مقالات

يا سفهاء العالم: غزة العزة أم ستالينجراد؟

أ.د. إبراهيم عوض

كاتب ومفكر مصري.
عرض مقالات الكاتب



قلتُ، فى تعليق لى البارحة فى واتا، إن صمود غزة يتفوق على صمود ستالينجراد تفوقا عظيما. فلماذا؟ لأن ستالينجراد كانت وراءها دولة عظمى هى الاتحاد السوفييتى، الذى هو فى الواقع إمبراطورية شاسعة الأطراف تتزعم الكتلة الشرقية وتملك تحت يدها إمكانات رهيبة: زراعية وصناعية وسكانية. كما تقع ستالينجراد فى منطقة سبخة تعج بالمستنقعات مما يجعل تقدم القوات البرية غاية فى الصعوبة. ثم حل فصل الشتاء القارس وهطل الجليد، وهو عبء باهظ على الألمان، الذين أرهقتهم الغربة والبعد عن بلادهم، فلم يستطيعوا الاستمرار فى تحمله، وكان عاملا حاسما من عوامل هزيمتهم واستسلامهم.
لقد كان الألمان يحاربون فى بلاد غير بلادهم، بلاد قوية لا ينقصها أى شىء من عناصر المقاومة والنصر. ورغم ذلك حدث فى البداية أن انهار الجيش السوفييتى العملاق فى ستالينجراد وولى الأدبار، فقامت جماهير المواطنين بالدفاع عن مدينتهم بكل ما يملكون من عزيمة وإصرار وأطعمة وملابس وأدوية لا تنفد ومستشفيات كثيرة مجهزة أحسن تجهيز ومعرفة تامة بالمكان… وظلوا يدافعون عن مدينتهم إلى أن استطاع الجيش الفارّ أن يستعيد جأشه ويرجع إلى ميدان المعركة وتنضم إليه جيوش سوفييتية أخرى فيحارب من جديد مع المواطنين بعد أن كان قد ترك مواقعه للألمان مهزوما مدحورا.
ليس ذلك فقط، بل فتح الحلفاء جبهة أخرى فى شمال أفريقيا شتتت تركيز الألمان وجشمتهم حملا باهظا آخر فوق ما كانوا يحملون من أثقال تمثلت فى انتشار قواتهم وتبعثر جيوشهم فى عدد من دول أوربا الأخرى. أى أن ألمانيا لم تكن تحارب السوفييت وحدهم فى ستالينجراد، بل كانت تحارب كذلك جيوش الحلفاء جميعا فى أماكن متباعدة. وما أدراك ما الحلفاء، وإمكانات جيوش الحلفاء؟ ولا ننس أمريكا ودخولها على الخط فى صالح الحلفاء والروس.
ومع هذا كله فقد استغرق استسلام الألمان وقتا طويلا، ولم يكن بالأمر السهل رغم وقوف العوامل جميعا فى صف السوفييت، إذ استلزم الأمر استخدام آلاف المدافع والعشرات بعد العشرات من الهجوم من كل اتجاه على مدى شهور وشهور.
أما فى غزة، التى لا تزيد عن محافظة من محافظات مصر ولا تتمتع بأى مقوم حقيقى من مقومات الدولة ومحصورة من جميع الاتجاهات وجاءت بحكومتها الأقدار إلى السلطة وليس فى يدها أى سبب من أسباب القوة المنظورة بعد أن كانت فلسطين كلها قد ضاعت على يد السلطات المصرية والأردنية، ولا مخرج لأهلها يطلون منه على العالم الخارجى، إذ يحيط بها سور غليظ عال ليس له نظير فى التاريخ الذى نعرفه ولا يمكن أحدا اختراقه أو تسلقه، أما فى غزة العزة فليس هناك سوى مجموعات من الفدائيين الذين لم يتخرج أى منهم فى أكاديمية عسكرية، ولا توجد أية جيوش نظامية ولا أسلحة يعتد بها، اللهم إلا بعض المدافع الخفيفة وصواريخ محلية الصنع أنتجها جماعة من الهواة ليست أكثر من لعب أطفال قياسا بما فى يد الخنازير.
وأنا لا أقلل من شأن هذه الصواريخ، بل بالعكس أريد أن أجلى أمام بصر القارئ مدى البطولة والعظمة التى يتحلى بها رجال النبى العربى المغاوير، إذ بمثل تلك الإمكانات البدائية القليلة يوقفون جيش خنازير الاحتلال المدجج حتى أسنانه بل حتى عينيه بالسلاح المتقدم الرهيب، والمدعوم من قِبَل الدول الغربية كلها على اختلاف لغاتها وقومياتها وأنظمتها السياسية والاقتصادية.
ومع ذلك فغزة لا تحارب من أجل فلسطين وحدها، بل من أجل الإسلام وأمة الإسلام كلها، تلك الأمة التى ابتلاها الله بكل أمراض المذلة والخنوع والهوان والتفاهة فهى لا تحاول التخلص مما هى فيه ولا تريد ولو مرة وأحدة أن تثبت أنها أمة من البشر.
ثم يا ليت فصول المسرحية الإجرامية قد توقفت عند هذا الحد، إذ هناك أيضا الحصار الرهيب الذى يخنق أبطال غزة من كل الاتجاهات، وهناك المؤمرات التى يشترك فيها القريب والبعيد من حكام العرب والمسلمين، وهناك صنوف الخذلان التى يلقاها أولئك الأشاوس من أمة المليار والثلثين، أمة الخزى والهوان.
أرايتم الآن أيها القراء معنى قولى إن غزة أصمد من ستالنجراد؟
سيقول السفهاء: لكن غزة لم تخرج المحتل من فلسطين. ولكن هل ينبغى أن نكون من الجهل وعمى العقل والقلب والبصر بحيث نتصور أن إزالة المحتل ستتحقق، والأمة التى تبلغ مليارا وثلثى مليار تقتل وقتها التافه مثلها فى الطبل والزمر والرقص والترامى على أقدام جلاديها تستزيدهم تنكيلا بها وتنظم الأناشيد فى الثناء عليهم لرفسهم إياها فى أفواهها وأنوفها وعيونها بأحذيتهم النجسة مثلهم ومثلها، أولئك الجلادين الجهلاء الأوغاد الخونة البلداء على شاكلتها كحَذْوك النعل بالنعل؟
يا أيها السفهاء، يا من ضحكت من جهلكم الأمم وبصقت وبالت وتبرزت وتقيأت على وجوهكم، استحوا وأفيقوا من حمقكم وبلاهتكم.
ألايكفى أن الاحتلال، ومعه كل أولئك المجرمين العالميين والمحليين، لم يستطع أن يهزم غزة؟ إن هذا لهو النصر المبين، يا أوساخ العالم أجمعين!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى