ثقافة وأدب

عبد الله الغذامي : لماذا يحابي المرأة ويشمت بالرجال ؟ (2 من 2)

أ.د. إبراهيم عوض

كاتب ومفكر مصري.
عرض مقالات الكاتب

ومن الناحية الأخرى لا ينبغى أن ننسى أن الرجل أيضا يمكن أن يكون مقموعا وتشترك فى قمعه المرأة كما هو الحال فى حالة فيصل أحد أبطال رواية “بنات الرياض”، الذى كان يحب ميشيل الأمريكية السعودية، ثم حين فاتح أمه برغبته فى الاقتران بها ثارت عليه ورفضت الفكرة، وكانت هى أول عائق فى سبيل تحقيق سعادته بحجة التقاليد وما إلى ذلك. ومثله فى ذلك فراس فى نفس الرواية. وأحيانا ما يطلِّق الرجل زوجته التى يهيم بها نزولا على إرادة أمه. فهذا قمع له على أيدى النساء. كما كان كثير من زوجات الملوك يقمعنهم فى غير قليل من الأحيان وينزلونهن على رغبتهن دون أن يملكوا لما يقلن رفضا. وبالمثل تتحكم كثير من الزوجات فى أزواجهن ويقمعنهم. فليس القمع، إن كان هناك قمع عام للمرأة ولم تكن المرأة راضية بالوضع لا ترى فيه غضاضة وتراه شيئا عاديا ولا تجده قمعا ولا يحزنون، هو من الرجل للمرأة دائما، بل قد يكون من المرأة للرجل أيضا.كذلك ينبغى التفرقة بين القمع المزعوم فى كثير من الحالات وبين قِوَامة الرجل على زوجته. فالحداثيون، الذين يهرفون بما لا يعرفون ويروجون ما يُطْلَب منهم ترويجه لمصلحة بعض الجهات، يخلطون بين هذا وذاك. نعم نحن مع قوامة الرجل على المرأة، لكننا فى ذات الوقت لسنا ولا يمكن أن نكون مع قمع الرجل للمرأة، بمعنى حرمانها من حقوقها وإهانتها وتحقيرها والنظر إليها على أنها أدنى فى الإنسانية من الرجل أو التطير بها على أساس أنها شؤم أو أن مشورتها تؤدى إلى خراب البيوت… إلى آخر هذا الهراء السمج، أما نشوزها على زوجها دون سبب سوى الاستجابة لما يروجه ويَزِنّ به على آذانها شياطين الإنس المدخولو الضمير الفاسدو النية فهذا ليس من الحقوق النسائية فى شىء، بل هو فراغ فى العين والعقل والقلب والضمير، والعياذ بالله. وإلا فهل كانت أمهاتنا وجداتنا وعماتنا وخالاتنا وأخواتنا وجداتنا مقموعات لا قيمة لهن فى نظر أزواجهن ويعاملونهن كما لو كن حيوانات لا إنسانات؟ معاذ الله أن يكون هذا هو الوضع.ومن تناقضات د. الغذامى أيضا التى تدل على الافتقار إلى التفكير المحكم اندفاعه (ص72) فى الهجوم الصاعق على شهريار لأنه كان يقتل كل ليلة فتاة، وامتداحه فى نفس الوقت المجتمع النسائى الذى كان يقتل كل ولد يولد لأية امرأة منه وترحيبه وسروره الشديد بذلك (ص112- 113)، مع أن جريمة شهريار لا تتسامى إلى جريمة ذلك المجتمع النسائى كما هو واضح، إذ أقصى ما كان يفعله هو قتل زوجاته لما قاساه من خيانة بعضهن له، فى حين أن النساء فى تلك المجتمعات قد نَفَيْنَ الرجال تماما، فكن يقتلن كل وليد ذكر، ويستقبلن بالليل الرجال ينامون معهن ثم ينصرفون بعد ذلك عن البلد. ألم أقل إن الأمر يحتاج إلى تشريح نفسى يضع الأمور فى نصابها فنعرف لم كل هذا العداء لجنس الرجال تظاهرا بالعطف على جنس النساء والزعم بأنهن مظلومات مقموعات، على شِنْشِنَة الغربيين، الذين يسعدون حينما يجدون من بين ظهرانينا نحن العرب والمسلمين من يردد كلامهم الذى يَدَّعُونه علينا وعلى مجتمعاتنا وقيمنا وديننا وأوضاعنا؟ ومن الغريب غير المفهوم أن يصف د. الغذامى (ص113- 114) ما قاله القزوينى فى”آثار البلاد وأخبار العباد” عن الجزيرة التى لا يسكنها سوى النساء وعن تلقحهن من الريح ومن ثمار شجرة عندهن يأكلنها فيحبلن، بأنه خيال من خيالات النساء ردا على تعسف الرجال معهن، إذ أردن ألا يكون للرجال فى حياتهن وجود، مع أن راوى القصة رجل هو القزوينى لا امرأة، كما أنه لم ينقلها عن امرأة، بل هى قصة منتشرة يرويها الجميع، ورواتها هم الرجال لأن الرجال فى تلك العهود كانوا هم الرحالة الذين يسافرون إلى البلاد البعيدة ويعودون فيحكون مثل تلك الحكايات. ولقد نص القزوينى نفسه على أن رجالا من الصين هم الذين أَتَوْا بخبر هذه الجزيرة بتكليف من ملكهم. لكن د. الغذامى يتجاهل هذا كله وينسب اختراع الحكاية إلى النساء، اللاتى يزعم أنهن إنما ابتدعنها انتقاما من جنس الرجال. ومن المضحك، ومعظم ما يكتبه مضحك، أنه يجعل من “ألف ليلة وليلة” ردا أنثويا قويا على الفحولة الذكورية عند العرب (ص114)، مع أن أصلها فارسى لا علاقة له بالعرب من بعيد ولا من قريب. ولكن متى كان د. الغذامى يهتم بمنطق أو عقل أو تاريخ؟ على أنه إذا كان فى الكتاب بعض حكايات تنتصر للمرأة فكثير من حكاياته يحمل على المرأة حملة شعواء ويصورها خائنة مستعدة للانحراف مع أول سانحة، ويرسم للرجل لوحات ساطعة تظهره بطلا مقداما ومَلِكا كريما وقائدا مغوارا وزوجا شهما وتاجرا بارعا ورحالة مغامرا لا يأبه بالأخطار وراوية فاتن القصص والحكايات… إلخ. فيا هل ترى ماذا يقول د. الغذامى فى هذا؟وفى الصفحتين السابعة والستين والثامنة والستين يقول الغذامى: “تقوم “ألف ليلة وليلة” على الحَكْى (المشافهة) بين امرأة وزجها. وهذا يعنى تحديد المجال حسب حدود المسافة ما بين اللسان والأذن، وما بين الجسد والجسد. والعلاقة بين المرسِل والمرسَل إليه هى علاقة زواج وإفضاء، والحدود بينهما تضيق وتتقارب إلى الملامسة والمهامسة. وهذا هو مجال الأثنى، التى يعمل اللسان بالنسبة لها بوصفه آلة الاتصال والتعبير الوحيدة. وليس للمرأة فى زمن الحَكْى (ما قبل زمن الكتابة) سوى اللسان وسيلة وأداة للاتصال. وتختلف وظيفة هذه الآلة عن حالها عند الرجل، فالرجل يستعمل اللسان للخطابة والاتصال الجماهيرى، أما المرأة فتحكى فى مجال محدد ومؤطَّر مثل لسان شهرزاد، الذى يتجه إلى مستمع محدد وفريد. وهذا هو المجال الأنثوى بحدوده المرسمة المقررة”. هذا ما قاله د. الغذامى نصا، وواضح أنه لم يحدد لنا متى بدأ زمن الكتابة، بل أطلق الكلام إطلاقا على عادته فى ترك قلمه يسير على هواه دون أن يلجمه بلجام المنطق، وإن كان لنا أن نفهم من خلال كلامه أن “ألف ليلة وليلة” تنتمى إلى ما قبل زمن الكتابة، وإلا ما قال إن حكايات شهرزاد تنتمى إلى زمن الحكى والمشافهة . وبطبيعة الحال هذا كلام فى الهجايص لأن الكتابة معروفة قبل ذلك بأحقاب وأحقاب، والكتب موجودة فى الحضارة البشرية منذ قرون طوال. وهذا مما لا يجهله أحد، إلا أن د. الغذامى، على طريقته فى الافتتان بالألفاظ دون مبالاة بما تعنيه، يقول عكس ذلك تماما. كذلك فمعنى كلام الغذامى هو أن وظيفة المرأة فى ذلك الزمن وما قبله هى الحكى فقط، والحكى الفردى لرجل واحد. فهل هذا صحيح؟ لقد كان عندنا فى الجاهلية كواهن وخطيبات كالشعثاء وكاهنة ذى الخُلَصَة والكاهنة السعدية والزرقاء بنت زهير والغيطلة القرشية وزبراء كاهنة بنى رِئام وسجاح وسلمى الهمدانية وكاهنة ذى الخُلَصَة وعفيراء ، وكن يخاطبن الرجال والنساء على السواء. كما أن عدد الخطيبات فى الحضارة الإسلامية إلى ما قبل “ألف ليلة وليلة” غير قليل. ومن الخطب النسائية فى تلك الحقبة خطبة سَفّانة بنت حاتم الطائى بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخطبة الخنساء فى تحريض أولادها على القتال، وخُطَب عائشة فى الانتصار لأبيها وفى رثائها له وعند مقتل عثمان وفى المربد وفى وقعة الجمل وفى البصرة، وخطب عكرشة بنت الأطرش وأم الخير بنت الحريش والزرقاء بنت عدىّ فى صفين، وهن شيعيات. ويجد القارئ خطبهن فى الجزء الأول من كتاب “جمهرة خطب العرب” لأحمد زكى صفوت. وفى الجزء الثانى من هذا الكتاب و”بلاغات النساء” لابن طيفور على سبيل المثال خُطَبٌ لعائشة والزهراء وزينب وأم كلثوم بنتى على وحفصة أم المؤمنين وأروى بنت الحارث بن عبد المطلب فى حضرة معاوية توبخه وتعترض على بعض ما وقع منه، وسودة بنت عمارة الهمدانية ترد عليه حين شمت بها لوقوفها مع على ضده، وصفية بنت هشام المنقرية، وسودة بنت عمارة، وأم سنان بنت خيثمة، وبكارة الهلالية، وأم البراء بنت صفوان، ودارمية الحجونية، وامرأة أبى الأسود الدؤلى، إلى جانب خطب ووصايا لبعض الأعرابيات ممن لم تردنا أسماؤهن. ثم لا ننس أن الشاعرات كثيرات يُعْدَدْن بالعشرات، وربما بالمئات. كما أن الفقيهات والمحدثات كن يعلِّمن جموعا كبيرة من الرجال والنساء ولا يخاطبن رجلا واحدا عكس ما يقول د. الغذامى، وهو ما ينسف كل دعاواه فى هذا الصدد. ثم ما القول إذا عرفنا أن مبدعى “ألف ليلة وليلة”، بما فيها شخصية شهرزاد ذاتها هم من الرجال كما نعرف، وكما هو واضح من زاوية السرد ورؤية الأشياء والأشخاص فى ذلك الكتاب، إذ هى زاوية رجالية بامتياز، فضلا عن أن تحليل الغذامى يقول إن وظيفة المرأة هى الحكى، والحكى لرجل واحد، فى حين أن “ألف ليلة وليلة” هى حكايات مكتوبة منذ كانت لا تزال فارسية لم تعرَّب بعد. ثم إن الكتابة والكتب كانت معروفة عند المسلمين قبل أن يعرفوا تلك الحكايات بأزمان. والمضحك أن د. الغذامى، بعد ذلك كله، ينسى ما قاله عن أن المرأة فى “ألف ليلة وليلة”، متمثلةً فى شهرزاد، إنما تمارس الحكى لرجل فرد، فيؤكد فى موضع آخر من كتابه (ص114) بأن ما فعلته شهرزاد إنما هو كتابة اقتحمت عالم الرجال واحتلت مدوناتهم وكتبهم، ضاربا عرض الحائط بكل ما طنطن به من قبل.ويقول الغذامى أيضا (ص59- 60) إن شهرزاد، بتأليفها “ألف ليلة” قد نجحت فى معركتها مع الرجل، إذ عرفت كيف تستخدم اللغة وكيف تجعلها مجازا محبوكا ومشفَّرا، منتقلة بهذا من موقف المهزوم إلى موقف النِّدّ. والغذامى هنا يتصور أن هذه أول مرة تشترك المرأة مع الرجل فى استخدام اللغة، وكأنها لم تكن تستخدم اللغة منذ أول الخليقة، وكأنها لم تكن شاعرة وحَكَّاءة منذ وقت طويل، بل وكأنها هى فعلا مؤلفة “ألف ليلة وليلة”، خالطا على هذا النحو الساذج بين قيام شهرزاد بالسرد داخل الكتاب وبين تأليفها للكتاب ذاته، مع أن هناك فرقا كفرق السماء عن الأرض بين هذا وذاك. ومع هذا فإنه، انطلاقا من الإيهام بأن شهرزاد هى مؤلفة الكتاب، يشبّه الشكل القصصى فيه بالجسد الأنثوى. فكما أن الجسد الأنثوى يتوالد ويتناسل فكذلك تتوالد الحكايات فى الكتاب متناسلا بعضها من بعض، وذلك رغم أن الكتاب صناعة رجالية. ثم ما معنى أن الجسد الأنثوى يتوالد ويتناسل؟ أليس التوالد والتناسل مما يعم الرجال والنساء جميعا، ويعم الحيوانات والنباتات أيضا؟ لكن متى كان د. الغذامى يبالى بأصول المنطق أو حقائق الحياة ووقائع التاريخ؟ إن الغذامى، كما أقول دائما، لا يبالى أين تقع كلماته ولا أن تكون مخالفة لكل الأصول والحقائق والوقائع. أرأيت قطارا منطلقا دون فرامل يفكر فى الحقائق والوقائع أو فيما يعتقده الناس أو ينكرونه؟ فهذا هو حال د. الغذامى إذا تكلم أو كتب. لا مبالاة عنده بعقل أو منطق. لا اعتبار عنده لأى شىء. إنه يكتب لأن شهوة الكلام لديه غلابة، فهو يريد أن يتكلم، والسلام. ليس مهما أن يقول شيئا صحيحا ولا نافعا ولا متسقا مع المنطق ولا محترِما للعقل. إنه يشتهى الكلام اشتهاء قاهرا. المهم أن يضع فى ذهنه أن يؤلف كتابا، ثم ينطلق بسرعة القطار وبعنف وابور الزلط محطما كل ما يقابله فى طريقه غير متنبه إلى أنه يدوس العقل والمنطق ويكتسحمها اكتساحا. إن لذة الكلام لديه تغطى على كل شىء آخر.كذلك من تناقضات الغذامى التى لا تنتهى أنه، بعد كل هذا المديح الهائل الذى كاله كيلا للمرأة ولكتاب “ألف ليلة” بوصفه نصا أنثويا تسلطت به المرأة على الرجال وأخضعتهم لما تريد، يعود (ص75) فيقول إن هذا الكتاب قد أُلِّف لترجيح كِفَّة الذكور على كِفَّة النساء. ومع ذلك يقول عقيب هذا إن الكتاب يصور النساء ذوات مكانة جليلة عند أزواجهن وأبنائهن. فانظر إلى مقدار التناقض الذى يعج به الكتاب وتعج به سائر كتابات د. الغذامى إلى حد التغثية! ثم إن سخافات الكتاب لا تنتهى هنا، إذ نراه يقول (ص80) إن مؤلفى “ألف ليلة” قد خجلوا من وضع اسمهم عليها لأنها مروية على لسان المرأة، مع أنه من المعروف فى الأدب الشعبى كله أن مؤلفيه مجهولون لأن كل نص من نصوصه لا يؤلَّف دفعة واحدة، بل يبدأ أولا عملا شفاهيا، ثم ينمو مع الأيام بإضافة كل جيل شيئا إلى ما ورثه عن الأجيال السابقة حتى ينتهى به الأمر إلى التثبيت الكتابى. وهذا ملحوظ فى المواويل والسير الشعبية والأمثال. ويلحق بها كتاب “ألف ليلة وليلة”، إذ هو إبداع شعبى. وعلى كل فإن كلام الغذامى الأخير هو ضربة فى الصميم لكلامه السابق الذى امتدح به شهرزاد بوصفها مبدعة الحكايات فى الكتاب. ولكن لا ينبغى أن يشغل القارئُ نفسَه بهذا التناقض والتهافت، فهكذا كان د. الغذامى، وهكذا هو الآن، وهكذا سيظل بمشيئة الله ما بقى من عمره، أطال الله عمره حتى نجد شيئا نكتب عنه ونضحك منه. وهو لا يعجبه أبدا فى الرجال العجب ولا الصيام فى رجب، فهو دائم التشكى من الرجال، وكأن بينه وبينهم ثأرا، إذ عندما اقتحمت المرأة ميدان الكتابة، طبقا لما قاله من دعاوى فارغة، ظل يشكو من أن ميدان الكتابة محكوم بقوانين ذكورية (ص47). والسؤال الآن هو: ترى لماذا لا تحاول المرأة تغيير تلك القوانين حتى يسكت أمثاله عن تلك الشكوى التى يزعجنا طوال الوقت بها؟وبالمثل يزعم د. الغذامى (ص100) أن المكاتبة فى المجتمع العربى قديما كانت فى الشر والفحش لا غير، وأن النساء لم يكنَّ يعرفن الكتابة بل المكاتبة، وفى الشر والفحش بطبيعة الحال. ويستدل على ذلك بنص كتبه الجاحظ (ص157 أيضا) سنورده توا، مع أن الجاحظ إنما يتحدث عن مكاتبة القيان لعشاقهن لا المكاتبة بوجه عام، وإلا فقد كان ثمة مكاتبات بين الرسول وولاته، وبينه وبين الملوك من حوله. كما أن هناك مكاتبات بين العلماء بعضهم وبعض، وبين الملوك والملوك، وبين الخلفاء وولاتهم وقوادهم، وبين الأصدقاء بعضهم وبعض، وبين المواطنين والمصالح الحكومية، وبين الزوج وزوجته، وبين الحبيب وحبيبته… فكيف تواتى الغذامى نفسه على كتابة هذا السخف؟ ثم إن الكتابة ليست هى المقابل للمكاتبة، بل المكاتبة نوع من أنواع جنس الكتابة كما هو معلوم. وعلى أية حال ها هو ذا ما قاله الجاحظ عن المكاتبة مما يعتمد عليه الغذامى فى زعمه الباطل: “والمقيِّن يأخذ الجوهر ويعطي العَرَض، ويفوز بالعين ويعطي الأثر، ويبيع الريّح الهابَّة بالذهب الجامد، وفلذ اللجين بالعسجد. وبين المرابطين وبين ما يريدون منه خرط القتاد لأن صاحب القيان لو لم يترك إعطاء المربوط سؤله عفةً ونزاهةً لتركه حذقًا واختيارًا وشُحًّا على صناعته ودفعًا عن حريم ضيعته لأن العاشق متى ظفر بالمعشوق مرةً واحدة نقص تسعة أعشار عشقه، ونقص من برِّه ورِفْده بقدر ما نقص من عشقه. فما الذي يحمل المقيِّن على أن يهبك جاريته، ويكسر وجهه ويصرف الرغبة عنه؟ ولولا أنه مثلٌ في هذه الصناعة الكريمة الشريفة لم يسقط الغيرة عن جواريه ويُعْنَى بأخبار الرقباء، ويأخذ أجرة المبيت ويتنادم قبل العشاء، ويُعْرِض عن الغمزة، ويغفر القبلة، ويتغافل عن الإشارة، ويتعامى عن المكاتبة، ويتناسى الجارية يوم الزِّيارة، ولا يعاتبها على المبيت، ولا يفضُّ ختام سرّها، ولا يسألها عن خبرها في ليلها، ولا يعبأ بأن تُقْفَل الأبواب، ويُشَدَّد الحجاب، ويُعَدّ لكلّ مربوطٍ عُدَّةً على حدة، ويعرف ما يصلح لكلِّ واحدٍ منهم، كما يميّز التاجر أصناف تجارته فيسعِّرها على مقاديرها، ويعرف صاحب الضياع أراضيه لمزارع الخضر والحنطة والشعير. فمن كان ذا جاهٍ من الرُّبَطاء اعتمد على جاهه وسأله الحوائج. ومن كان ذا مالٍ ولا جاهَ له استقرض منه بلا عينة. ومن كان من السُّلْطان بسببٍ كُفِيَتْ به عادية الشُّرط والأعوان، وأُعلنت في زيارته الطبول والسَّراني، مثل سلمة الفُقَّاعي، وحَمْدون الصِّحنائي، وعليّ الفاميّ، وحجر التَّوْر، وفقْحة، وابن دجاجة، وحفْصويه، وأحمد شعْرة، وابن المجوسيّ، وإبراهيم الغلام. فأيُّ صناعة في الأرض أشرف منها؟ ولو يعلم هؤلاء المسمَّوْن فرق ما بين الحلال والحرام لم ينسبوا إلى الكشْخ أهلها لأنّه قد يجوز أن تباع الجارية من الملئ فيصيب منها وهو في ذلك ثقةٌ، ثم يرتجعها بأقلَّ مما باعها به فيحصل له الرِّبح، أو تُزوَّج ممن يثق به ويكون قصده للمتعة. فهل على مزوَّجة من حرج؟ وهل يفرُّ أحدٌ من سعة الحلال إلاَّ الحائن الجاهل؟ وهل قامت الشهادة بزناء قطُّ في الإسلام على هذه الجهة؟…”. وفضلا عن ذلك ليس هذا كلام الجاحظ بل كلام بعض الناس الذين ذكرهم فى مقدمة رسالته عن القيان، ولعلهم من القيانين. كما أن أبا الثناء الآلوسى إنما تكلم عن الكتابة لا المكاتبة، ودعا إلى منع النساء من الكتابة، الكتابة بإطلاق، وعنوان مخطوطه هو: “الإصابة فى منع النساء من الكتابة” (انظر ص157).كذلك يقول د. الغذامى (ص30- 31) فى زعم من مزاعمه المتهافتة إن الرجل هو الذى يقدم المرأة فى الأفلام وغيرها بوصفها جسدا محضا، متجاهلا أن النساء اللاتى التحقن بعملية الإخراج السينمائى مؤخرا يفعلن أيضا الشىء ذاته مثل إيناس الدغيدى ، كما أن ممثلات السكس يفتخرن بذلك ويعترضن على أى رجل ينتقدهن. ثم إن الغالبية من الرجال العاديين، لا الدعاة والمصلحين والوعاظ والعلماء فقط، يُهِيبون بالنساء اللاتى يتاجرن بأجسادهن إلى التوبة، إلا أن الغالبية منهن لا يستجبن إلى دعوة الرجال لهن بترك صناعة الإغراء والتزام أسلوب محترم من العيش لا يختزلهن فى إثارة الشهوة فقط. كذلك ففى كل مكان فى العالم توجد بيوت دعارة تشرف عليها وتديرها نساء قوادات، ولا علاقة للرجال بها. وهناك الآن كاتبات عاريات القلم كليلى البعلبكى وغادة السمان وأحلام مستغانمى وفضيلة الفاروق وسلوى النعيمى وإلهام منصور وسوسن السودانى وعالية ممدوح وزينب حفنى ورجاء الصانع ووردة عبد الملك وعفاف البطاينة وليلى الأطرش وليلى العثمان وبلقيس حميد حسن وجمانة حداد يتحدثن عن هذا الجانب بحرية صادمة، وبعضهن يوغل فى هذه الحرية إلى آماد لا يمكن تصورها. وهذا عندنا نحن العرب فقط، وهن مجرد أمثلة لا يقصد بها الاستقصاء، فما بالنا بالآداب العالمية، والغربية منها بالذات؟ونظرة سريعة إلى المعاجم الخاصة بذلك الضرب من الأدب ترينا صحة هذا الذى نقول، إذ إن كثيرا من النساء يشاركن فى هذا اللون من الكتابة العارية. فهل يقول الغذامى إن الرجال هم الذين أجبروهن على ذلك؟ وماذا يقول كذلك عن السحاق؟ أهو أيضا مما يكره الرجال النساء على ممارسته؟ وما رأيه فى الكاتبات السحاقيات وكثرتهن فى الآداب العالمية؟ هل الرجال وراء ذلك أيضا؟ وأمامى الآن، وأنا أكتب هذه السطور، معجم “Historical Dictionary of Lesbian Literature”، لمريديث ميلر، وهى أستاذة أمريكية سحاقية فيما يبدو، وتكتب عن المؤلفات الغربيات اللاتى تدور كتاباتهن حول ذلك النوع من الشذوذ الجنسى. وما رأيه فى إرشاد مانجى السحاقية البانجلاديشية الكندية التى تقدم برنامجا فى التلفاز الكندى تدعو فيه إلى الشذوذ الجنسى لواطا وسحاقا، وأَلَّفَتْ أو أُلِّف لها كتاب تدعو فيه إلى تعديل الإسلام على طريقتها هذه الشاذة، وتجرّم كفاح الفلسطينيين لاسترداد حقوقهم المهدرة فى وطنهم وتتهمهم بالإرهاب، وتناصر الصهاينة، وتهاجم القرآن وتسخر من المسلمين، وتفتخر بأمها لأنها تتفهم وضعها وتبارك سحاقيتها؟ وما رأيه أيضا فى د. أمينة ودود، التى قرأتُ فى ترجمتها بالنسخة الفرنسية من موسوعة “الويكيبيديا” ما يقال من أنها تبارك الشذوذ الجنسى وتقول بتحليله؟ أأمضى فى هذا الموال النتن؟ أم هل هذا يكفى فى أن يعرف القراء كيف أن د. الغذامى لا يمكن أن يكتب شيئا منضبطا فيه عقل ومنطق حتى فيما هو واضح تمام الوضوح لا يحتمل جدالا ولا مراء؟ وبالمناسبة فهؤلاء اللاتى ذكرتهن هنا هن من النساء اللاتى يتمردن على الرجال. أقول هذا حتى لا يتحجج الغذامى ومن على شاكلته بأنهن يخضعن للرجال، مع أن مثل تلك الحجة هى حجة عليهم لا لهم، لأن معناها أن النساء لا يستطعن أن يكن مستقلات فى أخلاقهن وتصرفاتهن، وهو ما ينفونه بشدة.ثم هل النساء ملائكة مبرأة من الشهوات والانحراف، والرجال أولاد ستة وستين؟ نعم هناك رجال يستأهلون الضرب بما فى القدم، ومنهم أولئك الكتاب السعوديون مدعو الليبرالية الذين فضحتهم الكاتبة السعودية د. نورة الصالح منذ عدة سنوات حين ذكرت أن كل همهم فى اجتماعاتهم بهن بعيدا عن العيون هو إغراء النساء اللاتى يصدقن ليبراليتهم بشرب الخمر والتفلت من الدين والتحلل الأخلاقى، وأن هذا هو كل ما يفهمونه أو يطبقونه من الليبرالية . بل لقد ازداد هذا الوضع فى عصرنا الحالى حيث اشتدت دعوة النسوية واستقلال النساء تماما عن الرجال بما يقطع الطريق على أى مكابر يزعم أن الرجال هم المسؤولون عن انحراف النساء. إننا لا نحمّل النساء تبعة انحراف الرجال، وبالمثل لا نقبل تحميل الرجال مسؤولية انحراف النساء. وأيا ما يكن الأمر فما العيب فى أن ينظر الرجل إلى المرأة مثلما تنظر هى أيضا إليه جنسيا وعاطفيا؟ أليس هذا سببه أن الله قد خلق البشر رجلا وامرأة؟ وإلا فلماذا لم يخلقهما نوعا واحدا يجد كل فرد منه اكتفاءه فى ذاته دون التطلع إلى النصف الآخر؟ وما الفرق إذن بين الرجل والمرأة إذا كانت نظرة كل من الجنسين إلى الآخر كنظرته إلى أحد أفراد جنسه؟ ولماذا لا يكتفى أفراد كل من الجنسين بصداقتهم لأبناء جنسهم إذن؟إن كثيرا من اهتماماتنا نحن الرجال والنساء، انتبهنا إلى ذلك أو لم ننتبه، تدور حول الجنس والحب: الملابس والغناء والشعر والقصة والمسرحية والمقال والأفلام وجمع المال والالتفات فى الشوارع والطموح وأحلام اليقظة وأحلام المنام. والآن انظر إلى الغذامى (ص40) كيف يتهم العقاد بأنه ينكر على المرأة جمالها وجاذبيتها، عازيا ذلك إلى الغريزة الجنسية. والحق أن العقاد لم ينكر على المرأة جمالها، بل كان يناقش قول من يَرَوْن أن المرأة ذات ذوق جمالى راقٍ بحجة أنها جميلة، فكان جوابه أنه ليس لازما أن يكون الشخص الجميل ذا ذوق جميل. ثم استطرد قائلا إن من الفلاسفة والعلماء الغربيين الكبار من لا يَرَوْن المرأة جميلة البتة كشوبنهاور، الذى يرجع جاذبيتها إلى ما فى نفس الرجل من الشهوة والغريزة، أو يَرَوْنها جميلة لكن الرجل فى نظرهم أجمل منها كدارون. فالعقاد لم يكن يعرض رأيه بل رأى بعض مشاهير الغربيين. والغريب رغم ذلك كله أن الغذامى قد سبق أن ذكر فى موضع آخر من كتابه (ص29) أن العقاد يرى أن النساء قد خلقن جميلات لإمتاع عيون الرجال، بالضبط مثلما يمتع عيونهم منظر الفاكهة. وهو كلام ليس له من معنى إلا أن العقاد يقر إقرارا صريحا لا مواربة فيه بجمال المرأة.لقد كان العقاد مفتونا بالمرأة رغم إيمانه القوى بتفوق الرجل عليها فى العقل والقوة العضلية والقدرة على تحمل أثقال الحياة الباهظة وما إلى ذلك. وفى أشعار أديبنا ومفكرنا العملاق قصائد كثيرة تتغنى بالمرأة وجمالها وفتنتها وتصف تدلهه فى هواها، مع استعصامه فى نفس الوقت بكبريائه أمام تلك الفتنة. كما أن روايته العبقرية: “سارة” شاهد لا يُرَدّ ولا يُصَدّ على صدق ما نقول. دعنا من حوادث الرواية وحواراتها ووصفها لجمال البطلة وعواطف همام نحوها، وتعالَوْا بنا إلى الفصل الذى وقف فيه العقاد يتحدث بلسان الفلسفة والحكمة عن قوة حواء ومقدرتها على الإطاحة بكل ما يقوله المصلحون والمشترعون والوعاظ والعُبَّاد والزُّهَّاد فى التحذير من فتنتها وسحرها. فهذا الفصل العجيب وحده كاف لنسف أى وهم أو إيهام بأن العقاد يرى المرأة كائنا غير جميل. فما بالنا لو عرفنا أن العقاد قد كتب مقاله الآنف الذكر وهو فى بداية ثلاثيناته، إذ كتبه سنة 1923م طبقا لما هو مكتوب فى هامش عنوان المقال فى كتاب “مطالعات فى الكتب والحياة”، أى حين كان فى عز رجولته تفتنه المرأة وتبرجل عقله وعقل كل رجل فى هذه السن، ولم يَشِخْ بعد إلى الدرجة التى يمكن أن يتحجج معها متحجج معاند بأنه كان قد زهد فيها وفى جمالها ولم يعد يرى لها شيئا من السحر.وأنا، بَعْدُ، من أنصار الفكرة القائلة بأن المرأة لم تكن ليكون لها أى تأثير على الرجل بالغا ما بلغ جمالها كما نعرف الجمال الآن ونقدره لولا أن الله سبحانه قد نَظَّم كونه بحيث إنه متى رأى الرجل المرأة فُتِن بها وجرى ريقه ودق قلبه، وأخذ يلهث وراءها يريد الفوز بها. ولو كان عز وجل قد أجرى كونه على نظام آخر غير الذى نعرفه ما كنا لنهتم بالمرأة الجميلة (الجميلة بمقاييسنا على الوضع الحالى) أو ننفعل بجمالها أو نفكر فيها، بل لكنا ننفر منها ونشعر بالغثيان عند رؤيتها، ويكون أول ما نفكر فيه هو الهرب منها والاستغاثة بالناس أن يأتوا وينقذونا من براثنها. لكن لا ينبغى أن يفهم القارئ من كلامى هذا أننى أقصره على المرأة وجمال المرأة، بل أعممه على كل شىء فى الوجود، فأنا أومن تماما بما يقوله الإمام الغزالى، ثم أخذه لوك وهيوم وغيرهما من فلاسفة الغرب وحوروه شيئا من التحوير، من أن النار مثلا ليس من طبيعتها الإحراق، بل هى تحرق لأن الله أراد لها أن تحرق. ولو كان سبحانه وتعالى شاء لها أن تكون بردا وسلاما على من يَصْلاَها لكانت بردا وسلاما عليه… وهكذا.ويزعم د. الغذامى (ص93)، فيما يزعم، أن الجارية تودد بطلة إحدى قصص ألف ليلة فى غلبتها للرجال فى حوارها معهم تختلف عن نموذج المرأة الذى كان معروفا آنذاك فى كتب الأدب. وهو زعم متهافت، إذ تمتلئ كتب الأدب بالحكايات التى تنتصر فيها المرأة على الرجل: من ذلك مثلا ما رواه المرزبانى فى كتابه: “أشعار النساء” للمرزبانى، إذ يقول: “هاجى النابغة الجعدي ليلى الأخيلية فقال لها:ألا حَيِّيَا ليلى وقولا لها: هَلاَ * فقدْ ركِبتْ … أغرَّ محجَّلافقالت ترد عليه وهما قصيدتان له ولها، فغلبته بقولها:وعَيَّرْتَني داءً بأمك مثله * وأيُّ جوادٍ لا يقال لها: هَلاَ؟…وأخبرني عبد الله بن يحيى قال: حدثني محمد بن جعفر، قال: حدثنا ابن أبي سعد، قال: حدثني أبي الحسن الموصلي عن سلمة بن أيوب بن مسلمة الهمذاني فقال: كان جدي عند الحجاج فذكر أن امرأة قد دخلت عليه فسلمت فرد عليها، وقال: من أنت؟ قالت: أنا ليلى. قال: صاحبة توبة بن حُمَيِّر؟ قالت: نعم. قال: فماذا قلتِ فيه لله أبوك؟ قالت: قلت:فإنْ تكنِ القتلى بَوَاءً فإنَّكم * فَتًى ما قتلتُم آل عوفِ بن عامرِوذكر منها أبياتا، فقال لها أسماء بن خارجة الفزاري: أيتها المرأة، إنك لتصفين هذا الرجل بشيء ما تعرفه به العرب. قال: فقالت: أيها الرجل، هل رأيت توبة؟ قال: لا. قالت: أصلح الله الأمير. فوالله لو رأى توبةَ فوَدَّ أن كل عاتق في بيته حامل من توبة. قال: فكأنما فُقِئَ في وجه أسماء حَبّ الرمان. فقال له الحجاج : وما كان لك ولها؟ …أخبرني علي بن عبد الرحمن عن علي بن يحيى الأطروش بن إسحاق عن أيوب بن عباءة، قال: حدثني الهيثم بن عدي، قال: دخلت ليلى الأَخْيَلِيّة على الحجاج، فقال لأصحابه: ألا أخجلتُها لكم؟ قالوا: بلى. قال: يا ليلى. قالت: لبيك أيها الأمير. قال: أكنت تحبين توبة بن الحُمَيِّر؟ قالت: نعم أيها الأمير. وأنتَ لو رأيته لأحببتَه”.وفى “الأغانى”: “أخبرنا إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة، قال: بلغني أن ليلى الأخيلية دخلت على عبد الملك بن مروان وقد أَسَنَّتْ وعجزت، فقال لها: ما رَأَى توبة فيك حين هَوِيَك؟ قالت: ما رآه الناس فيك حين وَلَّوْك. فضحك عبد الملك حتى بدت له سن سوداء كان يخفيها”.وفى “تزيين الأسواق فى أخبار العشاق” لداود الأنطاكى: “وأدركت الخنساء الاسلام، وحسن إسلامها، فقالت لها عائشة يوما: أتبكين صخرا وهو في النار؟ فقالت: هو أشدُّ لجزعي عليه وأَدْعَى للبكاء. فعُدَّ من الأجوبة المسكتة…ومنهم غسان بن جهضم، وكان مفتونا بابنة عمه أم عقبة لأنها كانت من أجمل النساء وأحياهن وأفضلهن خصالاً. حضرته الوفاة فجعل ينظر إليها ويبكي، ثم قال لها: إني منشدك أبياتا أسألك فيهن عما تصنعين بعدي، وأعزم عليك أن تصدقيني. فقالت: قل، فوالله لا أكذبك. فأنشد:أخبري بالذي تريدين بعدي: * ما الذي تضمرين يا أم عقبه؟تحفظيني من بعد موتي لما قد * كان مني من حسن خلق وصُحْبَهأم تريدين ذا جمال ومال * وأنا في التراب في سجنِ غُرْبه؟فأجابته:قد سمعنا الذي تقول، وما قد * خفتَه يا خليل من أم عقبهْأنا من أحفظ النساء وأرعا * هن ما قد أَوْلَيْتَ من حسن صحبهْسوف أبكيك ما حييتُ بشجو * ومراثٍ أقولها وبنُدْبِهْفقال:أنا واللّه واثق بكِ، لكن * ربما خفت من غدر النساءِبعد موت الأزواج يا خير من عُو * شِرَ، فارعَيْ حقي بحسن وفاءِإنني قد رجوت أن تحفظي العهد * فكوني، إن مِتُّ، عند رجائيفلما مات خُطِبَتْ من كل جانب، فقالت:سأحفظ غسانًا على بعد داره * وأرعاه حتى نلتقي يوم نُحْشَرُوإني لفي شغل عن الناس كلهم * فكُفُّوا، فما مثلي من الناس يَغْدِرُسأبكي عليه ما حييتُ بعَبْرَةٍ * تَجُول على الخدين مني فتَكْثُرُفلما طالت الأيام قالت: من مات فقد فات، وأجابت الخاطب. فلما كانت الليلة التي زُفَّتْفيها جاءها في النوم فأنشد:غدرتِ ولم ترعَيْ لبعلك حرمة * ولم تعرفي حقا، ولم تحفظي عهداولم تصبري حَوْلاً حفاظًا لصاحبٍ * حلفتِ له يوما، ولم تنجزي وعداغدرتِ به لما ثوى في ضريحه * كذلك يُنْسَى كل من سكن اللحدافانتبهت مرعوبة كأنما كان معها، فقالت النساء لها: ما دهاك؟ فقالت: ما ترك غسان في الحياة أَرَبًا ولا في السرور رغبةً. أتاني في المنام فأنشدني هذه الأبيات. ثم جعلت ترددها وتبكي، فشاغلنها بالحديث، فلما غفلن أخذت شفرة فذبحت نفسها، فتعجبن منها”.وفى “ثمرات الأوراق فى المحاضرات” لابن حجة الحموى (ق8- 9هـ): “حُكِيَ أن عُلَيَّة بنت المهدي كانت تهوى غلاما خادما اسمه طَلٌّ، فحلف الرشيد ألا تكلمه ولا تذكره في شعرها، فاطلع الرشيد يوما عليها وهي تقرأ سورة “البقرة”: “فإن لم يُصِبْها وابلٌ فالذي نَهَى عنه أميرُ المؤمنين”.قيل: دخلت امرأة على هارون الرشيد، وعنده جماعة من وجوه أصحابه، فقالت: يا أمير المؤمنين، أقرَّ الله عينك وفرَّحك بما آتاك وأتم سعدك. لقد حكمتَ فقَسَطْتَ. فقال لها: من تكونين أيتها المرأة؟ فقالت: من آل برمك، ممن قتلتَ رجالهم وأخذتَ أموالهم وسلبتَ نوالهم. فقال: أما الرجال فقد مضى فيهم أمر الله ونفذ فيهم قَدَره، وأما المال فمردود إليك. ثم التفت إلى الحاضرين من أصحابه فقال: أتدرون ما قالت المرأة؟ فقالوا: ما نراها قالت إلا خيرا. قال: ما أظنكم فهمتم ذلك. أما قولها: أقر الله عينك، أي أسكنها عن الحركة. وإذا أُسْكِنَت العين عن الحركة عميتْ. وأما قولها: وفَرَّحَك بما آتاك فأخذتْه من قوله تعالى: “حتى إذا فرحوا بما أُوتُوا أخذناهم بغتة”. وأما قولها: وأتم الله سعدك فأخذتْه من قول الشاعر.إذا تمَّ أمرٌ بدا نقصه * ترقَّبْ زوالاً إذا قيل: تَمّْوأما قولها: لقد حكمتَ فقَسَطْتَ فأخذتْه من قوله تعالى: وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا. فتعجبوا من ذلك…وحُكِيَ أن بعض الملوك طلع يوما إلى أعلى قصره يتفرج فلاحت منه التفاتة فرأى امرأة على سطح دار إلى جانب قصره لم ير الراءون أحسن منها، فالتفتت إلى بعض جواريه فقال لها: لمن هذه؟ فقالت: يا مولاي، هذه زوجة غلامك فيروز. قال: فنزل الملك وقد خامره حبها وشغف بها. فاستدعى بفيروز وقال له: خذ هذا الكتاب وامض به إلى البلد الفلانية، وائتني بالجواب. فأخذ فيروز الكتاب وتوجه إلى منزله فوضع الكتاب تحت رأسه. فلما أصبح ودع أهله وسار طالبا لحاجة الملك، ولم يعلم بما قد دبره الملك. ثم إنّه لما توجه فيروز قام الملك مسرعا وتوجه مختفيا إلى دار فيروز فقرع الباب قرعا خفيفا، فقالت: امرأة فيروز: من بالباب؟ قال: أنا الملك سيد زوجك. ففتحت له، فدخل وجلس، فقالت له: أرى مولانا اليوم عندنا. فقال: جئتُ زائرا. فقالت أعوذ بالله من هذه الزيارة، وما أظن فيها خيرا. فقال لها: ويحك! إنني أنا الملك سيد زوجك، وما أظنك عرفتِني. فقالت: يا مولاي، لقد علمت أنك الملك، ولكن سبقتك الأوائل في قولهم:سأترك ماءكم من غير وردٍ * وذاك لكثرة الورّاد فيهِإذا سقط الذبابُ على طعامٍ * رفعتُ يدي ونفسي تشتهيهِوتجتنب الأسود ورود ماءٍ * إذا كان الكلاب وَلَغْن فيهِويرتجّ الكريم خَمِيصَ بطنٍ * ولا يرضى مساهمةَ السفيهِوما أحسن يا مولاي قول الشاعر:قل للذي شَفَّهُ الغرام بنا * وصاحب الغدر غير مصحوبِ:والله لا قال قائلٌ أبدًا: * قد أكل الليث فضلة الذيبِثم قالت: أيها الملك، تأتي إلى موضع شرب كلبك تشرب منه؟ فاستحى الملك من كلامها وخرج وتركها”.على أن د. الغذامى لا يكتفى بذلك، بل يدعى (ص94) أن ثقافة الجارية تودد تختلف عن ثقافة المرأة فى ذلك العصر، مع أن الجوارى أوانذك كن يثقَّفْن ثقافة جيدة حتى يزددن قيمة فى نظر من يشتريهن. ففى كتاب “الحيوان”مثلا: “قال العتبي ذاتَ يومٍ لابن الجهم: ألا تتعجَّبُ من فلانٍ؟ نَظَر في كتابِ “الإقليدس” مع جارية سَلْمَوَيْه في يومٍ واحد وساعة واحدة، فقد فرغتِ الجاريةُ من الكتابِ، وهو بَعْدُ لم يُحكِم مقالةً واحدة، على أنَّه حُرٌّ مخيَّر، وتلك أمَةٌ مقصورة، وهو أحرصُ على قراءةِ الكتاب مِن سَلْمَوَيهِ على تعليمِ جارية. قال ابن الجهم: قد كنت أظنُّ أنّه لم يفهم منه شكلاً واحدًا، وأَرَاك تزعم أنّه قد فرغ من مقالة. قال العتبي: وكيف ظننتَ به هذا الظنَّ، وهو رجلٌ ذو لسانٍ وأدب؟ قال: لأنِّي سمعتُه يقول لابنِه: كم أنفقتَ على كتابِ كذا؟ قال: أنفقت عليه كذا. قال: إنَّما رَغّبَني في العلم أني ظننتُ أنّي أنفق عليه قليلاً وأكتسِب كثيرًا. فأمّا إذا صرتُ أنفِق الكثيرََ، وليس في يدي إلاّ المواعيدُ، فإنِّي لا أريد العلمَ بشيء”.ثم لا تقف مزاعم د. الغذامى المتهورة عند هذا الحد، بل ينطلق فيدعى (ص100) أن الجهل فى تلك العصور كان زينة للحرة، فى حين كانت الثقافة زينة الجارية. ترى ألم يقرأ ما كتبه أبو الفرج عن ثقافة سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة مثلا أو ما ذكرته المراجع الأندلسية عن ولادة ونزهون وحميدة وغيرهن من آنسات الأندلس وسيداتها ذوات الثقافة الرفيعة؟ ألم يبلغه ما سجلته كتب الطبقات والتاريخ عن مئات السيدات المسلمات اللاتى كن يشتغلن بالفقه والحديث أو ينظمن الشعر؟ ألم يطالع كتاب “الأغانى” مثلا فيرى كيف كانت ثقافة نساء الخلفاء والدرجة العالية التى بلغتها تلك الثقافة؟ ألم يسمع عن علية بنت المهدى مثلا؟ ولم يكنّ مع هذا استثناء من القاعدة، وكل ما هنالك أن المسلم لم يكن يحب الكلام عن زوجته على الملإ. وقد سبق أن فصّلنا القول فى تلك النقطة بعض التفصيل، فمن ثم نكتفى بهذا، ولا نطيل القول فيه مرة أخرى.ومع ذلك لا يبدو لى الغذامى مدافعا عن المرأة ولا عاطفا عليها بقدر ما هو كاره للرجال، وكأن له ثأرا عندهم يريد أخذه، وهو ما يحتاج إلى دراسة تحاول الوصول إلى سبب اتخاذه هذا الموقف الغريب. انظر مثلا (ص106 وما بعدها) إلى شماتته بالنَّظَّام والرمز إليه بـ”الفحل” تهكما واستهزاءً، وتأكيده المستفز أن جارية قد انتصرت عليه، وكأن الكلام حقيقى لا تخيلات عامية فى حكاية من حكايات “ألف ليلة وليلة” لا أصل لها ولا حقيقة. والمضحك أن الجارية إنما تعلمت ما وصل إليه أمثال النظام بعقولهم الكبيرة ثم عادت فوجهت إليهم أسئلة مأخوذة من هذا الذى وصلوا إليه. وهى أسئلة ساذجة تقوم على الحفظ والتلقين والإلغاز ليس إلا، ولا تدل على علم صحيح، بل هى مجرد معلومات ترصها رصًّا. ومع هذا يشمخ بها الغذامى، وكأن النظَّام قد عجز فعلا أمام الجارية. وهو تصرف لا يليق بالباحثين الجادين. كذلك نراه (ص180) وما حولها يتطوح كالدراويش مناديا بتأنيث اللغة ومنتظرا اللحظة التى تتأنث فيها فعلا، وكأن اللغة مذكرة ويمكن أن تُجْرَى لها عملية جراحية كالتى تجرى لبعض الرجال المخنثين فيصيرون نساء، ويشمت ببطل رواية لأحلام مستغانمى لأن الكاتبة قد جعلته مبتور اليد والرِّجْل ناقصا عاجزا لا يستطيع أن ينال من المرأة شيئا. كما وصفه (ص185 وما قبلها وما بعدها إلى 188) بأنه مخصى. وكلامه كله حقد سام على الرجال ليس فيه شىء طبيعى. والمفروض أن يكون أقصى ما يريده، إن لم يكن فى الأمر حالة نفسية تستدعى الدراسة، هو المناداة بأن تكون اللغة للجنسين كليهما. وهذا إن سلمنا أنها ذكورية كما يزعم. أما أن يبتهج كل هذا الابتهاج بتأنيث اللغة ويشمت كل تلك الشماتة بالرجال فهذا يستدعى البحث والتحليل. والعجيب أنه ينعطف فجأة فى كلامه فيقول (ص207) بتأنيث اللغة أو أنسنتها بحيث تعبر عن الجنسين معا. أما كان من الأول؟ علاوة على أنه قالها عرضا ومتأخرة وغير واضحة، وواضح أنه قالها دون قصد ومن وراء قلبه.ومن مظاهر الخلل فى التفكير لدى د. الغذامى أنه يأتى إلى مثال أو اثنين فيجعل منهما قانونا أو قاعدة عامة. وهى طريقة فى التفكير ينبغى أن يربأ أى باحث حقيقى بنفسه عنها. لكن ماذا نفعل فى حكمة الله، التى شاءت أن يكون د. الغذامى هكذا؟ لنأخذ مثلا اتخاذه (ص124) مثالَىْ جورج إليوت وجورج صاند قاعدة عامة فى أن النساء إذا أردن الكتابة تخفَّيْنَ وراء مظهر الرجال. وهذه عبارته بنصها وفصها: “ما زالت الثقافة تؤكد أن الرجل استطاع على مر الزمن إحكام سيطرته على اللغة، وذلك بتذكيرها وتذكير مستخدميها. ولذا فإن المرأة، لكى تكتب وتمارس اللغة، لا بد أن تكون رجلا. وهذا بالضبط ما فعلته النساء فى مهرجان القيس، وهو ما فعلته جورج إليوت وجورج صاند حيث توسلتا بأسماء الرجال لكى تدخلا إلى عالم اللغة والكتابة”. وهو ما يُفْهَم منه أن الوضع كان هكذا طوال التاريخ، وأن ما صنعته الكاتبتان ذواتَا العقل الشاذ والمخ اللاسع ليس إلا اتباعا للسنة الكونية القهرية التى تحرم على الكاتبات والأديبات أن يحتفظن بأسمائهن النسائية، وتوجب عليهن أن تبحث كل واحدة منهن عن اسم أحد الخناشير لاصطناعه بدلا من اسمها الرهيف الرقيق. ولكى يعرف القارئ أن كل ما يقوله الغذامى فى هذا الصدد غير قائم على أساس أحب أن أقول له إن كل الناس قد عرفوا سريعا أن جورج صاند هو اسم الأديبة الفرنسية أماندين أورور لوسى دوبان: Amandine Aurore Lucie Dupin، وأن جورج إليوت هو اسم الكاتبة الإنجليزية مارى آن إيفانس: Mary Ann (Marian) Evans. أما ما يفعله النساء فى السعودية فى المهرجان المذكور من ارتدائهن ملابس الرجال واتخاذهن الشوارب مثلهم فهو احتفالات شعبية كما وضَّح هو نفسه فى موضوع آخر من الكتاب، ولا علاقة له باللغة ولا بالكتابة، إلا أن د. الغذامى، كشنشنته التى لا تفارقه أبدا ما قام ثَبِيرٌ فى مكانه وما بزغت الشمس من المشرق واختفت فى المغرب، يخلط الأمور بعضها ببعض كى يدير الرؤوس ويلخبط العقول، فيظن السذج أن تحت القبة شيخا، أما من رزقهم الله شيئا من الفهم فيقولون له: دعك من هذه الألاعيب. لقد دفنّاه معا!فما رأيه فى آلاف النساء اللاتى استخدمن اللغة مبدعات عندنا وفى كل أرجاء العالم منذ قرون وقرون، وظللن محتفظات بحقيقتهن لم يصطنعن شيئا من أمور الرجال؟ وما باله لو قلنا له مثلا إن الصحفية نادية عابد، التى كانت تكتب مقالات عاطفية جريئة فى مجلة “روز اليوسف” فى الستينات كانت فى حقيقة أمرها رجلا؟ أى على العكس مما يقول. ومثل ذلك ما كتبته الكاتبة السعودية د. نورة الصالح فى مقال لها نشرته منذ سنين بعنوان “لماذا هربت من الليبراليين؟” وموجود فى كثير من المواقع المشباكية الآن، وقالت فيه عن صحفى سعودى: “اكتشفتُ أن أحدهم يكتب بأسماء أنثوية ويطرح مواضيع مثيرة ومغرية لجلب أكبر عدد من الكُتّاب. وهذا، على فكرة، مشهور جدا حتى إن بعض الكاتبات يمازحنه بمناداته بالاسم الأنثوي الذي يكتب به!”.وما رأيه فى أن مى زيادة كانت تتخفى فى بداية امرها تحت اسم “إيزيس كوبيا”، وهو اسم امرأة لا رجل؟ وكانت د. عائشة عبد الرحمن تكتب باسم “بنت الشاطئ”. وبالمناسبة كان هناك شاعر مصرى ينشر قصائده بتوقيع “ابن الشاطئ”. وكان الصحفى المصرى رائد عطار يكتب باسم “مصطفى عدنان”. ومثله الصحفى محجوب عمر، الذى كان يكتب فى جريدة “الشعب”، وكنا نظنه مجاهدا فلسطينيا مسلما يقيم بالقاهرة، ثم عرفنا بعد ذلك أنه طبيب مصرى نصرانى، وأن اسمه الحقيقى “رؤوف نظمى ميخائيل”. وعلى غلاف الطبعة الأولى من روايته: “زينب” فضَّل د. محمد حسين هيكل أن يكتب “مصرى فلاح” بدلا من اسمه الحقيقى. وحين كنت فى الدوحة منذ سنوات سمعت بشاعرة قطرية تطلق على نفسها لقب “صدى الحرمان”. وكان الكاتب الإنجليزى (إريك آرثر بلير: Eric Arthur Blair) يوقع ما يكتبه باسم “جورج أورويل”. وبعض الكتاب يكتفى بوضع الحروف الأولى من اسمه واسم أبيه واسم أسرته. وكانت جورج صاند تكتب مقالاتها الأولى بالاشتراك مع جيل صاندو بتوقيع “Jules Sand”. ومعروف أن هناك أسماء قلمية (pen-names, pseudonyms noms de plume, pseudonymes) يتخذها بعض الكتاب والكاتبات لا صلة بينها وبين الأسماء الحقيقية لمتخذيها. كما أن هناك مهنا تقتضى أن يستعمل أصحابها، أو يحب بعض مزاوليها أن يستعملوا، أسماء غير أسمائهم الرسمية كالرهبان والراهبات والممثلين والممثلات والقوادين والمومسات والجواسيس ورجال المخابرات وضباط المباحث وبياعى المخدرات وشيوخ المنسر… فهل يستطيع الغذامى أن يفسر لنا هذا الوضع، الذى لا علاقة له بذكورة أو أنوثة؟ وما رأيه فى أن هناك كاتبات الآن يكتب لهن رجال يتخَفَّوْن وراءهن؟ وما رأيه فى الرجال الذين يُضْبَطون متخفِّين وراء النقاب متظاهرين بأنهم نساء لسبب أو لآخر كالرغبة فى الاختفاء عن أعين الشرطة أو التسلل إلى دنيا الحريم والتمتع بالنظر إليهن عاريات أو شبه عاريات أو معاشرتهن جنسيا فى الحرام دون خوف من زوج أو أب مثلا، وهو ما لا علاقة له بالكتابة من قرب أو من بعد؟ وهناك من يرى أن جورج إليوت قد اتخذت هذا الاسم الرجالى لتبتعد عن عالم الشهرة كى لا يتطرق أحد إلى علاقتها مع الفيلسوف جورج هنرى لويس، الذى كان متزوجا .ويمضى د. الغذامى زاعما أن مى زيادة وجيلها هن أول من دخل من النساء اللغة كاتبات لا حاكيات، وبالنهار لا بالليل، كشهرزاد. وقد اختار عام 1892م تاريخا لهذا باعتباره تاريخ أول مجلة نسائية عربية (ص128). فأما بالنسبة لتاريخ أول مجلة نسائية عربية فهو صحيح، وهو التاريخ الذى أصدرت فيه الكاتبة اللبنانية هند نوفل فى الإسكندرية مجلة “الفتاة” . إلا أننا قد سبق أن بينا أن المرأة العربية، ومثلها الأجنبية، كانت تكتب وتبدع منذ قرون وقرون. وفى الجاهلية عندنا عدد كبير من الشاعرات، وبعض الخطيبات. بل لقد كانت المرأة تكتب فى الصحف والمجلات قبل ظهور الصحافة النسائية، إذ كانت الصحف التى يصدرها الرجال مشرعة الأبواب لهن دون أية عوائق. والعجيب أن الغذامى، هنا ولأول مرة، يقر بأن المرأة العربية كانت مبدعة منذ قديم الزمان، إلا أنه يحاول أن يتفلفص من الحلقة التى تضيق على عنقه فيقول إنها لم تكن تبدع إلا رثاء للرجل (ص129). يريد أن يقول إنها فى هذا لم تكن مستقلة حرة. لكن الرجال هم أيضا كانوا يرثون، فهل كانوا عبيدا فى رثائهم؟ كما أن المرأة لم تكن راثية فقط، بل هاجت الرجل وأحبت وافتخرت وغنت مشاعرها الفردية… وكان الكاتب قد زعم (ص128) أن مى زيادة دفعت ثمن هذا الاقتحام غاليا. يقصد أنها لم تتزوج، ثم جُنَّت فى أواخر حياتها، أو على الأقل قيل: إنها جُنَّتْ، وأُدْخِلَتْ مستشفى المجاذيب فى لبنان. وبالمناسبة فالذين أثاروا قضية دخولها المستشفى وكتبوا عن مأساتها ودَعَوُا السلطات اللبنانية للتدخل وفك كربتها هم الرجال، الذين يتهمهم الغذامى بكل نقيصة ويشمت بهم ويسخر منهم ويسمى ثقافتهم: “ثقافة الفحل” مرددا هذا المصطلح السخيف مرارا وتكرارا حتى ليخيِّل هذا التكرارُ المسئمُ للقارئ أن الغذامى يكره الفحولة والفحول كراهية العمى. لكن لا بد أن نعرف أن مى كانت ضحية ظروفها الشخصية، إذ أرادت فى البداية أن تظل ملكة على عروش قلوب الجميع فخسرت كل شىء. ثم إنها وقعت بعد ذلك فى حب جبران، الذى كان يعيش على بعد آلاف الأميال فى أمريكا فى وقت كان السفر بين العالم العربى وتلك البلاد شيئا صعبا، ولم يكن جبران مستعدا للعودة إلى الشرق ولا له فى الزواج أرب، وهو ما أكده المؤلف (ص155). ثم جاء أقاربها الطامعون فى ثروتها فحجروا عليها وجنَّنوها. فما صلة دخولها عالم الكتابة بهذا؟ ولماذا لا تنظر يا د. غذامى إلى هذا الأمر من جهته الأخرى لترى كيف أحرزت مى زيادة فى أعين الرجال مكانة عظيمة واحتراما ضخما، ونالت اعترافهم بروعة إبداعها، ولم يعادوها أو يقللوا من شأنها، بل أفردوا لها صفحة مضيئة ساطعة فى تاريخ الأدب العربى. وهذا كله يهدم ما قلتَه عن احتقار الرجال للمبدعات ممن النساء.أما ما زعمه الغذامى (ص142) من أن الرجال حاربوا المرأة الكاتبة واتهموها بأن الرجل يكتب لها فمبالغة مقيتة، لأن هذه التهمة لم تثر إلا فى حالات قليلة تستدعيها كثير من الشواهد، وإلا فلماذا لم تُتَّهَم بتلك التهمة شاعرات العرب أو خطيباتهم القديمات؟ ولماذا لم تتهم بذلك عائشة التيمورية أو ملك حفنى ناصف أو مى أو لبيبة هاشم أو وداد سكاكينى أو بنت الشاطئ أو سهير القلماوى مثلا؟ ومن جهة أخرى فإن الشك فى نسبة عمل أدبى إلى صاحبه ليس مقصورا على شك الرجال فى النساء، بل كثيرا ما تشك النساء فى إنتاج زميلاتهن الأدبى ويتهمنهن بأن وراءه رجلا، كما أن الرجال كثيرا ما يتهمون رجالا أمثالهم بأنهم ليسوا أصحاب الأعمال المنسوبة إليهم. وما الشك فى الشعر الجاهلى على سبيل المثال بالذى يجهله أحد. والحق أن الرجال، على العكس مما يقول د. الغذامى، قد أخذوا بيد المرأة وجاملوها، وإلا فكيف نفسر مثلا تردد كبار الكتاب على صالون مى وكتابتهم عنها، وكذلك كتابتهم عن وداد سكاكينى وسائر الكاتبات والشاعرات العربيات والأخذ بأيديهن؟ وهم أيضا الذين نادَوْا بمساواتها وتحريرها من الظلم الواقع فى بعض البيئات عليها. وما دمنا بصدد الحديث عن جورج إليوت فإن هذه الكاتبة البريطانية قد لقيت تشجيعا عظيما من عشيقها الفيلسوف العالم الناقد جورج لِيوِس لولاه لربما لم تبدع كل هذه الروايات التى أبدعتها، أو على الأقل: لم تكن لتبدعها بهذه الثقة وبتلك السهولة. وبسبب عطفه عليها ورغبته فى نجاحها كان حريصا ألا تَطَّلِع على أى نقد لكتاباتها. وقد ظهر أثر ذلك فى حياتها بمجرد أن مات، إذ اعتزلت الكتابة إلى أن ماتت بدورها. كما أن جون كروس، المصرفى الأمريكى الذى اقترن بها فى أواخر حياتها بعد أن تخطت الستين، قد كتب ترجمة لحياتها وشخصيتها . ولا شك أن هذا وذاك يدلان على عكس ما يريد د. الغذامى إيهامنا به من أن الرجال يبغضون النساء الكاتبات ويتمنَّوْن لهن الفشل. والعجيب أن الغذامى نفسه يستشهد (ص172 فما بعدها) بما تقوله كاتبة عن تشجيع الرجال للنساء، وعدم تشجيع المرأة لزميلتها. ومع هذا نراه يوجه التهمة للرجل لا إلى المرأة، وهو ما سبق أن قلت إنه يحتاج إلى دراسة نفسية.ثم لقد كان هناك عشرات المبدعات فى عصر مى وقبل عصر مى، وتزوجن وكَوَّنَّ أُسَرًا، ولم يُجْنَنَّ. كما أن من الرجال الكاتبين من جُنُّوا كديسيموس اليونانى، وكان ناقدا، وجعيفران، ومانى (مصرى جاء إلى بغداد أيام المتوكل)، وأبى بكر الموسوس، وبرذعة الموسوس (صاحب المعتضد)، وخالد الموسوس، وهو شاعر كاتب، وجعفر سيبويه الموسوس (من عصر كافور)، وسوسنة أبى الغصن الموسوس، وشحطون الموسوس (بغدادى)، والوراق الموسوس، وكان وراقا فى دكان علان الشعوبى، وأبى حيان الموسوس (شاعر بصرى)، ومصعب الموسوس، وهو شاعر كتب عنه ابن المعتز فى “الشعر والشعراء”، والحسن بن عون الموسوس (شاعر من القرن الرابع الهجرى)، وديك الجن، ونجيب سرور وإسماعيل المهدوى. فما المشكلة إذن؟ ويجد القارئ أخبار مجانين الأدباء العرب القدامى عند الجاحظ وابن المعتز وأبى حيان التوحيدى وصلاح الدين الصفدى وابن شاكر الكتبى وغيرهم. ولابن حبيب النيسابورى كتاب كامل اسمه: “عقلاء المجانين”.ومن المضحك أنه، بعد كل هذه الاتهامات الغذامية للرجال، ينبرى د. الغذامى مؤكدا أن كل ما كتبته الكاتبات لم يخرج بالمرأة من سجنها اللغوى الذى حبسها فيه الرجل، اللهم إلا أحلام مستغانمى، فهى الوحيدة التى استطاعت التحرر كما يقول (ص180). وهذا يعنى أن جميع كتابات عائشة التيمورية ومى ووداد سكاكينى وأمينة السعيد وبنت الشاطئ والقلماوى ونازك الملائكة وعاتكة الخزرجى وجليلة رضا وفدوى طوقان ورضوى عاشور وغيرهن وغيرهن هو تضييع للوقت دون الوصول إلى الانعتاق. فقط ما كتبته مستغانمى فى “ذاكرة الجسد” هو الاستثناء الوحيد الناجح، مع أنهن كلهن كتبن عن مشاعر المرأة أما وزوجة ومحبة… ومنهن من تجرأن ومضين فى الاتجاه المتمرد الذى يحبه ويحبذه د. الغذامى. ومع كل تلك ماطنطن به الغذامى عن تأنيث اللغة نفاجأ به، كعادته التى لا يقطعها أبدا، يقول إن بطلة أحلام مستغانمى فى روايتها: “ذاكرة الجسد”، وهى البطلة التى أنثت اللغة فى رأيه وأتت بما لم تأت به الأوائل والأواخر معا، تنتهى بالزواج من رجل عجوز متزوج من امرأة أخرى (ص204) نزولا على رغبة عمها الذى كان يتطلع إلى إحراز وجاهة. أهذا هو الانتصار الساحق الذى أحرزته البطلة فى “ذاكرة الجسد”؟ أليس بهذه الطريقة قد ذهب كل ما قاله المؤلف فى الهواء؟ويمضى د. الغذامى فى غرائبه المضحكة فيفرق (ص131) بين الحَكْى والكتابة قائلا إن الحكى يتجه إلى الداخل، بينما تتجه الكتابة إلى الخارج. ورغم أنى لا أستطيع تحقيق معنى هذا الكلام الشمهورشى العجيب أرى أنه لا فرق بين هذه وذلك، فكلاهما كلام: هذا أداته القلم، وذاك أداته اللسان، والاثنان يخاطبان الآخرين. ويمكن تحويل كليهما إلى صورة الآخر متى أردنا. ومما يزعمه أيضا أن الكتابة تستخدم فيها الكاتبة ضمير المتكلم، وكأنها حين تحكى لا تقول: “أنا” أبدا. فأى اضطراب فكرى هذا؟ كما يقول إنها حين تكتب تتحول من مضاف إلى غيرها كـ”أم فلان” إلى مضاف إليها فيقال: “صالون مى” و”كِتَاب مى”. وهذا فى الواقع كلام يثير القهقهة. ترى هل هناك فرمان عثمانى بمنع الناس أن يقولوا: “حكايات شهرزاد” مثلما يمكنهم أن يقولوا: “صالون مى، وكتاب مى”؟ ثم ألم يسمع سيادته بـ”جميل بثينة وكثير عزة وقيس ليلى وقيس لبنى وابن قيس الرقيات وصريع الغوانى وعيسى بن مريم وابن اللتبية (من عمال رسول الله)، وشريك بن سحماء (صحابى) وابن ميادة (شاعر من مخضرمى الدولتين)، وشبيب بن البرصاء وأرطأة بن سهية (والثلاثة شعراء إسلاميون من غطفان)، ومحمد بن الحنفية (ابن على)، وابن سيابة (فى الأغانى)، وابن القوطية (المؤرخ الأندلسى)، وابن عائشة (لأكثر من واحد من العلماء وغيرهم)، وابن الداية كاتب سيرة أحمد بن طولون، وابن الداية (أمير يمنى فى أيام الدولة الرسولية)، ومجد الدين بن الداية الحلبى (أيام الأيوبيين)، وسابق الدين عثمان بن الداية (صاحب شيزر)، وابن هند وابن آكلة الأكباد (لمعاوية)، وأبى الزهراء (رسول الله)، وأبى عمارة (حمزة بن عبد المطلب)، وأبى عزة الجمحى، وابن مقطِّعة البظور (محارب قرشى قتله حمزة فى بدر)”؟ وهذا أشد وأعنف، إذ المضاف هنا هو الرجل نفسه، فضلا عن أنه مصاف إلى امرأة. كما أنهم كانوا يقولون: طُرَّة سُكَيْنَة، وطبق أم على، و(شايل) طاجن سِتّه، وبيت عاتكة (التى أتعزل). ثم إن أم فلان كان يقابلها أبو فلان، إذ كان نظام العرب الاجتماعى قائما، فيما هو قائم، على تكنية الرجال والنساء على السواء، وليس النساء وحدهن. أرأيت، أيها القارئ، كيف أنه ما من شىء يكتبه الغذامى إلا ويجىء مفعما بالثقوب والثغرات الواسعة التى ليس لها من علاج؟ ومن تلك الثقوب التى لا علاج لها فى كتابات د. الغذامى قوله مرارا إن الرجل لا يتناول المرأة فى كتاباته إلا بوصفها جسدا (ص189، 203 مثلا)، مع أن المرأة تتخذ فى كتابات الرجل صورا مختلفة ما بين أم وأخت وبنت ومحبة وزميلة وجارة وتلميذة وأستاذة وزوجة وموضوع للشهوة وموضوع للغيرة وموضوع للفخار وموضوع للحنان وموضوع للشفقة وموضوع للعبرة وموضوع للاحتذاء وموضوع للشهامة والنبل… إلخ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى