بحوث ودراسات

غزوة بدر الكبرى انتصار رمضاني وفتح عظيم ،دروس وعبر

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب

كان من نتائج غزوة بدرٍ أن قويت شوكة المسلمين، وأصبحوا مرهوبين في المدينة، وما جاورها، وأصبح مَنْ يريد أن يغزو المدينة، أو ينال من المسلمين عليه أن يفكِّر، ويفكِّر قبل أن يُقدِم على فَعْلته، وتعزَّزت مكانة الرَّسول(ﷺ) في المدينة، وارتفع نجم الإسلام فيها، ولم يعد المتشكِّكون في الدَّعوة الجديدة، والمشركون في المدينة يتجرَّؤون على إظهار كفرهم، وعداوتهم للإسلام. ومن أهم الدروس والعبر التي نستخلصها من غزوة بدر:

أولاً: حقيقة النَّصر من الله تعالى:

إنَّ حقيقة النَّصر في بدرٍ كان من الله تعالى، فقد بيَّن – سبحانه وتعالى -: أنَّ النَّصر لا يكون إلا من عند الله تعالى في قوله: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: 126].

وقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 10].

في هاتين الايتين تأكيدٌ على أنَّ النَّصر لا يكون إلا من عند الله – عزَّ وجلَّ – والمعنى: ليس النَّصر إلا من عند الله دون غيره، و(العزيز) أي: ذو العزَّة؛ التي لا تُرام، و(الحكيم) أي: الحكيم فيما شرعه من قتال الكفَّار مع القدرة على تدميرهم، وإهلاكهم بحَوْلِهِ، وقوَّته – سبحانه وتعالى -.

ويستفاد من هاتين الايتين: تعليم المؤمنين الاعتماد على الله وحده، وتفويض أمورهم إليه، مع التَّأكيد على أنَّ النَّصر إنَّما هو من عند الله وحده، وليس من الملائكة، أو غيرهم، فالأسباب يجب أن يأخذ بها المسلمون؛ لكن يجب ألاَّ يغترُّوا بها، وأن يكون اعتمادهم على خالق الأسباب، حتى يمدَّهم اللهُ بنصره، وتوفيقه، ثم بيَّن سبحانه مظاهر فضله على المؤمنين، وأنَّ النَّصر الَّذي كان في بدر، وقتلهم المشركين، ورمي النَّبيِّ(ﷺ) المشركين بالتُّراب يوم بدرٍ؛ إنما كان في الحقيقة بتوفيق الله أوَّلاً، وبفضله ومعونته.

وبهذه الآية الكريمة، يربِّي القرآن المسلمين، ويعلِّمهم الاعتماد عليه، قال تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 17].

ولما بيَّن – سبحانه وتعالى -: أنَّ النَّصر كان من عنده؛ وضَّح بعض الحِكَم من ذلك النَّصر. قال تعالى: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ۝ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [آل عمران: 127 – 128].

وأمر – سبحانه وتعالى – المؤمنين، بأن يتذكَّروا دائماً تلك النِّعمة العظيمة، نعمةَ النَّصر في بدرٍ، ولا ينسوا كيف كانت حالتُهم قبل النَّصر، قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [الأنفال: 26].

ثانياً: يوم الفرقان:

سُمِّيَ يومُ بدرٍ يومَ الفرقان، ولهذه التَّسمية أهمِّيَّةٌ عظيمةٌ في حياة المسلمين، وقد تحدَّث الأستاذ سيِّد قطب، عن وصف الله تعالى ليوم بدرٍ بأنه يوم الفرقان، في قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنفال: 41].

فقال: لقد كانت غزوة بدر – الَّتي بدأت، وانتهت بتدبير الله، وتوجيهه، وقيادته، ومدده – فرقاناً … فرقاناً بين الحقِّ والباطل – كما يقول المفسرون إجمالاً – وفرقاناً بمعنى أشمل، وأدق، وأوسع، وأعمق كثيراً.

كانت فرقاناً بين الحقِّ والباطل فعلاً، ولكنَّه الحقُّ الأصيل، الَّذي قامت عليه السَّمواتُ، والأرض، وقامت عليه فطرة الأحياء، والأشياء، الحقُّ الَّذي يتمثَّل في تفرُّد اللهِ سبحانه بالألوهيَّة، والسُّلطان، والتَّدبير، والتَّقدير، وفي عبودية الكون كلِّه؛ سمائه، وأرضه، أشيائه، وأحيائه، لهذه الألوهية المتفرِّدة، ولهذا السُّلطان المتوحِّد، ولهذا التدبير، وهذا التَّقدير بلا معقِّبٍ، ولا شريك، والباطل الزَّائف الطَّارئ، الَّذي كان يعمُّ وجه الأرض إذ ذاك، ويُغْشِي على ذلك الحق الأصيل، ويقيم في الأرض طواغيتَ تتصرَّف في حياة عباد الله بما تشاء، وأهواءَ تُصَرِّفُ أمر الحياة، والأحياء.

فهذا الفرقان الكبير الَّذي تَمَّ يوم بدرٍ، حيث فرَّق بين ذلك الحقِّ الكبير، وهذا الباطل الطَّاغي، وزَيَّل بينهما، فلم يعودا يلتبسانِ.

لقد كانت فرقاناً بين الحقِّ والباطل بهذا المدلول الشَّامل الواسع، الدَّقيق، العميق على أبعادٍ وامادٍ، كانت فرقاناً بين هذا الحقِّ ، وهذا الباطل في أعماق الضَّمير ، فرقاناً بين الوحدانيَّة المجرَّدة المُطْلَقَةِ بكلِّ شُعَبِها ؛ في الضَّمير والشُّعور، وفي الخُلُق والسُّلوك، وفي العبادة والعبودية، وبين الشِّرك في كلِّ صوره؛ الَّتي تشمل عبودية الضَّمير لغير الله من الأشخاص، والأهواء، والقِيَم، والأوضاع والتَّقاليد والعادات، وكانت فرقاناً بين هذا الحقِّ، وهذا الباطل في الواقع الظَّاهر كذلك، فرقاناً بين العبودية الواقعيَّة للأشخاص، والأهواء، وللقِيَم والأوضاع، وللشَّرائع والقوانين، وللتَّقاليد والعادات، وبين الرُّجوع في هذا كله لله الواحد الَّذي لا إله غيره، ولا حاكم دونه، ولا مشرِّع إلا إيَّاه، فارتفعت الهامات، لا تنحني لغير الله، وتساوت الرؤوس، فلا تخضع إلا لحاكميته وشرعه، وتحرَّرت القطعان البشريَّة؛ الَّتي كانت مستعبدةً للطُّغاة.

وكانت فرقاناً بين عهدٍ في تاريخ الحركة الإسلاميَّة، عهد المصابرة والصَّبر، والتَّجمُّع والانتظار، وعهد القوَّة، والحركة والمبادأة والاندفاع، والإسلام بوصفه تصويراً جديداً للحياة، ومنهجاً جديداً للوجود الإنسانيِّ، ونظاماً جديداً للمجتمع، وشكلاً جديداً للدَّولة، بوصفه إعلاناً عامّاً لتحرير الإنسان في الأرض؛ بتقرير ألوهيَّة الله وحده وحاكميته، ومطاردة الطَّواغيب، الَّتي تغتصب ألوهيته.

إلى أن قال: وأخيراً فلقد كانت بدر فرقاناً بين الحقِّ والباطل بمدلولٍ آخر، ذلك المدلول الَّذي يوحي به قول الله تعالى: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ۝  لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [الأنفال: 7 – 8].

لقد كان الَّذين خرجوا للمعركة من المسلمين؛ إنَّما خرجوا يريدون عِيرَ أبي سفيان، واغتنام القافلة، فأراد الله لهم غير ما أرادوا؛ أراد لهم أن تُفلِتَ منهم قافلةُ أبي سفيان (غير ذات الشَّوكة)، وأن يلاقوا نفير أبي جهل (ذات الشَّوكة)، وأن تكون معركةً، وقتالاً، وقتلاً، وأسراً، ولا تكون قافلةً، وغنيمةً، ورِحْلةً مريحةً، وقد قال الله – سبحانه -: إنَّه صنع هذا؛ ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ﴾، وكانت هذه إشارةٌ لتقرير حقيقةٍ كبيرةٍ…

إنَّ الحقَّ لا يحقُّ، وإنَّ الباطل لا يبطلُ – في المجتمع الإنسانيِّ – بمجرَّد البيان النَّظريِّ للحقِّ والباطل، ولا بمجرَّد الاعتقاد النظريِّ بأنَّ هذا حقٌّ، وهذا باطلٌ، إنَّ الحقَّ لا يحقُّ، وإنَّ الباطل لا يبطل، ولا يذهب من دنيا النَّاس، إلا بأن يتحطَّم سلطان الباطل، ويعلو سلطان الحق، وذلك لا يتمُّ إلا بأن يغلب جند الحقِّ، ويظهروا، ويهزم جند الباطل، ويندحروا.. فهذا الدِّين منهجٌ حركيٌّ واقعيٌّ، لا مجرَّد نظريةٍ للمعرفة، والجدل، أو لمجرد الاعتقاد السَّلبيِّ!

ولقـد حقَّ الحقُّ وبطـل الباطل بالموقعـة، وكان هذا النَّصر العمليُّ فرقاناً واقعيّـاً بين الحقِّ والباطل بهذا الاعتبار، الَّذي أشار إليه قولُ الله تعالى في معرض بيان إرادته – سبحانه – من وراء المعركـة، ومن وراء إخراج الرَّسول(ﷺ) من بيتـه بالحقَّ، ومن وراء إفـلات القافلـة ( غير ذات الشَّوكـة )، ولقاء الفئـة (ذات الشَّوكة).

ولقد كان هذا كلُّه فرقانـاً بين منهـج هذا الدِّين ذاتـه، تتَّضح به طبيعـة هذا المنهج، وحقيقته في حس المسلمين أنفسهم، وإنَّه لفرقان ندرك اليوم ضرورته، حينما ننظر إلى ما أصاب مفهومات هذا الدِّين من تَمَيُّعٍ في نفوس من يسمُّون أنفسهم مسلمين!، حتى ليصل هذا التميُّع إلى مفهومات بعض مَنْ يقومون بدعوة الناس إلى هذا الدين! وهكذا كان يوم بدر: ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ [الأنفال: 41] بهذه المدلولات المنوَّعة، الشَّاملة، العميقة.

وفي هذا اليوم مَثَلٌ من قدرته على كلِّ ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ ﴾، مثلٌ لا يجادِل فيه مجادلٌ، ولا يُماري فيه ممارٍ، مثلٌ من الواقع المشهود؛ الَّذي لا سبيل إلى تفسيره إلا بقدرة الله، وأنَّ الله على كلِّ شيءٍ قدير.

ثالثاً: الولاء والبراء من فقه الإيمان:

رسمت غزوة بدر لأجيال الأمَّة صوراً مشرقةً في الولاء، والبراء، وجعلت خطّاً فاصلاً بين الحقِّ، والباطل، فكانت الفرقان النَّفسيَّ، والماديَّ، والمفاصلة التامَّة بين الإسلام، والكفر، وفيها تجسَّدت هذه المعاني، فعاشها الصَّحابة واقعاً مادِّياً، وحقيقةً نفسيَّةً، وفيها تهاوت القيم الجاهليَّة، فالتقى الابن بأبيه، والأخ بأخيه:

1 – كان أبو حذيفة بن عُتبة بن ربيعة في صفِّ المسلمين، وكان أبوه عُتبة، وأخوه الوليد، وعمُّه شيبة في صفِّ المشركين، وقد قُتلوا جميعاً في المبارزة الأولى.

2 – كان أبو بكر الصِّدِّيق في صفِّ المسلمين، وكان ابنه عبد الرَّحمن في صفِّ المشركين.

3 – كان مصعب بن عمير حامل لواء المسلمين، وكان أخوه أبو عزيز بن عمير في صفِّ المشركين، ثمَّ وقع أسيراً في يد أحد الأنصار، فقال مصعب للأنصاريِّ: شُدَّ يدك به؛ فإنَّ أمَّه ذاتُ متاع، فقال أبو عزيز: يا أخي! هذه وصيَّتك بي؟! فقال مصعب: إنَّه أخي دونك، تلك كانت حقائق، وليس مجرَّد كلمات: إنَّه أخي دونك!. إنَّها القيم المطروحة لتقوم الإنسانيَّة على أساسها، فإذا العقيدة هي اصرةُ النَّسب والقرابة، وهي الرِّباط الاجتماعيُّ.

4 – كان شعار المسلمين في بدرٍ: (أحَد… أحَد) وهذا يعني: أنَّ القتال في سبيل عقيدةٍ تتمثَّل بالعبوديَّة للإله الواحد، فلا العصبيَّة، ولا القبلية، ولا الأحقاد، ولا الضَّغائن، ولا الثأر، هو الباعث والمحرِّك؛ ولكنَّه الإيمان بالله وحدَه.

ومن هذا المنطلق كانت صور الإيمان مختلفة المظاهر، واحدةً في مضمونها.

وللإيمان فقهٌ عظيمٌ، ومن هذا الفقه حينما هاجر رسول الله(ﷺ) إلى المدينة، هاجر إليها كلُّ من استطاع ذلك من المسلمين في مكَّة، وحُبِس من كان مضطهداً، ولم يستطع ذلك، فلما كان يوم بدر كان بعض هؤلاء في صفِّ المشركين؛ منهم: عبد الله بن سهيل بن عمرو، والحارث بن زمعة بن الأسود، وأبو قيس بن الفاكِه، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعليُّ بن أميَّة بن خلف، والعاصُ بن مُنبِّه.

فأما عبد الله بن سهيل بن عمرو؛ فقد انحاز من صف المشركين إلى رسول الله(ﷺ) ، فشهد المعركةَ، وكان أحدَ الصَّحابة الذين نالوا هذا الشَّرف العظيم.

وأمَّا الآخرون؛ فلم يفعلوا ذلك، وشهدوا المعركة في صفِّ المشركين، وقد أُصيبوا جميعاً، فقتلوا تحت راية الكفر، فنزل في حقِّهم قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 97]، [البخاري (4596)].

قال ابن عباس: كان قومٌ من المسلمين أقاموا بمكَّة – وكانوا يَسْتَخْفُون بالإسلام – كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأُكرهوا على الخروج، فنزلت: . إنَّهم لم يُعْذروا إذ كانت إمكانات الانتقال إلى صفِّ المؤمنين ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ﴾، ولم يكن الفاصل كبيراً بين الصَّفين، ولن يُعدموا – لو أرادوا – الفرصة في الانتقال إلى رسول الله(ﷺ) كما فعل عبد الله بن سهيل.

إنَّ للإيمان مستلزمات تعبِّر عن صدقه، وقوَّته، ومن مستلزماته استعلاؤه على كلِّ القيم ممَّا سواه، فإذا كان كذلك، كان لصاحبه الأثرُ الفعَّال، والقوَّة الفاعلة في بناء الحقِّ والخير؛ الَّذي أراده الله، إنَّ الإيمان يصبُغ السُّلوك، فإذا به يشعُّ من خلال الحركة والجهد، ومن خلال الكلمة، والابتسامة، ومن خلال السَّمْتِ، والانفعال، ولذا لم يُعذَرِ الَّذين كانوا في صفِّ المشركين؛ لأنَّ الإيمان الَّذي ادَّعوه لم توجد له مستلزماتٌ، فلم يُـؤتِ ثمارَه.

وبهذا الفهم العميق لفقه الإيمان ضرب الصَّحابة الكرام رضي الله عنهم في بدرٍ مُثُلاً عليا لصدق الإيمان، الَّتي تدل على أنَّهم اثروا رضاء الله ورسوله(ﷺ) على حبِّ الوالد، والولد، والأهل، والعشيرة، فلا يعجبُ المسلم من ثناء الله تعالى على هذه المواقف الصَّادقة في قوله تعالى: ﴿لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهُ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [المجادلة: 22].

مراجع البحث:

علي محمد الصلابي، السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث، ص 701-707

ابن هشام، السيرة النبوية  (2/253).

تفسير ابن كثير (1/411).

سيد قطب، في ظلال القران (3/1521 ـ 1522).

ابن كثير، البداية والنِّهاية (3/307).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى