ثقافة وأدب

مقهى الياسمين” للروائي مناف السيد وطن الخوف والفتنة

يوسف دعيس

أديب وروائي سوري
عرض مقالات الكاتب

تنتمي التعبيرات الأولية لرواية “مقهى الياسمين”، للروائي السوري مناف السيد للسرد التقليدي، في محاكاة ظاهرة للمدرسة الواقعية، عبر سرد مباشر، وبلغة بسيطة، وشخصيات متعددة غير مركبة، رغم أنّ أكثر من شخصية تحتاج إلى إفراد صفحات عدّة للغوص في مكنوناتها، وإبراز دورها على نحو مختلف في سياق الأحداث، إن كان على الصعيد النفسي، أو ضمن تعبيراتها الإيديولوجية، التي تشكل البعد السياسي لمنظومة العمل الروائي.

“لا أحد يعرف تاريخ بناء هذه المقهى بالضبط، لكن من المؤكد انّها من أقدم المقاهي، إن لم تكن أقدمها على الإطلاق”. صفحة9

رواية “مقهى الياسمين” تتحدث عن الواقع السوري منذ انقلاب البعث على السلطة فيما سمي ثورة الثامن من آذار، وتشغل الحقبة الأسدية الحيز الأكبر في الرواية، فيما يشتغل الروائي على حقبة الأسد الابن المساحة الكبرى، وهي الفترة التي تشتعل فيها أحداث الثورة السورية بدءاً من العام /2011/، ولا يحتاج القارئ إلى كثير عناء في كشف الإسقاط الذي لجأ إليه الكاتب في إطلاق اسم “مقهى الياسمين” على سورية، والرافدين على العراق، والأهرام على مصر، والأرز على لبنان، والخضراء على تونس…الخ. مقهى الياسمين تتألف من أركان متعددة، تعبر عن مكونات الشعب السوري الذي يعيش في كنف هذا المقهى، أبرزها “ركن ذوي الشأن والأعيان” في إشارة واضحة لمجلس الشعب السوري، وركن الشاي الذي يدلل على العامة أو الجماهير في وطن تحوّل في الفترة الأسدية إلى جمهورية خوف ورعب تتحكم فيها عائلة الأسد، في صورة تعكس نمط الحكم الاستبدادي، الذي حوّل البلد إلى مزرعة خاصة، يستثمر فيها الطاغية كما يحلو له، ويتحكم بثرواتها ومواطنيها على هواه، والمدير الذي يدير المقهى “البلد” يتعامل مع رواد المقهى على هواه وبتعالٍ ظاهر، يبدأ يومه في صفع البعيد قبل القريب بصورة مذلة، يُهين صاحب الفكرة قبل أن يدلي بها، ويذل أصحاب الرأي، بينما يقرب المطبلين، وهزازي الرؤوس، ويلوذ به الجهلة والأفاقين، يعتمد على معاونين فاسدين، وهم ثلّة من رجال الدين، والتجار، وأنصاف السياسيين، والسماسرة والقوادين، فيما تمتد أذرعه عبر نُدُل المقهى “عمال الفتنة”، الذين ينتشرون في عموم أركان المقهى، يستمعون إلى همس وحوارات روادها، وينقلون تقاريرهم إلى السيد “دعبول” الذراع الأمني للدولة “المقهى”، ومن يبدي أية ملاحظة عابرة، أو يهمس بعبارة نشاز تدعو إلى التغيير والإصلاح، فمصيره “الغرفة المظلمة” في مقاربة مباشرة لسجون النظام وزنازينه، التي تثير الرعب والفزع في قلوب الناس.

ومثلما بدأت ملامح الحقبة الأسدية الأولى للأب تستمر الحقبة الثانية “الابن” دون أي تغيير، مع وعود أولى بالإصلاح والتغيير، لكن دون جدوى، فأي تغيير أو إصلاح محتمل سيطيح بهذه السلالة إلى مزابل التاريخ: “وعملاً بنصيحة أحد المخلصين فقد اعتمد المدير أسلوباً جديداً ومميزاً للقضاء على الرطوبة والعفن الذي أصاب الجدران، وبدلاً من معالجة المشكلة وإيجاد حل جذري لها كي لا تزداد رقعة الرطوبة وتآكل الأساس والبنيان، عمل على إخفاء هذه المشكلة بأن وزع صوره فوق كل بقعة” صفحة11، ويكتفي المدير الرئيس بالإعلان أنه لا يمتلك عصىً سحرية للتغيير والإصلاح، ويُبدع زبانيته في انتقاء صوره بأشكال متعددة تُبرز انخراطه بالحياة، وتجسد مواهبه وميوله.

يستمر الروائي في سرده للأحداث المتوالية، التي أعقبت تولي القاصر إدارة المقهى، إثر تعديل طارئ لدستورها، في صورة تعكس الإرث الأمني الذي ورّثه الأب لوريثه القاصر، الذي لا يحسن التدبير ولا الحل والربط، وعندما يصطدم ببوادر الربيع العربي في مصر وتونس وليبيا، يكتفي زبانيته في رسم ابعاد قدرتهم على ضبط أمور البلاد والعباد، فسورية “مقهى الياسمين” بمنأى عن الربيع العربي، لكن حدث ما لم يكن في حسبان أحد، فرياح التغيير أبت إلا أن تجتاح مقهى الياسمين، وشعارها الرئيس “أجاك الدور يا دكتور”، ولتعم المظاهرات عموم أنحاء سوريا، تطالب أولاً بالإصلاح، ثم فيما بعد بإسقاط النظام، إثر سقوط العديد من الضحايا في مظاهرات درعا ومشق وحمص وباقي محافظات سورية، لا يثنيها جبروت الطغيان الذي جثم على صدور العباد لمدة خمسين عاماً، ومن ثم رصد للفترة الأولى التي تميزت بالسلمية، وعسكرتها فيما بعد على أيدي النظام، ثم ارتهان المعارضة للدعم الخارجي، فتضيع أحلام السوريين بين نظام فاجر تغوّل في دماء السوريين وبين معارضة مرهونة للخارج، لم تستطع تمثل أحلام السوريين في الحرية والكرامة.

في الرواية إشارة إلى إيران “مقهى السرداب”، راعية الإرهاب، وإحدى أهم الدول الداعمة للنظام السوري، وتقديم سورية كدولة مطيعة ومرتهنة لإيران، وتصورها مشاهد مباراة كرة القدم بين الطرفين، حيث لا يمكن بحال أن يفوز فريق الياسمين على فريق السرداب، فرعاة السرداب يجب أن يحوزا على المغانم بما فيها مباراة كرة القدم حتى لو أقيمت على أرض مقهى الياسمين، ويبز الحوار بين مدرب الياسمين والسيد دعبول ما يعبر عن مدى ارتهانهم لأرباب السرداب:

المدرب للسيد دعبول:

“_ سنعزز الفارق في الشوط الثاني إن شاء الله، أعدك بذلك.

_ نتيجة شو إلي بدك تعززها بالشوط الثاني، معقول هذا الكلام! الشباب جايين من سفر وهني ضيوفنا بنقوم نخسرهم؟ شو إنتو ما بتعرفوا واجب الضيافة، ما بتستحوا على دمكم؟” صفحة 69

 “شاكر” الوجه القبيح للرجل الانتهازي، الذي يدخل كلية الاقتصاد بقفزة مظلية، وعين السلطة على الطلبة والمدرسين وإدارة الجامعة وموظفيها، الفسفوس الذي ينقل أية نأمة تصدر عنهم، والذي يكافئ ببعثة خارجية لنيل الدكتوراه، حيث يخصص جلّ وقته في رصد تحركات الطلاب وأحاديثهم، وعلاقتهم مع أبناء بلدهم أو مع أبناء البلدان الشقيقة، خصوصاً تلك التي تناصب بلدهم العداء، فالتهمة الرئيسة التواصل مع سفارة مقهى الرافدين، ويقوم بابتزاز الطلاب، ولا يسلم من أذاه أحد، فالذي لا يدفع المعلوم مصيره السجن عند وضع أول قدم له في البلد، وتمتد أذرع شاكر بعد أن ينال الدكتوراه ويعيّن مديراً عاماً لشركة السكر في صورة تكرس نمطية الفساد المتوالي في إدارة شؤون البلد ومؤسساته.

الوجه الثاني، الأكثر قبحاً، هو “سهى”، المومس التي تبيع جسدها في سبيل المال وإرضاء لشهواتها ونزواتها، وولعها بالجاه والسلطة عن طريق بذل الجسد بدءاً من “دعبول” وانتهاء بالمدير، وبالمقابل تسهم في منح المناقصات لمن يدفع أكثر، وتهب المناصب لمن يدفع ويطيع ويقاسم المدير الأرباح والمغانم.

أما بالنسبة للأكثر نضجاً، ممن يساهمون في إشعال فتيل الثورة، بدر ومحمود، اللذان يشكلان إحدى حوامل الثورة، من خلال الدعوة للتظاهر، والمشاركة فيها، ورسم سياستها وشعاراتها، وأماكن انطلاقها، وإطلاق تسميات الجمع. وثمة شخصيات ثانوية، يغلب عليها تأثير محدود في إظهار جوانب فساد السلطة الحاكمة، تاجر الحديد أحمد وزوجته ليلى، وسماسرة من تجار ورجال أمن ورجال دين فاسدين، يديرون دائرة الفساد، بما يعود بالخير والنعم على إدارة المقهى، وثمة آخرين يدورون في فلكهم، مثل لطفي عبد اللطيف، الصحفي الرخيص وصاحب القلم المأجور.

سردية “مقهى الياسمين”، محاولة لرسم معالم الثورة السورية بطريقة أدبية ناجزة، وبلغة بسيطة، تؤثث لأدب مقاوم للطغيان، وينتصر لإرادة السوريين، فيما كان الحوار مفرط بالعامية، وربما كانت لغة الحوار هي الأقل شأناً في الرواية، ولم تشكل إضافة للمحتوى الفني للرواية، بينما كانت الرموز مكشوفة، وأعتقد أنها لم تفتح باباً للقارئ لطرح مزيد من الأسئلة والاستنتاجات، وكان من الممكن الشغل على الشخصيات أكثر، خصوصاً في الإطار النفسي.

أخيراً رواية “مقهى الياسمين”، للروائي مناف محمود السيد، صدرت مؤخراً عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، وجاءت في 242 صفحة من القطع المتوسط، وهي العمل الأول في سجله الإبداعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى