مقالات

منهجية الإفساد الطائفي (الجيش ،الأمن ، الخدمة الإلزامية )

صالح موسى الحمزة

محام وكاتب سوري
عرض مقالات الكاتب

بعد انسحاب قوات الاحتلال الفرنسي من سورية سنة ١٩٤٦ لم ينته دور رعاية فرنسا للأقليات ، وبدل إنشاء دويلة مستقلة للعلويين بناء على طلبات متكررة من شيوخ و وجهاء الطائفة ، خططت لهم فرنسا للسيطرة على سوريا من خلال ( جيش المشرق ) الذي ضم الاقليات الدينية والعرقية .
رفضت فرنسا تسريح هذا الجيش وأصرت على بقائه واعتماده كنواة للجيش السوري فكان للعلويين حصة الأسد منه وبنسب متفاوتة باقي الطوائف ( دروز ، اسماعليين ، مسيحيين ) لتبدأ بعدها مرحلة الانقلابات المتلاحقة كعملية غربلة واصطفاء للوصول بالأقليات إلى الحكم .
باكورة هذه الانقلابات كانت على يد حسني الزعيم ٢٩ آذار ١٩٤٩ بدعم فرنسي أمريكي ، وتلاه انقلاب سامي الحناوي ١٤ آب ١٩٤٩ ونفذ حكم الإعدام بالرئيس حسني الزعيم ورئيس وزرائه محسن البرازي .
لم يدم انقلاب سامي الحناوي طويلاً حتى قام اديب الشيشكلي يوم ١٩ ديسمبر ١٩٤٩ بانقلاب آخر وتوالت الانقلابات بدعم خارجي، ولم تعرف سوريا الاستقرار السياسي في تلك الفترة حتى جاء انقلاب حافظ الاسد واستولى على السلطة .
حول حافظ الأسد سوريا إلى ملكية خاصة وتمكن من تصفية كل من يشك بولائه، اعتمد في ذلك على جهازي الجيش والأمن وبدعم خارجي .
لأسباب اجتماعية وسياسية واقتصادية عمد أكتر السوريين ( من السنة ) على إبعاد ابنائهم عن الخدمة الالزامية بالبدل او بالواسطة أو بالاعفاء فما بالك بالتطوع ، الأمر الذي فتح الباب واسعًا للجماعات الموالية من الطائفة العلوية التي حازت على كل المحفزات والتسهيلات للتطوع بكل مرافق الجيش ، من الأجهزة الأمنية إلى الكليات الحربية ومدارس الشرطة .
تشعبت قوى الجيش واصبحت تتدخل بكل شاردة و واردة بحياة الفرد ؛ أمن عسكري ، أمن جوي ، أمن سياسي ، أمن دولة ، فرع فلسطين ، المخابرات الخارجية .
هذه الأجهزة مرتبطة بالقصر الذي حمى نفسه بفرق خاصة استلم قيادتها أقرب المقربين من حافظ الأسد .
بعد السيطرة على الجيش والأمن بدأ التمدد لباقي مؤسسات الدولة كالوزارات ودوائر الدولة ومراكز الاقتصاد والثروة الوطنية .
تحول كبار الضباط في الجيش إلى سماسرة في تجارة السلاح بمنطقة الشرق الأوسط ،ولم يعد هناك سلاح واحد يدخل إلى المنطقة إلا عبر عملاء سوريين لتجار السلاح العالمين ، وتحولت السفارات السورية الى مكتب تصدير وثيقة END USER أي المستفيد الأخير وهي عملية التفاف على القوانين الدولية لبيع السلاح للدول الممنوع بيع السلاح إليها .
تحول الجيش من قوة عسكرية مهمتها حماية الوطن إلى مؤسسة تجارية صناعية خدمية ، ودعم النظام فكرة الهيمنة على مرافق الدولة كتصنيع الحديد والمستلزمات المنزلية وبناء الجسور والطرقات وذلك كله عبر مؤسسة ( الإسكان العسكري ) .
التي أصبحت المؤسسة الانتاجية الأولى في الوطن وأصبحت قوى الجيش تهتم بصناعة الأثاث والمدافئ والبطانيات والمناديل الورقية ، وبذلك تم امتصاص ماتبقى من اليد العاملة في الطائفة العلوية ممن لم تناسبهم الخدمة العسكرية وبخاصة أنها تدفع أجورًا أعلى من المتعامل بها في باقي الوظائف .

إفساد الأمن في المجتمع السوري:

الحديث عن أجهزة الأمن في سوريا يعني الحديث عن الفساد بأصوله المنظمة بشكل مافوي ؛ ونأخذ الأمن العسكري كمثال لما له من سلطة وتأثير تكاد تفوق سلطة أقوى الضباط وأرفعهم رتبة .
الموظف البسيط بطريق أو أخرى يتم تشجيعه على الرشوة وحثه على التعامل بها جراء الحاجة والرغبة، وحتى الضغط عليه أو التخلص منه .
يتم تشكيل إضبارة لكل موظف يستطيع الأمن العسكري إخراجها ساعة الحاجة ( لشد أذن الموظف ) وأحيانا التخلص منه بتهمة أكبر .
الأصل في مهمة عنصر الأمن حماية أمن الوطن والمواطنين ، في سوريا الأمر مختلف تمامًا ، الخوف من عناصر الأمن أكبر من الخوف من أي عدو خارجي .
أصبحت الآلة الأمنية هي القائد وصاحب القرار بالوطن ، وكان الفساد والرشوة وخلق الحاجة لدعم ووساطة ضباط الأمن هي الطريق الوحيد، وأصبح الفساد ضرورة لأغلبية طبقات المجتمع ووسيلة حياة .
تشكّلت مافيات محلية ( مكاتب سمسرة علنية ) للوساطات وتسير الأمور ترتبط بضباط أمن كبار لهم سماسرة ( مفاتيح ) كما يحلو للبعض تسميتهم. واصبحت أي وظيفة أو معاملة بدوائر الدولة تمر عبر هذه القنوات .
لم ينته الأمر عند هذا الحد ، بل تطور مع ضباط الأمن ووصلت الجرأة بهم إلى مشاركة التاجر والصناعي والحرفي بعمله ،ولهم القدرة على وقف اي معاملة او تيسيرها .

الخدمة الإلزامية
كمرحلة خطيرة من مراحل إفساد المجتمع السوري .

في ١٩ كانون الأول عام ١٩١٩ صدر قانون التجنيد الإجباري عن مجلس المديرين في الحكومة العربية بدمشق
وبتاريخ ١٥ كانون الاول ١٩٤٧ صدر القانون ٣٥٦ الخاص بالخدمة الإجبارية ثم تبعه القانون ٨٧٤ المنظم لأعمال مديرية التجنيد العامة وشعبها، وكانت اول قرعة سيقت للخدمة الالزامية هي مواليد ١٩٢٩ كان تعدادها ( ٤٥٠٢٩ ) مكلفًا سيق منهم ( ٢٠٩١١ ) للخدمة ،والباقون لم يتم سوقهم لأسباب مختلفة منها التأجيل الدراسي والإداري والموانع الصحية، والإعالة ودفع البدل ،وغيرها من الحالات التي لا يسمح بها القانون ، ثم صدر المرسوم االتشريعي رقم ١١٥ تاريخ ٥ /١٠ / ١٩٥٣ المتضمن قانون خدمة العلم والذي ظل معمولاً به حتى صدور المرسوم التشريعي رقم ٣٠ لعام ٢٠٠٧.
مرحلة الخدمة الإلزامية منذ تولي الطائفة العلوية مفاصل الجيش والامن تعتبر أسوأ مرحلة إفساد أخلاقي واجتماعي ونفسي تعرض لها الشباب السوري.
اغلب قوانين الخدمة الإلزامية في دول العالم حددت السن القانوني لها بعد سن العشرين، أما قانون الخدمة الإلزامية السوري جعلها في سن الثامنة عشرة مع فرض عقوبات شديدة والملاحقة وإحضار (المتخلف) قسّرًا لمجرد التخلف عن الالتحاق بمدة قصيرة .
يركز كثير من علماء الاجتماع على حساسية هذا العمر تحديدًا، ويعتبر بداية تشكل الشخصية بشكل عملي .
في هذه المرحلة العمرية تكون شخصية الشاب تشبه الورقة البيضاء أو العجينة الطرية تتكون تبعًا للمستقبلات والمؤثرات الخارجية ،وهي المرحلة التي يسميها علماء الاجتماع ( مرحلة البحث عن القدوة أو المثل الأعلى ) .
تبدأ المأساة في عملية الخدمة الإلزامية مع مراجعة شعب التجنيد ، الروتين والبيروقراطية المقيتة والتعقيد ( المتعمد) تكاد تكون الصفة المشتركة لكل موظفيها .
مع دخول الشاب المجند باب القطعة العسكرية تبدأ أولى مراحل تحطيم الشخصية ، يتعرض خلالها المجند لشتى أنواع الإهانة والإذلال وتحطيم الثقة بالنفس وكسر عزتها واحترامها .
لا يتم ذلك تحت مسمى ( طاعة المرؤوس لرئيسه ) أو صناعة الجندي الصلب القوي، وإنما تتم بشكل طائفي ممنهج لا ينساه من مرّ بهذه التجربة .
في القطعة العسكرية يتحول المجند إلى مجرد رقم، ووعاء يفرغ فيه الضابط العلوي كل عقد النقص التي يعاني منها ، سب الذات الإلهية من أساسيات فرض السطوة عند الضابط العلوي، فضلاً عن شتم الأعراض لأتفه سبب صفة ملازمة وقاسم مشترك لدى كل أفراد هذه الطائفة ،أما شرب الخمرة والتفاخر بشربها أمام العناصر فهو طقس يومي عند الضابط المناوب .
سياسة التجويع في القطع العسكرية، وسرقة طعام المجندين من قبل ضباط الإطعام ودفعهم للسرقة أو الأكل من ( الندوة ) والتي يكون مالكها أحد الضباط المقربين من قائد الفرقة فهو أمر ملازم لكل قطعة عسكرية .
ويطول الحديث عن موضوع الرشاوي في الجيش السوري التي يتلقاها الضباط العلويون لاعفاء عساكرهم من التواجد بالقطعات، أو تكليفهم بمهمات بمزارع الضباط الخاصة مثل الحصاد والفلاحة وتحويل المجند لخدمة أسرة الضابط وأقاربه، وكثيرًا ما كانت الخدمة الإلزامية للوطن تكلف العسكري مبالغ شهرية كبيرة ،وأكثر سماسرة تلك العمليات زوجات الضباط وأمهاتهم .
لا تنتهي فترة الخدمة الإلزامية إلا وقد تشكّلت شخصية اخرى للشاب البسيط القادم من بيئة محافظة ملتزمة، سنتان ونصف وقبلها كانت ثلاث سنوات فترة الخدمة الإلزامية كافية لتجعل من ذلك المجند صورة مصغرة عن ذلك ( القدوة والمثل الأعلى ) الضابط العلوي .
يعود المجند إلى بيئته الاجتماعية محملا بكم هائل من العقد والكره والاضطراب السلوكي، وقد تحطم لديه كل ما هو مقدس ، لم يعد يهتم لأمر دينه فالصلاة محرمة عليه في قطعته ،وتعد جريمة قد يحول بسببها إلى المخابرات الجوية وسب الذات الالهية تحول عنده إلى شيء طبيعي لانه اعتاد على سماعه بشكل يومي من المثل الأعلى ( الضابط العلوي المسؤول عنه ) .
يفقد الاحترام لوالديه لانه يسمع مسبتهما بشكل يومي حتى تبلدت لديه مشاعر الحب والغيرة تجاههما .
الجرأة على الرشوة واعتبارها (شطارة وتمشاية حال) والسرقة و أخذ ملك الغير بالقوة ، العصبية المفرطة لاتفه سبب فقدان الثقة بالذات وبالمحيط الاجتماعي كوابيس مابعد انتهاء الخدمة والتي قد تستمر طوال حياته ، كل هذه العقد وأكثر كانت بذورها قد زرعت جبرًا في ( الخدمة الإلزامية )

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى