مقالات

الثورة بين الوعي والعاطفة

صالح موسى الحمزة

محام وكاتب سوري
عرض مقالات الكاتب

لا شك أن لكل ثورة أخطاءها وهذا من طبيعة الثورات و الثورة السورية كغيرها من الثورات ليست بمنأى من الوقوع في الخطأ ،لها أخطاء عامة تشترك فيها مع كل الثورات وأخطاء خاصة انفردت بها بذاتها دون غيرها من ثورات العالم و ثورات الربيع العربي .
هذه الأخطاء في جوهرها أخطاء ( إدراكية معرفية ) أكثر منها سلوكية أو عملية فالإدراك دائما بسبق الحركة والفعل .
كرد فعل عفوي له إرهاصات مكبوتة على مدى خمسين سنة أو تزيد و بتأثير ثورات الربيع العربي التي سبقتها بفترة ليست بالبعيدة إندلعت عشوائية وبغير تنظيم وهدف محدد وخاصة في الأيام الأولى من ولادتها .
هذه الأخطاء الإدراكية و المعرفية لها أسبابها ونتائجها وأبعادها سنتناولها بإيجاز في الاسطر القادمة :
وليتسع لي صدر القاريء فلابد من الإسهاب قليلا في بعض الأحيان لإحاطة الموضوع من كل جوانبه .

أولها بعد ذو خصوصية مكانية إقليمية :
يكمن في كون سوريا بحدود ( سايكس بيكو ) الجار الشمالي لإسرائيل والكل يعلم ان إسرائيل هي مفتاح السياسة الأمريكية الأوربية في منطقة الشرق الأوسط وإن كانت آخر طلقة خرجت من سوريا بإتجاه إسرائيل كانت بعد حرب إكتوبر ١٩٧٣ إلا أن الوضع السوري يشكل الإهتمام الأكبر لدى الإدارات الإسرائيلية المتعاقبة فالخوف من وصول سلطة سنية أو ديمقراطية منتخبة إلى الحكم في سوريا كان ولا زال الكابوس الأكبر الذي يقض مضاجع الإسرائيلين .
كانت مهمة إسرائيل الأساسية وأد الثورة قبل أن يشتد عودها ويقوى ساعدها فعملت بداية على منع وصول أسلحة نوعية الى الثوار ( من خلال الضغط على إدارة اوباما وتعهد الحكومات الأوربية بذلك ) ومن ثم إعطاء الضوء الأخضر إلى إيران الحليف ( الخفي ) لإسرائيل تحت رغبة طائفية توسعية لحكومة الملالي ولأسباب إنتقامية تاريخية لا تخفى على قارىء .
لم يكن إدخال إيران الى سوريا كافيا بنظر الإدارة الإسرائيلية _ وان كان لابد منه في البداية _ إيران دخلت بشعارات طائفية حركت نوازع الجهاد والنصرة لدى كل سني في العالم زد على ذلك الوضع الاقتصادي الداخلي الإيراني المتهالك والمتردي أصلا واستماتة ثوار سوريا بقتال الإيرانيين فكان لابد للإدارة الإسرائيلية من إنقاذ الموقف فكان البديل الأنسب إدخال نظام المافيا الروسية المتمثل بحكومة بوتين وبتمويل عربي ووعود بإعادة الإعمار لشركات روسية وبيع موانيء إستراتيجية _ بعقود طويلة الأمد _ لم تكن تحلم روسيا بالوصول إليها و الإستحواذ على مناجم ضخمة كانت في فترة ما تشكل حجر الزاوية في الاقتصاد السوري .

البعد الثاني ذو خصوصية إثنية (دينية ، قومية ، عرقية ) :
سوريا تضم إلى جانب الأكثرية السنية أقليات دينية علوية وإسماعيلية ودرزية ومرشدية ومسيحية وشيعية ويزيدية
وإثنية قومية عرقية الى جانب الأكثرية العربية هناك مكون تركماني ومكون كردي و آشوري وسرياني وأرمني .
وجود هذا التداخل الإثني كان له تأثير كبير في إطالة عمر النزاع النظام الطائفي الذي نصب نفسه حامي الأقليات وربط وجوده بوجودها وهذا ما جعل أبناء هذه الأقليات وخاصة الطائفية بالتمترس مع النظام في خندق واحد والإستماتة في الدفاع عنه .
إثارة النعرات وخلق ثقافة العداء المناطقية وزيادة التفرقة بين مكونات الدولة الواحدة كانت سياسة ممنهجة لعب على إرساءها نظام الأسد لعقود وظهرت نتائجها جلية أيام الثورة .

البعد الثالث له خصوصية زمانية : إندلاع الثورة السورية بعد أحداث ثورات الربيع العربي جعلها تبدو كأنها متتالية في حركة ( دومينو ) لن تتوقف فكان لا بد من إيقافها قبل أن تصيب باقي دول الجوار فالثورات ( سريعة العدوى) .
هددت الثورة السورية كل عروش الحكومات العربية الوظيفية فكان لابد من الإتحاد عربيا وأتوقع أن العرب لم يتحدوا قبلا إلا في محاولة كبحهم لجماح الثورة السورية فكان الدعم اللامتناهي لنظام الأسد في حربه ضد الشعب ، نعم الأسد قتل شعبه بأموال الحكومات العربية وبموافقة ضمنية عالمية .
قالها وبكل وقاحة بشار الأسد في بداية الحراك الثوري :
( ما يسمى بقطار الربيع العربي سيقف في دمشق ويعود خائبا من حيث أتى ).

لو قدر للثورة السورية أن تكون منفصلة زمانينا ومستقلة عن ثورات الربيع العربي لكانت لها نتائج مختلفة بلا شك .

والبعد الرابع ذو خصوصية سياسية : آخر نشاط سياسي حقيقي للسوريين كان قبل ١٩٦٣ اي قبل إنقلاب البعث الأسود ومصادرته للحرية السياسية وخلق سياسة الحزب الواحد القائد للدولة والمجتمع إلا من بعض التجمعات الشكلية لأحزاب فرغت من محتواها السياسي الحقيقي فكانت شكلا بلا مضمون وطني كان الهدف من إبقاءها ذر الرماد في العيون و الإستهلاك الإعلامي الداخلي والخارجي .
أما حزب الإخوان المسلمين فكان المنافس الأقوى لكل تلك الاحزاب مجتمعة تلك الفترة من حيث التنظيم وسعة القاعدة الشعبية والإجتماعية والامتداد الاقليمي له في المنطقة العربية والتمكين العقدي المتماسك لأعضاءه .
كان لابد من خلق مسوغات منطقية داخليا للقضاء عليه وتفكيك منظومته داخل سوريا على الأقل وتم ذلك بطريقة وحشية زادت من ترسيخ النفوذ الطائفي في مفاصل الدولة والتحكم بكل مقدارتها بعد إفراغ الساحة من أقوى المنافسين على السلطة وما تبع ذلك من إعلان الأحكام العرفية والإعتقال التعسفي وتنامي الخطاب الطائفي ونظرة الاستعلاء العلوي على أهل السنة .
البعد الخامس له خصوصية علمية ثقافية :
حيث يوجد في سوريا نخبة كبيرة جدا من العلماء والأدباء ورجالات الفكر والدعوة والثقافة كانوا بدورهم يشكلون حجرة عثر أخرى أمام المشروع الطائفي في المنطقة فكان لابد من إزالة هذه العثرة وتم ذلك بطرق وحشية بدأت بالسجن ثم الخطف ثم الاغتيال والإخفاء القسري أدى ذلك إلى هروب عدد كبير من جهابذة العلم السوريين من أصحاب الخبرات العلمية والمهنية والفنية ممن لم تطالهم أيدي المخابرات الطائفية إلى دول الجوار فكانوا سببا في تطور وإثراء تلك الدول .
ولو لا ضيق المجال لأطلعنا القاريء الكريم على آلاف الأسماء من تلك الهامات العلمية العظيمة .
بذلك أصبحت الساحة خالية فكان لابد من ملىء الفراغ بمدعي العلم والثقافة والأدب ممن صنعتهم آله المخابرات الأسدية وأظهرتهم كمفكرين وعلماء وأدباء .

البعد السادس بعد له طبيعة أخلاقية :
عمل النظام الطائفي جاهدا على إفساد المجتمع خلقيا مستخدما كل أدواته القذرة بدءا بالمؤسسة الإعلامية التي عملت بدورها على إنتاج وتسويق مواد تلفزيونية وبرامج رديئة منحطة تنشر الرذيلة والسفور والعري وثقافة الإختلاط في مجتمع محافظ ملتزم .
لتشكيل ثقافة الاعتياد على رؤية الممنوع وقبوله كأمر طبيعي مستساغ .
ثم المؤسسة التربوية وثقافة طلائع البعث ومعسكرات الشبيبة المختلطة و إتحاد الطلبة والذي بدوره كان جهاز تجسس متكامل على طلاب المرحلة الجامعية .
والمؤسسة العسكرية كانت بؤرة الإفساد والتشويه الأخلاقي بشكل ممنهج ومدروس خرج منها أعتى المجرمين واللصوص والمرضى النفسيين .
ونشر ثقافة العمالة والتجسس في المجتمع خلق نوع من فقدان الثقة بين مكونات الأسرة الواحدة فما بالك بالحي والمدينة ؟

ثورة بحجم الثورة السورية ما كان لها أن تقوم بشكل عفوي كان لابد لها من مقدمات مدروسة بعناية وإن خرجت بعد إندلاعها حركات تنظيمية بسيطة إلا أنها كانت مخترقة ولا تملك رؤية مستقبلية لمرحلة ما بعد سقوط النظام .
العاطفة والإندفاع والرغبة الصادقة في التغيير وحسن النية في تعاطي الأحداث كان محرك الرعيل الأول من الثوار .
وعدم وجود مرجعية سياسية عسكرية شعبية موحدة كانت القشة التي قصمت ظهر البعير فتقاسمت الدول الأدوار كل يدعي أنه من أصدقاء الشعب السوري والسياسة لا تبنى على الصداقات إنما تبنى على المصالح .
تعاطت كل دولة من دول ( أصدقاء الشعب السوري ) مع الملف السوري بما يخدم سياستها ومصالحها فقط .

الثورة لم تنته فهي فكرة ، والفكرة لا تموت ولا زالت مستمرة وحققت الكثير من أهدافها لكن الضريبة كانت كبيرة جدا ومرحلة الإدراك المعرفي والوعي لما قبل الثورة كانت ستوفر الكثير من الدماء والزمن والمال .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى