتية عسكرية في خمس قارات، فضلا عن كون حزب الله هو إحدى أدواتها بالمنطقة، وفي حال شعرت إيران أنها آمنة اقتصاديا فستكون قادرة على إنجاز قنبلتها النووية». لذا، والكلام لوزير الدفاع: بما أن « البنية التحتية الإيرانية الخاصة بالعمليات المسلحة ما زالت التهديد الكبير لإسرائيل»، … فإن « العلاقات الإسرائيلية الأميركية هي الأهم في العلاقات

الخارجية الإسرائيلية أكثر من الاحتفالات ومؤتمرات السلام»[10].

    من جهتها نظرت وزيرة الخارجية «الإسرائيلية» السابقة، تسيبي ليفني، إلى الخطر عبر مقاربة الشرعية السياسية الدولية بين «إسرائيل» وإيران، ملاحظة أن: « إيران باتت تمتلك تجديدا لشرعيتها في العالم، في حين أن إسرائيل تفقد شرعيتها». ولأن «إسرائيل» لا يمكن أن تفلت من الخطر طالما هناك انحياز من النظام الدولي، لاسيما الأمريكي، لصالح إيران، فقد لجأت ليفني إلى مقاربة سياسية إقليمية تقول فيها أن: « هناك فرصا قد تكمن في الاتفاق النووي مع إيران، وقد فرطت إسرائيل في الفرصة الأولى حين اختارت ألا تؤثر على جوهر الاتفاق مع الولايات المتحدة»، … لكن « من المحظور أن نضيع فرصة ثانية في عدم التأثير على تبعات الاتفاق، بإقامة تحالفات مع دول المنطقة، والأهم يجب علينا ألا نفرط في فرصة الانفصال عن الفلسطينيين، حتى نحافظ على إسرائيل آمنة»[11].

    أما خيار وزيرة القضاء، آيليت شاكيد، فقد رأت الحل في إقامة دولة كردية. فبها تخلط «إسرائيل» الأوراق في الدول الأربعة الكبرى التي يتواجد فيها الأكراد، وهي العراق وسوريا وتركيا وإيران. فقد نقل عنها مراسل صحيفة « يديعوت أحرونوت» يوآف زيتون، قولها: « هناك حاجة ماسة لإقامة دولة كردية بالعراق»، وبحسبها فقد: « آن الأوان لإصلاح المعاناة التي واجهها الأكراد، وهو أحد الشعوب الكبرى في العالم وليس له دولة»، وأن: « على إسرائيل المطالبة بصورة علنية لإقامة هذه الدولة الكردية، كي تكون فاصلا بين إسرائيل وإيران وتركيا، من أجل تقوية مواقف الأطراف المعتدلة بالمنطقة»، وبحسبها أيضا: « هذه مصلحة عالمية إستراتيجية واضحة. وإلى أن يتحقق هذا الأمر، يجب على إسرائيل بناء جسور سياسية واقتصادية وثقافية مع الأكراد، كي نرى فيهم شركاء إستراتيجيين في جبهة واحدة، هذا هو الوقت لقيام شراكة مع أكراد تركيا، وأشقائهم في المنطقة كلها»[12].

لا يزال البحث مستمرا …

   مائة عام مضت على معاهدة « سايكس – بيكو»، وتفكيك العالم الإسلامي وإقامة « الدولة القومية» المستوردة من الغرب، وانتصاب « الحكم الجبري» على العالم وفي القلب منه العالم العربي .. مائة عام مضت والدول العربية وشعوبها تتجرع القهر والظلم والاستبداد والغزو، كما لو أنهم كرة يتقاذفها اللاعبون من كل حدب وصوب .. مائة عام مضت .. والعرب عجزة، بكل نظمهم السياسية، وحركاتهم التحررية، وأحزابهم المدنية والثورية، وجماعاتهم الإسلامية، أو شخصيات من أي نوع أيديولوجي، أو حتى ثوار شعبيين … عجزة؛ وهم يتطلعون، وعلى الدوام، لمن مزقهم شرّ ممزق، أن ينتصر لهم، أو يحررهم أو يأخذ بيدهم، ويوفر لهم الحرية والديمقراطية، ويهيئ لهم التمتع بالمال والسلطة والمناصب.


  كلهم، إلا من رحم الله، وقعوا في مواقف مشينة، وتطلعوا إلى تدخلات دولية، وأملوا، منذ اللحظات الأولى، بانتصارات سريعة، وهم على الأرائك متكؤون .. دون أن يكلفوا أنفسهم بدفع ما يلزم عليهم من التكاليف! ولا يبدو أنهم أدركوا أو أنهم معنيين بالإدراك، كما أدرك اليهود والفرس المجوس من قبلهم، أنهم المعنيون الأُوَل في الدفاع عن أنفسهم، بدلا من الاستجارة بمجرمي النظام الدولي. ولا ولعل الأوان يفوت قبل أن يدركوا، ولو لمرة واحدة، قول الله عز وجل: ﴿ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾،  [الحج: 18]؟

   بهمة النخب؛ من الزعامات والقيادات والمثقفين والمؤدلجين على غير هدى، ومعهم الضالين والمضلين والفاسدين والمفسدين وأهل الهوى عامة، .. بهمة هؤلاء جميعا وأمثالهم، من الأسلاف الذين ﴿ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾، [المؤمنون: 53 [، خُدعت الأمة في مائة سنة مرتين. مرة من الخارج، انتهت إلى تقطيع أوصالها، حين أدركت هذه النخب « الاضطهاد العثماني»، وسعت بمعية « الصديقة بريطانيا» إلى الانفصال عن الدولة العثمانية، دون أن تدرك عداوة وبغضاء ملل الكفر، بل وتحالفت معها، ووثقت بوعودها، بل دون أن تدرك وجهتها إلى أين؟ وما يلزمها من أدوات للقوة. فكانت النتيجة حتى اليوم تمزيق العالم الإسلامي، وتشتيته إلى 56 دولة، من بينها 22 دولة عربية، وكل واحدة منها تصف نفسها بـ « دولة القانون»، ذات الجذور الضاربة بعمق التاريخ وما قبله، في حين أن بعضها ولد من العدم، وبلا اسم إلى حين، وبعض آخر لا يحمل اسما حتى هذه اللحظة!!!

     أما الخديعة في المرة الثانية فكانت من الداخل، حين أصر الأخلاف على الدوران في دائرة ﴿ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾، [الروم: 32[، يدافعون عن مكاسب الاستقلال وإنجازاته العظيمة، وكأنه الأصل الأصيل، والركن الركين الذي جاءت به التوراة والإنجيل والقرآن الكريم، متناسين أنه من أصبح في يوم ما جزء من كل لم يكن من عقيدتنا ولا باختيارنا أو من صنعنا، ولا كنا شركاء في توليده، بقدر ما كنا مستهلكين لمنتجات سياسية غربية، أو جسر عبور للقوى المعادية. أما الذين تصدوا لهذا الواقع، وحاربوا الشرق والغرب، من النخب إياها، فهم أنفسهم الذين رفضوا حقوق الشعوب وحاربوها وقادوا الحملات المضادة، ودعموا نظم الاستبداد، وشرّعوا للقتل والسجن والتضييق والاختطاف والاغتصاب والنهب والتشريد والتهجير. لذا ما من فائدة في إدانة هؤلاء أو مقاطعتهم أو فضحهم، بعد كل التخريب والإفساد الذي أحدثوه، والدماء التي سفكوها أو تسببوا بسفكها، والظلم الذي أوقعوه بالأمة مقابل مصالحهم وأهوائهم. وبالتأكيد سيقول البعض: أن التاريخ لن يرحمهم أو يذكرهم إلا بأسوأ ما عملوا!!! ولأنهم لا يحسبون حسابا لرب أو لنبي أو لدين، ولا لأية قيمة أخلاقية أو إنسانية، أو عقل فلن يعنيهم، من قريب أو من بعيد، ما سيقول عنهم التاريخ! لكن التاريخ سيقول: أننا في المرتين استغفلنا وخدعنا، لما صفقنا لعقود طويلة بحماس لأمثال مهرجي « رأفت الهجان» و « الحدود» و « التقرير» و « كاسك يا وطن» و « غربة» و « حرب تشرين» و «الصعود إلى الهاوية» و « الرصاصة لا تزال في جيبي» و « فارس بلا جواد» … تماما كما صفقت ذات النخب من قبل لفرنسا وبريطانيا، ومن بعد لأمريكا وروسيا وإيران.

    بالمقارنة والتجربة؛ تَبيَّن أن « الماركسية» بدت أقل انغلاقا من الأيديولوجيا « القومية»، وبما لا يقارن. ورغم أن الأيديولوجيتان المارقتان انزوتا، وسقطت الماركسية في الحضيض، وتخلى عنها الغالبية الساحقة من معتنقيها، إلا أن الغالبية الساحقة من القوميين العرب، ومعهم بقايا اليسار، والمستنصرين بالرأسمالية و الناتو، أصروا على دوغمائية لا نظير لها. فمهما جادلتهم أو آتيتهم من بينات عقدية وشرعية وحتى موضوعية وواقعية إلا أنهم يأبون مجرد الاستماع إلا وأصابعهم في آذانهم. وكأن الله، عز وجل، قد ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، حتى باتوا لا يبصرون هدى، ولا يسمعون حقا، ولا يفقهون قولا، ولا يعقلون أمرا، ولا يهتدون سبيلا. ويبدو أن بعض القوى الإسلامية التاريخية، بما فيها الفلسطينية، ستحسم موقفها، وستتحمل وزر خطاياها المدمرة، وستعلن رسميا، وعلى الملأ، سحب الغطاء عن الصفوية الجديدة وكل أدواتها، وتجريدها من غطاء المقاومة والممانعة. لكن فقط؛ بعد أن تطويها الأحداث، وتبيت في طي السجلات في الكتب، مجرد قوى بلهاء، إنْ لم تُرمى بالعمالة والخيانة!!! لذا لن يكون عجيبا أن يكون هضم العرب أسهل من غيرهم عند الإيرانيين[13].

   « الهضم»! هو ما ينتظر كل العالم الإسلامي من إيران، التي بات رموز النظام الدولي، خاصة الأمريكيين والروس، يتنافسون على التحالف معها. ومن سخرية الأقدار أنه في الوقت الذي غدا فيه الإيرانيون يفاضلون في التحالف بين الغرب والشرق، نجد من نخب المسلمين من يتحالف حتى مع الشياطين، في مصر والعراق وسوريا واليمن وليبيا، وربما غدا في تونس وغيرها، لقتل أنفسهم! يحدث هذا بينما « المربط الصفوي» يتجذر، ويتمدد كالسرطان في جسد الأمة، مفجرا الصراعات الدموية في عديد الدول القريبة والبعيدة، ومخلفا دمارا هائلا، وحائزا على كل الدعم والحماية الدولية.

    وكالماضي وبأسوأ منه حالا؛ عادت « الإمامية» محملة بتراكمات التاريخ الفارسي المجوسي والعقدي والسياسي والأخلاقي المشين، لمن يزعم أنه يعتقد بحب « آل البيت» فلم يعد ثمة خلافات كبيرة بين فرق « الإمامية» كما كانت في التاريخ. وبات الشيعة وكل قوى الرفض أقرب إلى الالتئام، من أي وقت مضى، تحت سقف « ولاية الفقيه»!!! الغارقة بالتحالفات الغادرة مع النظام الدولي واليهودية العالمية، ماضيا وحاضرا، والمحملة بشتى أدوات القوة الأمنية والعسكرية والإعلامية، لتستحوذ، عبر نيابة « الإمام الغائب»، على مشروعية تمثيل قوى الرافضة في شتى أنحاء العالم. وتشرع ببث تحريفاتها وأساطيرها وخزعبلاتها وشعوذاتها ودجلها عبر عشرات القنوات الفضائية، ووسط تعظيم لا نكران فيه لكفر أو شرك، بقدر ما ينتهي بشهادة زور جماعية عاتية: « اللهم صل على محمد وآل محمد»! حتى لو كان التعظيم والثناء يتعلق بالتطاول نصا على الله عز وجل، أو طعنا بالرسول وبأمهات المؤمنين، أو سبا ولعنا للصحابة الكرام ودعوة للتبرؤ منهم، أو تكفيرا للمسلمين، أو تحريفا في الدين، أو إشاعة لإباحية وفواحش « المزدكية» و « المانوية» و « الحشاشين» و « القرامطة» ورداحي « البويهية» و « العبيديين»، أو ارتكابا لجرائم وحشية بحق الأبرياء، أو تهجيرا لعباد الله وتجويعا للأطفال، وحصارا للمدن، وتدميرا لها وللمساجد والقرى، وتهديدات بالغزو والتدخلات المسلحة، أو تداولا للسخافات وأساطير الجنون المستهدفة لدهماء الشيعة في الحسينيات وعلى منابر الفضائيات.

    كالماضي يدفع الإسلام والمسلمون ثمن الحقد المجوسي، وعقدة النقص الحضارية لدى الفرس، حيث لا لغة تنتج أو توثق، ولا ثقافة، ولا بحر، ولا آثار، ولا خيرات، مما جعل فرس المجوس أقرب إلى التوحش من الاستئناس، وذووا قيم أقرب إلى قيم الهمج والرعاع من أية قيم أخرى، وهو الأمر الذي يفسر توحشهم ماضيا وحاضرا، حيث لا وجود لأية مرجعية أخلاقية أو رصيد معرفي إنساني، يهذب سلوكهم، ويوجه اختياراتهم العقدية والإنسانية والسياسية إلا الغزو والتوسع، والتبجح بميراث غير موجود أصلا. ولما تفتقد أمة إلى هذا الرصيد، فمن الطبيعي أن تلجأ إلى قيم الغدر والخيانة والحيلة والمكر والدهاء، وهو ما تجيده فارس فعلا، وما دأبت عليه قبل الإسلام وبعده، وما تعتبره من مفاخرها!

     كالماضي أيضا تتوجه إيران المجوسية، وكالعادة، نحو الداخل الإسلامي، كما فعلت « الإمامية» وفرقها من قبل. ومع بيان صريح في الخطاب العقدي والسياسي الذي نجد مخرجاته في وقائع الهيمنة والتوسع في العالم الإسلامي، وفي تماثل تام بين ما يزعمه أنصار « ثورة ولاية الفقيه» من أن الله عز وجل« يريدها شيعية المنطلق .. إسلامية الصيغة .. عالمية الأهداف»، وما سبق وزعمهجدهمإسماعيل شاه الصفوي، حين وصف دولته بأنها « شيعية الإطار .. صوفية المذهب»! وغني عن البيان أن التاريخ يعيد نفسه، موضوعيا ومنهجيا، بذات المحتوى.

     ما يجري هو توضيع لـ « مربط فارسي» على غرار « المربط اليهودي»، وليس فتنة طائفية. ولا شك أن شواهد التاريخ ومدوناته أولى بالتوصيف، وأبلغ بالبيان والفهم. فلم يكن الصراع مع « الإمامية» في بعثها الفارسي المستمر، ليمر عبر مصطلح « الفتنة بين طائفتين»! فهذا لم يثبت في كافة المصنفات التاريخية. ولم يسبق أن وصَّف المؤرخون المسلمون أمة الإسلام بأنها طائفة. كما أنهم لم يوصِّفوا قط الصراع مع دول وجماعات الرافضة كذلك. أما فتنة « الخوارج» والصراع على السلطة، فتلك بنص القرآن الكريم[14] تتعلق بـ « طائفتين من المؤمنين» لا شأن لـ « الرافضة» بها إلا كأوزاغ الفتنة بين المؤمنين، كابن سبأ و « السبئية». بل أن الثابت تاريخيا، في التوصيفات الشائعة بحق « الإمامية» ودولها وجماعاتها، أن المؤرخين والعلماء استعملوا فيها مصطلحات كـ « الشعوبية، الحشوية، السفلة، الفِرَق، الرافضة، الزنادقة، المارقين، أهل البدع .. الباطنية … » إلخ بخلاف توصيفات بعض نخب اليوم، المدعومة بترويج إعلامي دولي، ممن يتحدثون عن وقائع « فتنة» ذات محتوى « طائفي» بين « السنة» و « الشيعة»! وتبعا لذلك يجري توصيف الصراعات الدامية في سوريا واليمن والعراق على أنها صراعات طائفية، رغم أن بعض التوصيفات الغربية، وحتى « اليهودية»، تتحدث صراحة عن صراع سياسي بغلاف طائفي. ومن زاوية أخرى، فحتى « الرافضة» لا يقبلون التوصيف الطائفي. كونهم يعتبرون أنفسهم يمثلون « الإسلام الصحيح»! في حين أنهم طائفة لا تتجاوز 7% من إجمالي المسلمين المقدر عددهم في العالم بنحو 1.7 مليار إنسان.   

    منذ قرر النظام الدولي التخلي عن الشاه بدأ يعد العدة لبناء « المربط الصفوي»، بذات الخديعة التي بنت فيها بريطانيا « المربط اليهودي» في بيت المقدس، وفرنسا « المربط النصيري». فبعد توقف الحرب مع إيران ( 28/5/1988)، بدأت الموجة الهجومية الثانية على العالم الإسلامي، إثر موجة « سايكس – بيكو». وعن سبق إصرار، استقر الرأي الأمريكي على تدمير العراق، الذي ورطوه بغزو الكويت في 2/8/1991، وهو ما كشفته السفيرة الأمريكية المتجولة، إيلان غلاسبي، خلال جلسة استجواب لها أمام الكونغرس الأمريكي، أثناء الحرب، اتهمت فيه بالكذب وإخفاء المعلومات. فهي التي تم تعيينها، بعد انتهاء الحرب مع إيران، برتبة سفيرة متجولة فوق العادة. وهو ما يعني أن الولايات المتحدة في أقصى حالات الاستنفار السياسي والدبلوماسي. وتبعا لذلك شرعت غلاسبي في زيارة كافة الدول العربية بما فيها العراق. وهناك اشتكى العراقيون خلال الاجتماع  الذي عقد قبل أسبوع من اجتياح الكويت (25/7/1990)، مما اعتبروه تعنتا كويتيا في رد « الحقوق» العراقية فيما يتعلق بإجمالي السياسة النفطية، وبتشغيل الكويت لحقل الرميلة النفطي طوال سنوات الحرب. فما كان من غلاسبي إلا أن اعتبرت الشكوى مشكلة ثنائية. وهو تقييم يعني في المحصلة ضوءً أخضرا للعراق بأن يحل مشكلته مع الكويت بالطريقة التي يراها مناسبة. وهو ما حصل وأدى إلى الوقوع في الفخ. لكن الأمريكيين أخضعوا العراق لحصار خانق لأكثر من عشر سنوات، وأظهروا إصرارا عنيدا على إسقاطه، وهو ما حصل في ربيع العام 2003، لينتهي الأمر بتسليمه إلى إيران.

     لا ريب أن النظام الدولي نجح في فرض الهيمنة على العالم الإسلامي، لكنه يبقى عاجزا عن اختراقه من الداخل بذات القدر الذي يمكن أن تفعله فارس المجوسية. فالأمر بكل بساطة أن ملل الكفر الصريحة مكشوفة عقديا بخلاف قوى الرفض، المستوطنة فيه ديمغرافيا، والمجاورة ثقافيا وحضاريا له. وفي المحصلة؛ إذا كان الغرب قد نجح طويلا في الاستثمار بالطائفة « النصيرية»، فإنه، وفق كل المعايير، تبقى إيران « الرافضية» و « الصفوية»، كـ « النصيرية» و « اليهودية»، أنجع وأجدى في الاختراق من « علمانية» الشاه. وقد أثبتت المراهنة الدولية، وواقع الحال خلال الـ 35 سنة الماضية، أن « ولاية الفقيه» نجحت في أطروحاتها الأيديولوجية، ذات المحتوى العقدي، من حيث خسر الشاه.

    وبقليل من المقارنة مع أطروحة « النصيرية» وما اضطلعت به من وظائف أمنية دولية، لا يبدو أن إيران بعيدة عنها، إنْ لم تكن في صلب الأطروحة عقديا ودستوريا وسياسيا. ففي كانت بريطانيا مشغولة بزراعة « اليهودية» في بيت المقدس، كانت فرنسا تؤهل « النصيرية» للاستيلاء على سوريا. ولم يكن لهذا التأهيل من هدف إلا احتواء كافة حركات التحرر والتمرد، الإسلامية والوطنية، التي كان من الطبيعي أن تظهر، ردا على تقسيم العالم الإسلامي، وهدم الخلافة، وإقامة الدولة اليهودية. بل أن سوريا « النصيرية» غدت مسؤولة أمنيا عن أية قوى تحررية محلية أو دولية، تتواجد في المنطقة أو تمر عبر سوريا. وهو الأمر الذي جعل من كافة هذه الحركات موضع رقابة دولية أمنية صارمة، بدت مخرجاتها في الفشل الذريع لكل هذه الحركات التي كانت مكشوفة الظهر للنظام الأمني الدولي، وبالاسم، منذ لحظة ولادتها. حدث هذا طوال عشرات العقود تحت مسميات أيديولوجية راديكالية من نوع « سوريا الأحرار» و « سوريا الثورة» و « سوريا الصمود والتصدي» وأخيرا « سوريا المقاومة والممانعة». فهل اختلف « غطاء الولي الفقيه» ومشايخه عن « الغطاء النصيري»؟

     لم يختلف أبدا بقدر ما اتخذ من الإسلام غطاء له. وبالتأكيد لم يكن « غطاء الولي الفقيه» مفارقة بقدر ما عكس صعود القوى الإسلامية في المنطقة. بل أن عقيدة « الولي الفقيه» والمراجع الشيعية جرى ترجمتها في الدستور الإيراني الذي يتحدث بالنص في مقدماته عن « تصدير الثورة» و « نصرة المستضعفين» و « حكومة المستضعفين في الأرض» و « المحرومين» و « المضطهدين»، في مقابل « المستكبرين»[15]. بل أن الأمر واقع في صلب « كافة حركات التحرر في العالم»! وبالتالي لم يكن من المصادفات أن « تستثمر» جمهورية « ولاية الفقيه» في التحالف مع القوى الراديكالية « في أية نقطة من العالم»، لاسيما الفلسطينية والعربية منها، ومع النشطاء والمثقفين والقوى السياسية والاجتماعية وأصحاب الأيديولوجيات المناهضة للنظم وأمثالهم. ولا ريب أن هذه التحالفات واقعة قطعا في سياق « الاحتواء والرقابة» التي مارستها « النصيرية» خلال الأربعين سنة الماضية قبل انطلاقة الثورة السورية.

    في 10/9/2009، تناقلت المواقع الإلكترونية الإيرانية تصريحات عن رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية  الجنرال حسن فيروز آبادي، خلال مراسم توديع وزير الدفاع الإيراني السابق وتقديم خليفته الجديد بحضور كبار القادة العسكريين، يتحدث فيه عن جزء من « اسثمارات» إيران في الأمن القومي الإيراني. مشيرا إلى أن: « دعم القضية الفلسطينية بالرغم من التكلفة السياسية والدعائية والمالية لا يشكل أمرًا عبثيًا ومكلفًا لنا ولم يفرض علينا؛ بل إنه يعد ضربًا من الاستثمار لتحقيق مصالح (امتيازات) إقليمية ودولية لنا». وأضاف قائلا: « إن دعمنا لحركات التحرر يدخل في صلب حماية الأمن القومي الإيراني ويزيد من قوتنا الإقليمية، وهو في سياق ما ننفقه للحفاظ على أمننا القومي واتساع رقعة قوتنا في المنطقة»[16].

      والحقيقة أن « اسثمارات» إيران بلغت مدى أعمق وأوسع مما يصف البعض تحالفاته معها مجرد علاقة مصلحية، فرضتها ظروف قاهرة. ولو وُضعت هذه العلاقة في ميزان الشريعة لقياس مدى المصالح المتحققة والمفاسد المترتبة، وليس في قالب البراغماتية الضيقة، لتوجب التخلي عنها قطعيا. فلنتأمل ما قاله الكاتب « الإسرائيلي»، أمنون لورد، جيدا في مسألة « الاسثمارات» الإيرانية في العدو الذي لم يكن في يوم ما اليهود ولا «إسرائيل»،:

      « بعد مرور هذه السنوات على قيام نظام آيات الله الإيراني يمكن فهم لماذا اتخذت إيران من معاداة إسرائيل واليهود منهاجا لها»، ويجيب بالقول:« حتى يوجه كل العداء العربي الإسلامي تجاه عدو واحد وهو إسرائيل واليهود». وهكذا تستثمر إيران في الأيديولوجيا على المستوى العربي برمته. لذا، وبحسب لورد، فإن« بعض اليهود الإيرانيين المقيمين في الولايات المتحدة» يعتبرون أن « الإيرانيين والإسرائيليين أصدقاء»، وتبعا لذلك يطرح الكاتب سؤالا لطالما اعتبر « من قبيل الهراء» بالنسبة لليهود، لكنه أثار التباسا وحتى استنكارا، قبل انطلاقة الثورة السورية سنة 2011، لدى الكثير من المسلمين وأنصار إيران و « حزب الله» عن وجود تحالفات بين إيران و « إسرائيل». أما السؤال فيقول: « لماذا تُشعل إيران الحروب ضد إسرائيل في الجبهة الشمالية داخل لبنان من خلال حزب الله، وفي الجنوب داخل غزة من خلال حماس؟»، وردا على ذلك يقول الكاتب:« إجابة هذا السؤال ذكرها الرئيس الأميركي باراك أوباما مفسرا ما تقوم به القيادة الإيرانية تجاه إسرائيل بأنها لـ أغراض داخلية»[17]!

    مع وفرة الشواهد والوقائع والأدلة والبينات، بما فيها شهادات أبو الحسن بني صدر[18]، أول رئيس جمهورية في « ولاية الفقيه» فرّ منها، على هوية العدو لدى إيران، وكذا الدور الوظيفي الذي تلعبه.. ومع أنكل المقترحات التي قدمها الإيرانيون لتطبيع العلاقة مع الولايات المتحدة و « إسرائيل» تضمنت بنودا صريحة تتعلق بـ « مكافحة الإرهاب» أو احتواء حتى « حزب الله» وتحويله إلى يافطة سياسية .. ومع كل التوسع والجرائم التي تنفذها إيران عبر جيشها وحرسها الثوري، فضلا عن أدواتها وطابورها الخامس في العديد من الدول العربية .. ومع اعترافهم الصريح بأنهم تحولوا إلى إمبراطورية عاصمتها بغداد، وإعلانهم بأنهم « فقط» يستثمرون في الأمن القومي الإيراني … ومع أنهم يهددون حتى بغزو بلاد الحرمين وتهديد مكة المكرمة[19]، كما فعل من قبلهم الأمريكيون[20] … مع كل هذا وذاك، لا زالت بعض النخب والدول تقدم الغطاء التام والشرعية لإيران، وتهيئ دولها ومجتمعاتها لاختراقات مدمرة!!! في حين أن النظام الدولي لم يعط إيران ما تشاء. فلم يحقق التدخل الروسي في سوريا (30/9/2015) من أهدافه، أهم من فرض معاهدات بغطاء من الرئيس السوري بشار الأسد، مكنتهم من الحصول على تواجد عسكري بلا أمد، ومحاصرة لـ « المربط الصفوي» في حدود وظيفية، بخلاف ما تأمل إيران.

   وفي السياق كانت قراءات الكاتبين،آري هيزتين وفيرا ميتلين شابير، في مجلة « ذي ناشونال إنترست – 6/4/2016»[21]، الأميركية ملفتة للنظر فيما يتعلق بواقع ومستقبل العلاقة بين روسيا وإيران. ففي مقالتهما المشتركة لاحظ الكاتبان أن « هناك اختلافات في المصالح بين روسيا وإيران في العديد من القضايا المشتركة بين الطرفين». وأن « فكرة التحالف الروسي الإيراني مبنية على مصالح رئيسية مشتركة أبرزها الحد من هيمنة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط في فترة ما بعد الحرب الباردة». لكن بالنسبة لروسيا فإن « إيران هي مجرد أداة في هذا التكتيك». إذ « رغم الحملات العسكرية الروسية والإيرانية في سوريا والتي تجري بالنيابة عن نظام الأسد، فإن لدى البلدين أهدافا مختلفة. أما الاختلاف فيقع في مستوى حدود الطموح لدى الجانبين: « فروسيا مهتمة بمنع سقوط نظام الأسد، وبالحفاظ على دولة عميلة في المنطقة، وأما إيران فمهتمة بأن تبسط نفوذها الكامل على سوريا».


[1] وفقا لقراءات عقدية وتاريخية أولية، يبدو أن كل مواجهة حاسمة مع اليهود مرتبطة إلى حد ما باكتمال بناء « الغيتو»، إما طوعا أو كرها!         

[2] « أوباما وإيران: لا جديد بخطاب نتنياهو»، 3/3/2015، موقع « الجزيرة نت»، على الشبكة: http://cutt.us/wvDVt

[3] سعد محيو: « نتنياهو وإيران – مصير الصهيونية برمته على المحك»، 3/3/2015، موقع « سويس إنفو»، على  الشبكة: http://cutt.us/mueHC

[4] Dov Zakheim: « إدارة أوباما والقراءة الخاطئة للشرق الأوسط»، 23/3/2015، مجلة « فورين بوليسي» الأمريكية، على الشبكة: http://cutt.us/2lOR  

[5] نقلت مراسلة صحيفة « معاريف» اليهودية، دانة سومبيرغ، عن رئيس الحكومة «الإسرائيلية»، بنيامين نتنياهو، قوله خلال جلسة لكتلة حزب الليكود «الإسرائيلي» في مبنى الكنيست ( البرلمان) صباح 14/3/2016 أن : « هناك علاقات آخذة في الاتساع بين إسرائيل وعدد من دول المنطقة لم يسمها، وإن هناك تغييرا دراماتيكيا في نظرة بعض الأنظمة والدول العربية تجاه إسرائيل». وأن: «دولا عديدة في المنطقة باتت تدرك أن إسرائيل ليست دولة عدوة للعالم العربي، وإنما شريكة لها في    صراعها  ضد القوى الإسلامية المتطرفة». للمتابعة:« نتنياهو- دول عديدة بالمنطقة ترانا شريكا»، 15/3/2016، موقع « الجزيرة نت»، على الشبكة: http://cutt.us/5aMd

[6] « صحف إسرائيلية: أوباما منح إيران إدارة الشرق الأوسط»، 15/7/2015، موقع « الجزيرة نت»، على الشبكة: http://cutt.us/Eq27N

[7] نفس المرجع.

[8] نفس المرجع.

[9] « مستشرق إسرائيلي: المجتمع الدولي يدعم الشيعة»، 28/2/2016، موقع « الجزيرة نت»، على الشبكة: http://cutt.us/xkd7

[10] « وزير الدفاع الإسرائيلي: إيران أخطر من تنظيم الدولة»، 20/1/2016، موقع « الجزيرة نت»، على الشبكة: http://cutt.us/Y60pa

[11] نفس المرجع.

[12] نفس المرجع.

[13] في أعقاب « مؤتمر العلاقات العربية التركية» الذي نظمه « منتدى المفكرين المسلمين» في الكويت ( 9 -11/1/2010)، كان ثمة لقاء خاص جمعني مع د. عبدالله النفيسي، بمعية بعض العلماء والمثقفين، وفي خضم الحديث عن إيران، قال بأنه سأل أحد المسؤولين الإيرانيين: لماذا تتطلعون إلى العالم العربي؟ فأجاب المسؤول الإيراني: لأن هضمكم أسهل!

[14] قال تعالى: ﴿ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا … ﴾، (الحجرات: 9).       

[15] مثلا كما ورد في المادة 154 من الفصل العاشر، قسم السياسة الخارجية، إذ يقول: « تعتبر جمهورية إيران الإسلامية سعادة الإنسان في المجتمع البشري كله قضية مقدسة لها، وتعتبر الاستقلال والحرية وإقامة حكومة الحق والعدل حقًا لجميع الناس في أرجاء العالم كافة، وعليه فإن جمهورية إيران الإسلامية تقوم بدعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أية نقطة من العالم، وفي الوقت نفسه لا تتدخل في الشئون الداخلية للشعوب الأخرى».                                          

[16] « طهران : دعمنا للقضية الفلسطينية ليس إلا لتحقيق مصالحنا»، 10/9/2009، موقع « مفكرة الإسلام»، على الشبكة:  http://cutt.us/ZycA

[17] أمنون لورد« صحيفة إسرائيلية: توافق طهران وتل أبيب ضد سنة إيران»، مرجع سابق.

[18] ثمة شهادات نصية له شائعة. وثمة شهادة حديثة له على قناة « روسيا اليوم». وللمتابعة: « بني صدر والخميني: قصة الثورة وخيانة الأمل»، 17/5/2012، موقع قناة «RT» الروسية، على الشبكة: http://cutt.us/aNgdzK ، وعلى موقع « يوتيوب»: http://cutt.us/lKLQc

[19] في 15/2/2016 صرح السفير السوري في الأردن، اللواء بهجت سليمان، بأنه مستعد للقيام « بإنزال جوي ليلي من عشرة آلاف مغوار في العاصمة السعودية – الرياض، ردا على نية التدخل السعودي في سوريا». للمراجعة: « سفير بشار السابق بعمّان يهدد بإنزال جوي في السعودية»، 15/2/2016، موقع « كل الأردن»، على الشبكة: http://cutt.us/bZRhI. وفي 13/8/2013 هدد الوزير اللبناني السابق، فايز شكر، في مقابلة تلفزيونية على قناة «OTV» اللبنانية « بتدمير مكة المكرمة على رأس من فيها». لدى:« الشيعي اللبناني فايز شكر إذا هُـدد بشار سندمر مكة على رؤوس ساكنيها»، 13/8/2013، موقع « يوتيوب»، على الشبكة: http://cutt.us/hupyj

[20] هذا ما كشفته « وكالة الأسوشيتدبرس» الأمريكية في 20/7/ 2005 عن  النائب الجمهوري، توماس تانكريدو، من صريحات له في برنامج إذاعي بولاية فلوريدا الأمريكية حث فيها على تدمير مكة المكرمة بالسلاح النووي إذا تعرضت أمريكا لهجوم مماثل لهجمات سبتمبر 2001. للاطلاع: « عضو كونجرس يدعو إلى تدمير مكة»، 20/5/2005، موقع «middle-east-online»، على الشبكة: http://cutt.us/YO11Z. وفي 12/5/2012، كشف النقاب في الولايات المتحدة عن مادة تحريضية سافرة، أعدها الكولونيل ماثيو دولي، وتم بموجبها تأطير نحو 800 ضابط أمريكي من رتبة عقيد فما فوق لمدة عام كامل. وبحسب صحيفة « الاندبندنت» البريطانية، تتضمن المادة الني دُرست في كلية هيأة الأركان الأمريكية المشتركة، دعوة قيادات وزراة الدفاع (البنتاغون)، في المستقبل القريب، إلى الاستعداد لحرب شاملة على الإسلام، وأن الكولونيل دولي طالب في مادته بتدمير مكة والمدينة وطمس معالمهما على طريقة ناكازاكي وهيروشيما اليابانيتين خلال الحرب العالمية الثانية. مزيد من التفاصيل: « كولونيل أمريكي يدرس قواته “مادة” تحرضهم على تدمير مكة»، 12/5/2012،موقع صحيفةالوفد « المصرية»، على الشبكة: http://cutt.us/hudE

[21] « التحالف الروسي الإيراني ضعيف وتشوبه خلافات»، 6/4/2016، موقع « الجزيرة نت»، على الشبكة:http://cutt.us/fgcum

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى