ثقافة وأدب

عبد الله الغذامى: لماذا يُحابى المرأة، ويشمت بالرجال؟ (1-2) 

أ.د. إبراهيم عوض

كاتب ومفكر مصري.
عرض مقالات الكاتب

يتعرض هذا الفصل لآراء د. عبد الله الغَذَّامى فى العلاقة التى ينبغى أن تكون بين الرجل والمرأةـ والتى دائما ما يهاجم صاحبها جنس الرجال يوهم قراءه أنه، بهذه الطريقة، إنما يدافع عن المرأة وحقوقها ويساعدها على التخلص من أغلالها التى كبلها بها الرجل وأحال حياتها إلى جحيم. وقد اخترت كتابه: “المرأة واللغة” لتكون مناقشتى لهذه الآراء من خلاله. وفى ذلك الكتاب يعمل د. الغذامى بكل سبيل على النيل من الرجال والتظاهر بالوقوف إلى جانب النساء والتفانى فى إزالة الظلم الواقع عليهن من قِبَلهم. وهو يشتط فى هذا اشتطاطا غير مفهوم ولا مقبول حتى إنه ليتهكم بالرجال ويتهمهم بما ليس فيهم وينسب إليهم الاستبداد بالنساء وتحقيرهن وتصيير حياتهن جحيما لايطاق عاطلا مع باطل كأن الرجال كلهم، وبالذات العرب والمسلمون، ظَلَمَةٌ للمرأة مجحفون بحقوقها مستبدون بها لا يعرفون للرحمة ولا للهوادة فى معاملتها أى معنى. وفى أثناء هذا كله نراه يقع فى تناقضات شنيعة لا يقبلها منطق، ويزعم المزاعم التى لا تدخل عقل أحد، ويقفز من مقدمات إلى نتائج لا تتأتى عنها، ويتمسك ببعض النصوص التى لا أدرى من دَلَّه عليها فيرفعها فى وجه القارئ موهما إياه أنها كل شىء وأنها لا تعنى إلا شيئا واحدا هو ما يريد إيهام القارئ به، فى حين يوجد أضعافها من النصوص التى تنسف نصوصه تلك وتذروها فى الهواء، بيد أنه يعتم عليها ويجتهد بكل طاقته لصرف الأنظار عنها. وهو لا يفتأ، فى كل مناسبة وبغير أية مناسبة، يكرر أن الرجل يقمع المرأة وينتهك حقوقها، وأن المرأة أذكى منه وأعظم إبداعا، ويسخر مما يسميه: “ثقافة الفحل”، تلك الكلمة التى يذهب فيبدئ فيها ويعيد فى تهوس مسئم، شامتا بالرجال أجمعين كأنه ليس منهم، وهو ما يحتاج إلى دراسة نفسية للأمر تضع كل شىء فى نصابه، وتشرح لنا كيف ينقلب على الرجال هذا الانقلابَ الموتورَ المستفزَّ واحدٌ منهم.
ومن الأفكار التى يحاول د. الغذامى فى هذا الكتاب أن يسوّقها، رغم أنه ليس ابن بجدتها بل مجرد ناقل وناشر لها، الفكرة القائلة بأن اللغة ذات طابع ذكورى، فهى تظلم المرأة وتنحاز للرجل. إلا أنه لم يقدم ما يدل على هذه الذكورية اللغوية: ذلك أن هناك مثلا ضمائر وأسماء وصيغا للتأنيث مثلما هناك ضمائر وأسماء وصيغ للتذكير. بل كثيرا ما تستخدم صيغ مذكرة للنساء، وصيغ تأنيثية للرجال، مثل حائض وطالق من جهة، وهُمَزة وضُحْكَة وعلاّمة ومعاوية وحمزة وحمامات من جهة أخرى، بالإضافة إلى أن هناك أسماء أعلام تطلق على الرجال والنساء على السواء، مثل نجاح ورجاء وجهاد وسناء وعفت وعصمت وشمس وقمر ونور وندى ورضا وأمل وجمعة وأسماء. بل إن بعض الشعراء قد يستخدم فى مخاطبة حبيبته صيغة التذكير فيقول: “حبيبى”، وهو يقصد “حبيبتى”، أو يخاطبها بضمير الجمع الذكورى كما يفعل عند مخاطبة الملوك، فيقول كما قال جميل مثلا لبثينة:
أَلا لَيتَ رَيْعانَ الشَبابِ جَديدُ * وَدَهرًا تَوَلّى يا بُثَيْنَ يَعودُ
فَنَبقى كَما كُنّا نَكونُ وَأَنتُمُو * قَريبٌ، وَإِذْ ما تَبْذُلينَ زَهيدُ

وَقَدْ كانَ حُبّيكُم طَريفًا وَتالِدًا * وَما الحُبُّ إلا طارِفٌ وَتَلِيدُ
وكما قال العباس بن الأحنف:
كَتَبَ المُحِبُّ إِلى الحَبيبِ رِسالَةً * وَالعَيْنُ مِنهُ ما تَجِفُّ مِنَ البُكا
وَالجِسْمُ مِنهُ قَد أَضَرَّ بِهِ البِلى * وَالقَلبُ مِنْهُ ما يُطاوِعُ مَنْ نَهَى
قَد صارَ مِثلَ الخَيْطِ مِن ذِكراكُمُو * وَالسَّمْعُ مِنهُ لَيْسَ يَسْمَعُ مَن دَعا
هَذا كِتابٌ نَحْوَكُم أَرسَلتُهُ * يَبْكي السَّمِيعُ لَهُ وَيَبْكي مَن قَرا

لا لا وَلا مِثلي المُرَقِّشُ إِذ هَوي * أَسْماءَ لِلحَيْنِ المُحَتَّمِ وَالقَضا
هاتي يَدَيْكِ فَصالِحيني مَرَّةً * لِنَسُبَّ مَن بِالصّرْمِ يا نَفْسي بَدا
رُدّي جَوابَ رِسالَتي وَاِستَيْقِني * أَنَّ الرِسالَةَ مِنْكُمُ عِندي شِفا
مِنّي السَلامُ عَلَيكُمُو يا مُنيَتي * عَدَدَ النُجومِ وَكُلِّ طَيرٍ في السَما
وكما قال ابن زيدون فى مخاطبته لولادة بنت المستكفى:
بنتم وبِنَّا فما ابتلَّتْ جوانحنا * شوقا إليكم ولا جَفَّتْ مآقينا
و كما قال بهاء الدين زهير:
إِلى عَدْلِكُم أُنْهي حَديثي وَأَنْتَهي * فَجُودُوا بِإِقْبالٍ عَلَيَّ وَإِصغاءِ
عَتَبتُكُمُو عَتْبَ المُحِبِّ حَبيبَهُ * وَقُلتُ بِإِذلالٍ، فَقولوا بِإِصفاءِ
لَعَلَّكُمُو قَد صَدَّكُم عَن زِيارَتي * مَخافَةُ أَمْواهٍ لِدَمْعي وَأَنْواءِ
فَلَو صَدَقَ الحُبُّ الَّذي تَدَّعونَهُ * وَأَخلَصتُمُو فيهِ مَشَيْتُم عَلى الماءِ
وَإِن تَكُ أنفاسي خَشِيتُم لَهيبَها * وَهالَتْكُمُو نيرانُ وَجْدٍ بِأَحْشائي
فَكونوا رِفاعِيِّينَ في الحُبِّ مَرَّةً * وَخُوضوا لَظَى نارٍ لِشَوْقِيَ حَرّاءِ
حُرِمْتُ رِضَاكُم إِن رَضيتُ بِغَيْرِكُم * أَوِ اعْتَضْتُ عَنكُم في الجِنانِ بِحَوْراءِ
وإذا كان د. الغذامى قد كرر، بطول الكتاب وعرضه وعلى نحو مقيت، السخرية من استعمال القدماء للفظ “الفحل” و”الفحولة” فى إشارتهم إلى قوة الإبداع، متخذا من هذا الفظ دليلا على تحيز العرب للرجال ضد النساء، لأن الفحولة من صفات الذكر لا الأنثى، فإن القدماء أيضا قد استعملوا ألفاظا أنثوية للتعبير عن إعجابهم البالغ بإبداع المبدعين. فلماذا لم يذكر للقراء هذا الذى كان ينبغى أن يقلل من غُلَوائه فى اتهام العرب بما اتهمهم به؟ يقول أبو نواس مثلا:
إلَيْكَ بَعَثْتُ أَبْكَارَ المَعَانيِ * يَلِيهَا سَائِقٌ عَجِلٌ وَحَادِي
ويقول أبو تمام:
أمَّا المعاني فَهْيَ أَبْكارٌ إِذَا * نُصَّتْ، وَلَكنَّ الْقَوَافِيَ عُونُ
ويقول ابن الرومى:
ها إنها خطبةٌ قام الخطيب بها * بِكْرٌ، ولكنها في حزمها نَصَفُ
ويقول أيضا:
مِدَحٌ من بناتِ فكريَ أبكا * رٌ حِسانٌ كواعبٌ أترابُ
ويقول صفى الدين الحلى:
فَكَمْ بِكرِ مَعْنًى حَوَى طِرْسُها * وَإِن كانَ في جِسْمِ لَفظٍ عَوانِ
ويقول ابن كمونة:
بيتَ الرسالة، هاكُمُو مرثيةً * طورًا تنوح لكم، وطورًا تندبُ
بِكْرٌ من النظم الرقيق يزفُّها * عبد لكم، وإلى وَلاَكُمْ يُنْسَبُ
ويقول أبو حيان الأندلسى:
فَكَم بِكْر مَعْنًى عَزَّ مِنها اِفْتِراعُها * لَها ذِهْنُهُ الوقّادُ أَصبَحَ فاتِقا
ويقول أبو تمام فى مدح الحسن بن رجاء:
أَغْلَى عَذَارَى الشِّعْر، إِنَّ مُهُورَهَا * عِنْدَ الكِرَامِ إِذَا رَخُصْنَ غَوَالِي
تَرِدُ الظُّنُونَ بِهِ عَلَى تَصْدِيِقَها * وَيُحَكِّمُ الآمَالَ في الأمْوَال
ِويقول البحترى:
قَد تَلَقَّيْتَ بِالقَبُولِ مَديحي * وَكذا يَفْعَلُ الرَئيسُ الجَليلُ
هِيَ بِكْرٌ زُفَّت إِلَيكَ عَرُوسًا * وَلَها عِنْدَكَ الصَداقُ الجَزيلُ
ويقول البحترى أيضا:
هَذي القَوافي قَد زَفَفْتُ صِباحَها * تُهْدَى إِلَيكَ كَأَنَّهُنَّ عَرائِسُ
وَلَكَ السَّلامَةُ وَالسَّلامُ، فَإِنَّني * غادٍ، وَهُنَّ عَلى عُلاكَ حَبائِسُ
ويقول السَّرِىّ الرَّفَّاء:
وكم من يَدٍ للحُرِّ عنديَ ثَيِّبٍ * كشفْتُ مُحَيَّاها بقافيةٍ بِكْرِ
ويقول ابن أبى حصينة:
فَكَمْ بِكْرٍ زَفَفتُ إِلَيكَ مِنهُ * فَكانَ نَدَى يَدَيكَ لَها صَدَاقا
ويقول ابن الخياط:
إِلَيْكَ زَفَفْتُ أَبْكارَ الْقَوافِي * وُحَادًا كَالْفَرائِدِ أَوْ زواجا
ويقول ابن الزقاق البلنسى:
إليكَ أبا حفصٍ رفعتُ من النُّهَى * عرائسَ تُجْلَى في حُلِيِّ غرائبِ
ويقول ابن قيم الجوزية:
هَذِي حِسَانُ عَرَائِسٍ زُفَّت لَكُم * وَلَدَى المُعَطِّلِ هُنَّ غَيْرُ حِسَانِ
ويقول أبو الفتح البستى:
زُفَّتْ إليكَ لَنا عرائِسُ أربَعٌ * فَفَضَضْتَها بالسَّمْعِ، وهْيَ قَصائدُ
فابعَثْ إليَّ مُهورَهُنَّ بأسرِها * إنَّ النِّكاحَ بِغَيْرِ مَهْرٍ فاسِدُ
ويقول شرف الدين الحلبى فى ممدوح له:
تلق القوافي الشاردات كأنَّها * قلائد درّ فوق أعناق خُرَّد

تسوء مُعادِيكم حِسَانُ شواردي * ويُرْضي معاليكم مغيبي ومشهدي
ويقول صلاح الدين الصفدى:
وما شاهدتْ عيني سواها رسالةً * يغازلني منها حسانٌ سواحرُ
ويقول ابن حجر العسقلانى:
زَفَفتُ إِلى عُلاَك عَرُوسَ فكري * وَصيَّرْتُ البَديعَ لَها جَهازا
ومن كلام الثعالبى فى كتابه: “أبو الطيب المتنبى: ما له وما عليه” عن شعر المتنبى: “وتكلم الأفاضل في الوساطة بينه وبين خصومه، والإفصاح عن أبكار كلامه وعُونِه، وتفرقوا فرقا في مدحه والقدح فيه والنضح عنه، وتفرده عن أهل زمانه بملك رقاب القوافي ورِقّ المعاني”. ولابن الجوزى فى “المدهش”: “ادخل دار الخلوة لمن تناجي، وأحضر قلبك لفهم ما تتلو، ففي خلوات التلاوة تُزَفّ أبكار المعاني”. وبالمثل يقول ابن عرشاه فى “فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء”: “وأخرج له غواص الفكر من بحر المعاني والبيان فرائد أفكار لم تظفر بها أصداف الآذان، وخرائد أبكار لم تفترعها فحول الأذهان”. ويقول صلاح الدين الصفدى فى”أعيان العصر وأعوان النصر”: “لها من ميم مِسْك قصيدته الميميّة ختام، ومن مخبآت شرح اللامية عرائسُ تُجْلَى على الأفهام”. وفى “الكشكول” لبهاء الدين العاملى: “اكتحلتْ عين الفكر من سواد أرقامهم، وانفتحت حدقة النظر على عرائس نتايج أفهامهم”. وللوزير المغربى فى “أدب الخواصّ”: “وهذا الشعر من حِسَان أبيات المعانى”. ولعبد القاهر الجرجانى فى الحديث عن الاستعارة المفيدة: “اعلم أنّ الاستعارة في الحقيقة هي هذا الضرب دون الأول. وهي… أَسْحَرُ سِحْرًا، وأملأ بكل ما يملأ صَدْرًا، ويُمْتِع عقلاً، ويُؤْنِس نفسًا، ويوفر أُنْسًا، وأَهْدَى إلى أن تُهْدِي إليك أبدًا عَذَارَى قد تُخُيِّرَ لها الجمال، وعُنِيَ بها الكمال”… إلخ.
أما ما يقوله الغذامى (ص20- 21) عن استعمال صيغة المذكر للسيدات اللاتى يشغلن منصب المدير فى مؤسسة ما أو الأستاذ فى إحدى الجامعات أو الرئيس فى هيئة من الهيئات وانتقاده ذلك الاتجاه فليس له الحق فيه، إذ قد لاحظتُ أن النساء اللاتى يشغلن منصبا من هذه المناصب يحرصن على استخدام صيغة المذكر حرصا غريبا، تصورا منهن أنهن بهذه الطريقة يناطحن الرجال ويسامتنهم رأسا برأس، وهو ما كان ولا يزال يثير دهشتى وضيقى لأنه لا يوجد فى استعمال صيغة التذكير للمرأة ما يبعث على الفخار. وإذا كانت بعض النصوص العربية القديمة التى استشهد بها المجمع اللغوى بالقاهرة وعض بنواجذه عليها د. الغذامى تصنع شيئا من هذا فالواقع أنها إنما تمثل الشذوذ على القاعدة. وكنت أحسب هذا الاتجاه العصرى فى كتاباتنا راجعا إلى تشبهنا بالإنجليز، الذين لا تعرف لغتهم فى كثير من الأحيان صيغة تأنيثية للمهن والوظائف على عكس الفرنسية، التى أعرف أنها تفرق بين الجنسين فى هذا المجال، وكنت أقول: لماذا نتنكر لطبيعة لغتنا الدقيقة ونجرى وراء لغة جون بُلْ المفتقرة إلى الدقة؟ وها هو ذا د. الغذامى يمسح هذا الاتجاه فى ذقن جنس الرجال على عادته فى تشويه صورتهم على الدوام وكأنه ليس واحدا منهم، مع أن الرجل يستطيع أن يناصر المرأة إذا كانت مظلومة دون أن يتنكر لبنى جنسه على هذا النحو المقيت. ونحن، بحمد الله، نعطف على المرأة ونحب لها كل الخير ونريد لها التقدم دائما والرفعة. أليست المرأة هى أمهاتنا وزوجاتنا وبناتنا وأخواتنا وجداتنا وخالاتنا وعماتنا وزميلاتنا وجاراتنا وزميلاتنا وأستاذاتنا؟ أليست المرأة هى التى ربتنا وأسبغت علينا العطف وتحملتنا ونحن صغار، وأسعدتنا حبيبةً وخطيبةً وزوجةً حين كبرنا، وأثارت حناننا ورحمتنا بنتًا وأختًا؟
والعجيب أن بعض من يرددون مثل كلام الغذامى كشريف الشوباشى ود. عبد المنعم تليمة ينادون بضرورة الاستغناء عن ضمائر وصيغ التأنيث فى العربية مع أن هذا الاقتراح من شأنه أن يمحو أى طابع أنثوى فى اللغة. أى أنهم ينادون بالشىء ويعملون بعكسه. وقد سجلتُ هذا بالتفصيل وأبديت فيه رأيى وبينت ما فيه من عوار وتهالك فى كتابى: “لتحيا اللغة العربية يعيش سيبويه”، ردا على كتاب الشوباشى: “لتحيا اللغة العربية يسقط سيبويه”، الذى عضد ما فيه د. تليمة فى مواجهة تلفازية بين العبد الفقير ود. عبد الله التطاوى وبينهما منذ نحو اثنتى عشرة سنة. ثم إنه لا يوجد أى عائق من أى نوع يمنع النساء من استخدام اللغة كلاما أو كتابة أو تفكيرا: لا فى الماضى ولا فى الحاضر ولا حتى فى السمتقبل. وفوق هذا فاللغة لا تقصّر فيما يتعلق بالمرأة من معانٍ ومشاعرَ ومفاهيمَ وأوضاعٍ وأحوالٍ. كما أن هناك أشعارا وخطبا وأمثالا كثيرة قالتها المرأة…
يقول الغذامى ما نصه: “تظهر اللغة تاريخيا وواقعيا على أنها مؤسسة ذكورية، وهي إحدى قلاع الرجل الحصينة. وهذا يعنى حرمان المرأة ومنعها من دخول هذه المؤسسة الخاصة بالرجل، مما جعل المرأة فى موضع هامشى بالنسبة لعلاقتها مع صناعة اللغة وإنتاجها. جرى ذلك حسب القانون التاريخى الذى يمنع المرأة من تعلم الكتابة، وهو القانون الذى صاغه خير الدين نعمان بن أبى الثناء فى كتابه الموسوم بـ”الإصابة فى منع النساء من الكتابة”، وفيه يوصى قائلا: أما تعليم النساء القراءة والكتابة فأعوذ بالله، إذ لا أرى شيئا أضر منه بهن. فإنهن لما كن مجبولات على الغدر كان حصولهن على هذه الملكة من أعظم وسائل الشر والفساد. وأما الكتابة فأول ما تقدر المراة على تأليف الكلام بها فإنه يكون رسالة إلى زيد، ورقعة إلى عمرو، وبيتا من الشعر إلى عزب، وشيئا آخر إلى رجل آخر. فمَثَل النساء والكتب والكتابة كمَثَل شرير سفيه تهدى إليه سيفا، أو سِكِّير تعطيه زجاجة خمر. فاللبيب من الرجال مَنْ ترك زوجته فى حالة من الجهل والعمى، فهو أصلح لهن وأنفع” (ص111- 112).
وهو زعم لا معنى له لأن اللغة مؤسسة (إن قلنا برطانته) إنسانية يشترك فيها الجميع بما فيهم الطفل الرضيع الذى يصدر أصواتا فى حالتى الفرح والغضب فيسجلها اللغويون بوصفها لغة أطفال. وكثيرا ما نراهم يقولون فى المعاجم الإنجليزية مثلا إن هذا اللفظ من لغة الأطفال كلفظى “وِي وِى” و”كا كا” مثلا للبول والبراز. ثم إنه يتحدث عن نفى المرأة من مؤسسة اللغة وحرمانها من إنتاجها وكأن الرجل يضع على فمها شريطا لاصقا يمنعها من التلفظ، أو كأن اللغة دار يملكها الرجل، فقام بطرد المرأة منها وحلف ألا يرى وجهها فيها إلى أبد الآبدين. لقد اخْتُرِعت اللغة قبل اختراع الكتابة بدهور لا يعلمها إلا الله، وقامت لغات وانهارت لغات، والمرأة تشارك الرجل فى ذلك الاختراع رأسا برأس. فكيف يقول الغذامى ما يقول؟ أم ترى آدم كان يحمل فى يده شاكوشا كلما عَنَّ لحواء أن تتكلم دَقَّها فوق رأسها به فأسكتها؟ إن خلط الغذامى بين اللغة والكتابة خلط لا يليق ويدل على قصور فى التفكير، فاللغة نطق وكلام قبل أن تكون كتابة. والكتابة لا تشكل نسبة تذكر فى اللغة كما هو معلوم، فمعظم البشر قلما يكتبون، وإذا كتبوا فكلامهم الملفوظ أضعاف أضعاف كلامهم المكتوب. وحتى هذا المكتوب يمر فى غالب الأمر بمرحلة الكلام حين تتم مناقشته فى البداية شفويا بين الكاتب وزملائه ومعارفه وتلاميذه وحوارييه قبل أن يفكر فى تسجيله بعد ذلك على الورق.
ترى ألم تكن هناك لغة قبل الكتابة، أى قبل أن يكتب الرجل وتكتفى المرأة بالحكى كما يقول الغذامى؟ وبعد اختراع الكتابة هل كان هناك مجتمع نساؤه كلهن لا يعرفن القراءة والكتابة، ورجاله كلهم يعرفونها؟ ولقد تنبه هو أخيرا (ص 26- 27) إلى هذا المعنى فغير كلامه إلى أن اللغة استذكرت، أى صارت ذكورية، ولكن بعد اختراع الكتابة. وأيا ما يكن الحال فلماذا استطاع الرجل أن يمنع المرأة من تعلم الكتابة والقراءة؟ ولماذا استسلمت هى له؟ وهذا لو كان هو الذى منعها ولم تَسْتَحْلِ هى الأمر. وإذا كانت المجتمعات البشرية أمومية فى بدء أمرها كما يقول (ص28) فما الذى قلب الوضع؟ ثم لماذا كل هذا الأسى على المرأة ما دامت قد أخذت نصيبها مبكرا من قيادة الأسرة، وتحول الميزان لصالح الرجل بعد أن ذاق الظلم زمنا؟ وكيف يمكن القول عند ذاك بأن اللغة ذكورية، مع أن المرأة كانت لها السيادة فى المجتمع، ومن ثم السيطرة على اللغة و”إنتاجها” حسب رطانته؟ ولدينا فى العربية طائفة من الكتب عن الإبداعات الأدبية للمرأة كتبها رجال، منها كتاب المزبانى عن “أشعار النساء” مثلا، وكتاب “الإماء الشواعر” لأبى الفرج الأصفهانى، وكتاب ابن طيفور عن “بلاغات النساء”، وما كتبه لسان الدين بن الخطيب عن أديبات الأندلس فى “الإحاطة فى أخبار غرناطة”، وما كتبه الإبشيهى فى “باب فى ذكر النساء وصفاتهن” من كتابه: “المستطرف من كل فن مستظرف”، وهو ما يدل أقوى دلالة على أن الرجل لم يكن يرى فى إبداع المرأة وكتابتها شيئا يضايقه البتة، بل كان يرحب بذلك. وانظر ما يقوله كل من هؤلاء الكتاب فى مقدمة كتابه عن المرأة وإبداعاتها تر مصداق ذلك. فطيفور مثلا يؤكد أنها تتفوق على الأدباء الرجال المحسنين. وقد أورد خطبا لها وأشعارا ومواقف مع زوجها قدرها المجتمع لها أيما تقدير.
وبالمناسبة فالنعمان بن أبى الثناء، الذى أشار إليه الغذامى هو واحد من علماء أسرة الآلوسى العراقية الشهيرة. وقد أشار د.على الوردى فى كتابه: “دراسة فى طبيعة المجتمع العراقى” إلى كتاب الآلوسى وما احتواه من دعوة إلى منع المرأة من تعلم القراءة والكتابة. وكتاب الآلوسى لم يطبع. وقد أشار الوردى فى كتاب له آخر عنوانه: “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق” إلى ما كان سائدا فى المجتمع العراقى من تحريم أشياء صرنا الآن نستعملها أو نفعلها ببساطة تامة دون أن نجد فيها أى شىء يدعو إلى تحريمها، بل دون أن يطوف بأذهاننا شىء من هذا البتة، إذ كان فى العراق مثلا ناس يحرمون قراءة الجريدة ودخول المدرسة وتعلم اللغة الإنجليزية ولبس القبعة وحلق اللحية واستعمال الملعقة في الأكل. وفي عام 1924م صدر في النجف كتاب للشيخ عبد الله المامقاني بعنوان “السيف البتار في الرد على من يقول إن الغيم من البخار”! بل إن خمسة كتب صدرت في العراق فى تلك الفترة تحرم حلق اللحية، ومنها كتاب هبة الدين الشهرستاني: “التفتيش في حلق الريش”!
فهل نقول إن تحريم حلق اللحية هو قانون تاريخى بنفس الطريقة التى وصف بها الغذامى كلام الآلوسى النعمان بن أبى الثناء؟ ترى أين هذه الفتاوى المضحكة الآن؟ لقد ذهبت مع الريح مثلما ذهب مع الريح كلام الآلوسى، الذى يكذّب ما قاله الغذامى بشأنه أنه كانت بمصر ولبنان وغيرهما من الدول العربية مدارس للفتيات تعلمهن لا القراءة والكتابة وحدها بل طائفة من العلوم والفنون مثل الفتيان سواء بسواء . ودعنا من أنه ما من بنت الآن فى أى بد عربى تقريبا إلا وتذهب للمدرسة وتتعلم القراءة والكتابة، بما يفيد أن أحدا لم ينصت إلى ما كتبه الآلوسى ولا أخذ به، على عكس ما يريدنا د. الغذامى أن نتوهم، وكأن ما كتبه الآلوسى هو قانون من القوانين الكونية لا مَعْدَى عنه ولا فرصة للإفلات منه. إن طبيعة الغذامى ككاتب تتلخص فى أنه يرمى بالكلام على عواهنه دون أن يقدِّر لرجله قبل الخطو موضعها، وهو مشهور بالاستعمال الفضفاض للغة حيث تفتنه الكلمات فينطلق مستعملا لها دون أن يحقق معناها أو يضبط اتجاهها. إنه يكتفى بالإمساك بالقلم والخط به على الورق دون أن يُعَنِّىَ نفسه أبدا بالتدقيق فيما يكتب. والحمد لله أن النساء، وكذلك الرجال، لا يتبعون خطاه فى الكتابة، وإلا لأفتى العبد لله الذى هو أنا أن الكتابة حرام حرام حرام، لا لأنها سبيل إلى كتابة الرسائل الغرامية، بل لأنها تنتهى بالقارئ إلى أن يفقد عقله، والعياذ بالله، كما يوشك أن يحدث لى الآن بسبب كتابات د. الغذامى.
ترى ما حكاية القانون التاريخى ذلك الذى يتحدث عنه د. الغذامى؟ إن القانون التاريخى هو جزء من القوانين الكونية، أى الأوضاع التى تجرى عليها الأشياء والكائنات ولا يمكنها أن تخرج عنها، وإلا لعُدَّ هذا معجزة، وهو ما لا يقع إلا للأنبياء. بل إن القرآن، حينما كان الكفار يتحدَّوْن سيدنا محمدا عليه الصلاة والسلام أن يأيتهم بآية، أى أن يصنع لهم معجزة، كان يرد عليهم بكلام المولى سبحانه: “وما منعَنا أن نرسل بالآيات إلا أن كَذَّب بها الأولون…”. وهذه القوانين هى النظام الذى يسير الكون عليه منذ خلقه الله سبحانه وتعالى. فلو كان الكلام كما يقول د. الغذامى لكان معناه أن تحريم الكتابة والقراءة على الفتيات والنساء قانون أبدى لا مفر منه مهما حاول المحاولون الخروج عليه وتعليم النساء أن يقرأوا ويكتبوا. فهل الأمر كذلك؟ لقد قلنا إنه، فى الوقت الذى صدر فيه كتاب الآلوسى، كانت الفتيات فى مصر ولبنان وغيرهما من بلاد العرب يتعلمن فى المدارس العلوم والفنون المختلفة، لا القراءة والكتابة فحسب، فضلا عن التعليم الخاص الذى كانت توفره الأسر الغنية لبناتها فى البيوت على يد معلمين ومعلمات خصوصيين وخصوصيات. ثم ها هى ذى مدارس البنات قد انتشرت فى جميع أرجاء العالم العربى والإسلامى بحيث لم تعد هناك بنت لا تتعلم. وقبل ذلك كان النساء العربيات يتعلمن القراءة والكتابة وينظمن الشعر ويجلسن للتعليم، تعليم الرجال قبل النساء: فقيهات ومحدثات، ولا يكتفين بتحبير الرسائل الغرامية كما يخشى كارهو تعليمهن. ألم تكن عائشة وحفصة مثلا تعرفان القراءة والكتابة، وهما زوجتا رسولنا الأمى الذى لم يكن يستطيع قراءة ولا كتابة؟ وهذا فى عالمنا نحن العرب والمسلمين وحده، وهو ما لا يمثل من العالم كله إلا كسرا صغيرا. ولقد قرأت فى بعض المنتديات أن كتاب الآلوسى لا يزال مخطوطا لم يحقق أو ينشر. فهو إذن بلا قيمة. بل لقد قرأت فى ترجمة الآلوسى بموسوعة “دهشة” المشباكية ما قاله العلامة العراقى محمد بهجة الأثري المعاصر له من أن الآلوسى قد ألّف هذا الكتاب فى وقت كان لا يزال عنده بعض التأثر بمحيطه الجامد. فغالب الظن إذن أنه لم يثبت على ما سجله فى ذلك الكتاب عن تعليم المرأة. فكيف يقال إن تحريم القراءة والكتابة على النساء هو قانون تاريخى؟ كذلك قد فات الغذامى، الذى يفوته الكثير والكثير، أن القانون، تاريخيا كان أو غير تاريخى، لا يُفْرَض على الحياة فرضا بل يستنبط منها، بمعنى أنه ليس من المعقول أن يكتب أحدهم مثلا بأنه متى ألْقِىَ حجرٌ من نافذة فيجب ألا يسقط إلى أسفل بل عليه أن يرتفع إلى الأعلى حتى لا يصيب رأس أحد فيهشمه أو يجرحه. إننا فى مجال القوانين الكونية لا نفرض ما نريد، بل ينحصر دورنا فى استنباط ما نلاحظ. والقانون التاريخى يمثل جانبا من القوانين الكونية. والآلوسى، عندما كتب ما كتب، لم يكن يستنبط شيئا، بل كان يحاول أن يفرض رؤيته على المجتمع. بيد أن الغذامى لا يبالى بما يخطه قلمه كما قلت، بل يخبط عباراته كيفما اتفق. كما أن الآلوسى، حتى لو افترضنا أن ما يكتبه هو قانون تاريخى طبقا لما يريد الغذامى، لم يكن كاتبا عالميا يخاطب الناس فى كل أرجاء المعمورة، بل كاتبا عربيا كان يعيش فى فترة تاريخية معينة، وهى فترة كان العرب والمسلمون فيها متخلفين أشد التخلف على ما هو معروف. فكيف نتهم اللغة، اللغة بمعناها المطلق، اللغة عند كل الأمم، اللغة فى كل العصور، بأنها ذكورية بناء على كلمتين قالهما الرجل لا راحتا ولا جاءتا ولا اهتم أحد بهما ولا أثرتا فى أوضاع بلادنا تأثيرا يذكر أو لا يذكر؟ فانظر، أيها القارئ، يا هداك الله وهدانى معك وهدى أخانا د. الغذامى، كيف ينطلق د. الغذامى حين يكتب غير مبالٍ بمنطق أو عقل أو علم. لقد لاحظتُ هذا فيما يكتب منذ أول كتاب قرأته له وأنا بالطائف المأنوس فى بدايات تسعينات القرن الماضى حين سمعت بعض من حولى أول قدومى إلى السعودية يذكر الرجل بتبجيل ومهابة باعتبار أنه مفكر سعودى خطير الشأن، وهو ما دفعنى إلى البحث عن كتبه، وقرأت بعضها، وكان أولها كتابه: “الخطيئة والتفكير”، الذى كتبت عنه وعن غيره من كتب الرجل فصلا طويلا سجلت فيه خيبة أملى فيه ورصدت ما لاحظته على كتاباته من مآخذ قاتلة، وأهمها الثرثرة دون ضابط ولا رابط ودون اعتبار لما اصطلح عليه الناس فى نظام لغتهم. إنه قطار منطلق دون كوابح، قطار مؤهل لارتكاب المصائب فى كل لحظة. و أخيرا لماذا يعد كتاب الآلوسى قانونا تاريخيا، ولا يعد كتاب الأصفهانى: “الإماء الشواعر”، أو كتاب ابن طيفور: “بلاغات النساء”، أو كتاب السيوطى: “نزهة الجلساء فى أشعار النساء”، أو كتاب ابن القيم: “حكم تعليم النساء”، أو كتاب “المرشد الأمين فى تعليم البنات والبنين” لرفاعة الطهطاوى، أو كتاب “الإصابة في استحباب تعليم النساء الكتابة” للشيخ محمد العسافي التميمى، أو كتاب “عقود الجمان في جواز تعليم الكتابة للنسوان” لأبى الطيب محمد شمس الحق آبادى، أو كتاب قاسم أمين: “تحرير المرأة” مثلا، هو القانون التاريخى، وبخاصة أن هذه الكتب تمشى فى نفس اتجاه ديننا العظيم، وتمثل وضع المرأة فى الحضارة الإسلامية؟ بل لماذا لم يَعُدّ الغذامى قبل ذلك كله حديث الرسول: “طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة” أو حديثه الآخر: “أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران” أو سروره بتعليم الشفاء بنت عبد الله السيدة حفصة القراءة والكتابة هو ذلك القانون التاريخى؟ مجرد سؤال!
وقد وقعت على مقال مشباكى هام بموقع “alislah.org” عنوانه: “باحث مسلم يكتشف ثمانية آلاف عالمة بالحديث النبوى” يحسن إيراده هنا حتى يعرف القارئ كَمّ التدليس الذى يمارسه عليه د. الغذامى لغرض فى نفس يعقوب. يقول المقال: “وضع محمد أكرم ندوي الباحث المسلم في مركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية في بريطانيا قاموسا بيوغرافيا للمحدِّثات المسلمات جاء في 40 مجلدا. ويرى الباحث أنه كان يعتقد، حين بدأ إعداد بحث عن عالمات الحديث النبوي الشريف في العالم الإسلامي، أنه لن يهتدي إلى أكثر من 20 أو 30 منهن. بيد أن رحلة البحث قادته إلى اكتشاف 8 آلاف محدِّثة. وبدلاً من كتاب واحد يحوي سِيَرَهُنَّ وجد أن قاموسه البيوغرافي للمحدِّثات المسلمات استغرق 40 مجلدًا. بدأ ندوي (43 عاما) بحثه قبل ثماني سنوات بالعكوف على تأليف قاموس للسير الذاتية للعالمات بالحديث النبوي الشريف. وقاده الغوصُ والتنقيبُ في معاجم العلماء والكتب التاريخية ووثائق الكتاتيب ورسائل شيوخها وفقهائها إلى فقيهة ولدت في بغداد في القرن العاشر جالت على سورية ومصر لتعليم النساء. وأفضى به بحثه إلى محدِّثة مصرية في القرن الثاني عشر أذهلت طلبتها من الرجال بحفظها نصوصا تعادل حِمْل جمل! وعثر أيضا على سيرة محدِّثة برعت في تدريس علم الحديث في المدينة المنورة في القرن الخامس عشر. بل اهتدى إلى عالمة في المدينة المنورة بلغت مرتبة الفقيهة في القرن السابع، وكانت تفتي في شؤون الحج والتجارة. ويطوف معجم المحدّثات الذي ألفه ندوي على عالمة عاشت في مدينة حلب السورية في العصور الوسطى لم تكن بارعة في الإفتاء فحسب، بل كانت تقدم المشورة لزوجها الأكثر شهرة منها في كيفية إصدار فتاواه. ووصفت صحيفة أميركية المعجم بأنه مذهل، وذلك بعدما أشارت إلى أن الإسلام عرف تعليم النساء منذ نشأته، خصوصا الأحاديث النبوية التي روتها أم المؤمنين السيدة عائشة. وتقديرات المستشرق جولدتسيهر أن نحو 15 في المائة من علماء الحديث النبوي المسلمين في العصور الوسطى كنَّ من النساء. وتشير الصحيفة إلى العالمة السورية أم الدرداء، التي نبغت في تدريس علوم الحديث في دمشق خلال القرن السابع، وكان خليفة الدولة الأموية من بين طلبتها. ويقول ندوي إنه يأمل بأن يقود صدور معجمه إلى إحياء سنة تعليم البنات شؤون دينهن. ويضيف أن النساء العالمات اللاتي درّسن الرجال هن جزء من تاريخنا”. والآن ألا يحق لنا أن نتساءل وكلنا دهشة وغضب: كيف يا ترى ينقضّ الغذامى على مثال الآلوسى ويقبض عليه بأسنانه وأظافره، ويترك كل ما عداه؟
ومن مقال آخر نشره حسن المسعود على المشباك بعنوان “المرأة والخط” نقتطف السطور التالية التى تدلنا بما لا مجال فيه للمماحكة على أن كثيرا من النساء المسلمات، وهن اللاتى يُهْمِمْننا هنا، كن يكتبن لا بخط عادى فقط بل بخط جميل أيضا، إذ كان هناك خطاطات بارعات عربيات ومسلمات حفظ التاريخ لنا أسماءهن، وهو ما يدحض دعوى د. الغذامى التى لا تنهض على أى أساس سوى الادعاء والتحذلق: “في بداية الاسلام يذكر لنا التاريخ أسماء بعض النساء يمارسن الخط، ومن بينهن حفصة، الشفاء القرشية، عائشة، كريمة بنت المقداد، هند زوجة أبي سفيان، أم كلثوم بنت عقبة. وفي العصر العباسي في بغداد، كما في كل مكان كتبت به الألفباء العربية، كان هنالك العشرات من الخطاطات يعملن في المكتبات لنسخ الكتب. كذلك في الأندلس. وربما يبالغ بعض المؤرخين بالقول إن في جامع غرناطة وحده كانت تعمل بشكل يومي ألف امرأة لنسخ الكتب.
ومن مئات أو آلاف الخطاطات ذكر لنا التاريخ بعض الاسماء على فترة زمنية تقارب الألف سنة. وعلى الرغم من كون بعضهن كنّ يمارسن هوايات ومهنا أخرى، لكن التاريخ يسجل لهن دورا حقيقيا في حيوية فن الخط العربي واستمراره. وهنا نذكر بعضهن: الخطاطة فضل من القيروان تركت مصحفا بخطها 907م- الخطاطة الشاعرة لبنى عبد المولى، عالمة بالنجوم والحساب والعروض، كانت كاتبة للخليفة المستنصر بالله. توفيت عام 984م- الخطاطة القرطبية عائشة بنت أحمد، التي قيل عنها: لم يكن في زمانها من حرائر الاندلس من يعادلها علما وفهما وأدبا وشعرا، وكان لها مكتبة كبيرة. توفيت عام 1009م- الخطاطة درة من المشهورات في نسخ الكتب. تركت مصحفا بخطها. توفيت عام 1019م- الخطاطة فاطمة البغدادية اختيرت عام 1087م لخط معاهدة الصلح بين خليفة بغداد القائم بالله وبين ملك الروم في بيزنطة. ويقال عنها إنها كانت من أحسن الناس خطا على طريقة ابن البوّاب- الخطاطة زمرد بنت جاولي أخت الملك الدقاق صاحب دمشق. استنـسخت عدة كتب وشـيدت المدرسة الخاتونية. توفيت عام 1161م- العالمة الخطاطة شهدة بنت الإبري (1089- 1178م). كانت تعلم عددا كبيرا من هواة الخط. وقد تعلمت الخط من أحد تلاميذ ابن مقلة، وتعلم منها الخط ياقوت الحموي- الخطاطة سيدة الغـتبدي. ولدت في تونس. نسخت بيدها عدة كتب، وعلمت ابنـتيها اللتـين واصلتا الخط بعدها. توفيت عام 1249م- الخطاطة عائشة بنت عمارة، شاعرة مغربية في القرن الرابع عشر خطت بيدها “يتيمة الدهر” للثعالبي في ثمانية عشر جزءا- الخطاطة عائشة الباعونية، شاعرة أديبة وفقيهة لها مؤلفات كثيرة خطتها بيدها محفوظة في دار الكتب بالقاهرة. توفيت عام 1516م. وقد أقـيمت ندوة عن أعمالها الأدبية في الأردن عام 2007م- الخطاطة فاطمة الحلبية. ولدت عام 1473م. اشتهرت بحسن خطها، وتركت كتبا مخطوطة-الخطاطة مريم بنت مصطفى. استـنسخت بعض الكتب منها “مختار الصحاح” للرازي 1551م- الخطاطة زينب الشافعي، عالمة أديبة وشاعرة ولدت في دمشق عام 1510م، وتركت كتبا مخطوطة بيدها- الخطاطة أسماء عبرت. ولدت عام 1780م تركت لوحة حلية محفوظة في قصر طوب كبير، إسطنبول، تركيا- الخطاطة رابعة بنت ملا نازك (القرن الثامن عشر). تركت كتاب “شرح المواقف”، وكتبت النص بأسلوب النسخ وبحروف سوداء، والعناوين باللون الاحمر- الخطاطة فاطمة بنت ابراهيم (القرن الثامن عشر). كانت عالمة تجيد أساليب خط النسخ والثلث والجلي ديواني- الخطاطة زاهدة بنت عالى باشا. بعض خطوطها في مساجد وتكايا الأستانة 1873م- الخطاطة حافظة خاتون. كانت تجيد أساليب النسخ والثلث، وتركت رقعا خطية وآيات قرآنية. توفيت في بغداد عام 1928م- الخطاطة صالحة خاتون. ولدت في بغداد، ودرست الخط على يد سفيان الوهبي، وكتبت مصحفا محلى بالذهب بقلم النسخ والثلث على قاعدة ياقوت المستعصمي- فضة البلاغي. ولدت في النجف، وتوفيت عام 1818م. خطت كتاب “كشف الغطاء” بحوالي 350 صفحة.
وفي زمننا الحالي تواصل العديد من الخطاطات في العالم العربي- الاسلامي الخط. وكما ذكرت أعلاه فإن هذه الأسماء تغطي أكثر من ألف سنة للتأكيد على حضور الخطاطات باستمرار في الزمن الماضي. ولكن هنالك روايات عديدة تقول بوجود قاعات لنسخ الكتب فيها العشرات من النساء. ويذكر المؤرخون مثلا أنه كان في مكتبة قرطبة مائة وسبعون امرأة ينسخن المصاحف. كما توجد أخبار مشابهة لمكتبات أخرى عديدة في العالم العربي- الإسلامي. ومما يروى عن الخط سابقا هذه القصة الطريفة التي حدثت في زمن الكامل أبي الفتح عام 1226م: فقد أُحْضِرَت امرأة اسمها خداوري من الإسكندرية وُلِدَتْ من غير يدين، فجيء بها بين يدي الوزير رضوان، فعرَّفته أنها تخط برجليها، فأحضر لها دواة، فـتناولت برجلها اليسرى قلما، فلم ترض شيئا من الأقلام المبرية التي أحضروها، فأخذت السكين وبرت لنفسها قلما وشَقَّـْته وقَطَّتْه، وأخذت ورقة فأمسكتها برجلها اليسرى، وكتبت باليمنى أحسن مما تـكتبه النساء بأيديهن. وعند ضعف بصر الخليفة الناصر لدين الله في أواخر أيامه استحضر خطاطة تدعى: ست نديم البغدادية، كانت تكتب خطا قريبا من خطه، فجعلها بين يديه تكتب الأجوبة والرقاع.
الأجواء الحضارية كانت تشجع الحضور للمرأة في مجال الفن. فعندما أسـس الخليفة المأمون دار الحكمة، وأراد ترجمة كل كتاب معروف في العالم إلى اللغة العربية، شجع ذلك مهنة الخط للرجال والنساء. وفي أحد الايام، وهو يتجول في مكتـبته الكبيرة، ينظر الخليفة إلى أصابع شابة خطاطة اسمها منصف، فتملي عليه قريحته هذه الابيات:
أرَاني مَنَحْتُ الـحـُبَّ من ليس يعرفُ * فما أنصَفتْني في الـمَحَبّةِ مُنْصِفُ
سريعة جَرْي الخط تنظم لؤلؤا * وينثر دُرًّا لفظُها المترشف
وَزادت لدينا حُظْوةً ثم أَعْرَضَتْ * وفي إصبعَيْها أسمرُ اللون ِ أهيفُ
أصمُّ، سميعٌ، ساكنٌ، متحركٌ * ينالُ جَسِيمات العُلَى وهو أعجفُ
… ويعجب أحمد بن صالح بشابة خطاطة “كأن خطها أشكال صورتها، وكأن مدادها سواد شعرها، وكأن قرطاسها أديم وجهها، وكأن قلمها بعض أناملها، وكأن بيانها سحر مقلتها، وكأن سكينها سيف لحظها، وكأن مقطها قلب عاشقها”… ومن تعليق لأبى الفرج الاصبهاني حول عريب، وهي امرأة مشهورة في زمن المأمون تمارس الخط أيضا: “كانت مغنية محسنة وشاعرة صالحة الشعر، وكانت مليحة الخط والمذهب في الكلام، ونهاية في الحسن والجمال والظرف وحسن الصورة وجودة الضرب وإتقان الصنعة، والمعرفة بالنغم والاوتار، والرواية للشعر والأدب”.
وفى “الإصابة” لابن حجر العسقلانى لما دخل نصر بن حجاج البصرة كان يدخل على مجاشع بن مسعود لكونه من قومه، ولمجاشع امرأة جميلة يقال لها: الخضراء، فكان يتحدث مع مجاشع، فكتب نصر في الأرض: إني أحبك حبا لو كان فوقك لأظلك أو كان تحتك لأقلك. وكانت المرأة تقرأ، ومجاشع لا يقرأ، فرأت المرأة الكتابة فقالت: وأنا. فعلم مجاشع أن هذا الكلام جواب، فدعا بإناء فكبَّه على الكتابة ودعا كاتبا فقرأه، فعلم نصر بذلك فاستحيا وانقطع في منزله، فضَنِىَ حتى صار كالفرخ…”. وفى “المطرب من أشعار أهل المغرب” لابن دِحْيَة الكلبى، و”بدائع البدائه” لابن ظافر الأزدى: “قال ابن شرف: واستخلانا المعزُّ (بن باديس) يوما وقال لنا: أُحِبّ أن تصنعا لي شعرا تمدحان فيه الشَّعْر الرقيق الخفيف، الذي يكون في سوق بعض النساء، فإني أستحسنه، وقد عاب بعضُ الضرائر بعضَ من هذا فيه، وكلهن قارئات كاتبات، فأُحِبّ أن أُرِيَهُنّ هذا، وأَدَّعِى لهن أنه قديم لأحتج به على من عابه، وأَسُرّ به مَنْ عِيبَ عليه. فانفرد كل منا وأتممنا الشعرين في الوقت”. والشاهد فى الحكاية أن الضرائر اللاتى يشير المعز إليهن كن جميعا قارئات كاتبات.
ولعبد الله عفيفى كتاب بعنوان “المرأة العربية فى جاهليتها وإسلامها” تتبع فيه وضع المرأة العربية طوال تاريخها قبل الإسلام وبعده، وأورد الكثير من الروايات التى تبين المكانة الاجتماعية والعلمية والأدبية التى بلغتها. والكتاب كبير، وسوف أجتزئ منه ببعض الفقرات الدالة على مساهمتها الواسعة فى مجال العلم ومعرفتها للكتابة والقراءة مثل الرجل سواء بسواء، على عكس ما يحاول د. الغذامى إيهام القراء به اعتمادا على نص منزو فى كتاب لا يعرفه إلا الذين يبحثون بمنكاش عن مثله يريدون من وراء النكش شيئا بعينه. قال عفيفى مثلا عن المرأة فى ميدان رواية الحديث: “امتازت العالمة المسلمة بالصدق في العلم والأمانة في الرواية والحيدة عن مواقع التهم ومساقط الظّنَن مما لم يوفق إليه كثيرون من الرجال. ومعاذ الله أن نقول ذلك محاباة أو مشايعة لموضوع كتابنا. فنحن أولاء ضاربون لك مثلا من إقرار عظماء بما نقول: الحافظ الذهبي المتوفَّى سنة ثمان وأربعين وسبعمائة ثقة من ثقات المسلمين وعظيم من عظماء المحدّثين، ألف كتابه: “ميزان الاعتدال” في نقد رجال الحديث خرّج فيه أربعة آلاف متهم من المحدثين، ثم أتبع قوله بتلك الجملة التي كتبها بخطه الواضح وقلمه العريض فقال: “وما علمتُ من النساء من اُّتهِمَتْ ولا من تركوها”. ولعل قائلا يقول: وما للنساء ورواية الحديث؟ وهل تركهن الذهبي إلا من قلة أو ذلة؟ ونقول نحن إن حديث رسول الله منذ عهد عائشة أم المؤمنين حتى عهد الذهبي ما حُفِظ ولا رُوِيَ بمثل ما حُفِظ في قلوب النساء ورُوِيَ على ألسنتهن. ذلكم الحافظ ابن عساكر المتوفَّى سنة إحدى وسبعين وخمسمائة أوثق رواة الحديث عقدة، وأصدقهم حديثًا، حتى لقبوه بـ”حافظ الأمة”، كان له من شيوخه وأساتذته بضع وثمانون من النساء. فهل سمع الناس في عصر من العصور وأمة من الأمم أن عالمًا واحدًا يتلقى عن بضع وثمانين امرأة علمًا واحدا؟ فكم ترى منهن من لم يلقها أو يأخذ عنها، والرجل لم يجاوز الجزء الشرقي من الدولة الإسلامية، فلم تطأ قدمه أرض مصر ولا بلاد المغرب ولا الأندلس، وهي أحفل ما تكون بذوات العلم والرأي من النساء…
لم تقف بالمرأة العربية قريحتها عند حدّ النبوغ في التشريع الإسلامي والأدب العربي، فقد أخذت بنصيب موفور من النهضة التي استحدثها المسلمون عمَّن سواهم من الأمم ذوات التاريخ الحافل والمجد القديم. وأخص ما عُنِينَ به الطب. فهنّ، فوق ما ورثنه عن أمهاتهن من أَسْو الجراح وجَبْر العظام، بَرَعْنَ
إلى غير حدّ في بقية فروع الطب مما نقلوه عن اليونان والسريان والهند حتى كانت بغداد وقرطبة وما سواهما من مدن العراق والأندلس مسارح للكثيرات منهن ممن خُصِصْنَ بعلاج الأجسام ما ظهر منها وما بطن. ومن هؤلاء أخت الحفيد بن زهر الأندلسي وابنتها، فقد حدّث صاحب “طبقات الأطباء” عن نفوذهن في فروع الطب جميعًا، وفي أمراض النساء خاصة، وكان المنصور بن أبي عامر وارث الخلافة الأموية بالأندلس لا يدعو لنسائه وعامة أهله غيرهما. ومنهن زينب طبيبة بني أود، وكان أخص ما برعت فيه علاج العين بالجراحة أو إجراء العمليات الجراحية للعين. وغير أولئك كثيرات، وسنختصهن ببحث طويل في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
ولا يفوتنا أن نختم حديثنا بشيء مما كتبه الكاتب الفيلسوف العظيم جوستاف لوبون في كتابه: “حضارة العرب” عن المرأة المسلمة وأثرها العلمي. قال: “أما نباهة شأن المرأة وسمو مكانها في عصور العرب الواهية فمما ينبئ عنه عدد اللواتي امتزن بنفاذهن في العلوم والآداب من نساء العرب”. ولقد نبغ منهن عدد موفور في العهد الأموي بالأندلس، والعباسي ببلاد المشرق. ولنذكر من بين أولئك وَلاَّدَة بنت المستكفي بالله أمير المؤمنين بالأندلس. كتب كوند مجملا عمن كتب من مؤرخي العرب عن الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر، قال: كان هذا الخليفة وسط ما يحيط به من بدائع “الزهراء” وعجائبها يسره أن يستمع الغناء مما كانت تصوغه جاريته وصاحبة سره مُزْنة من الأناشيد العذبة الرقيقة. ومن أولئك الناهضات النابهات عائشة إحدى بنات السَّراة بقرطبة. وهي التي يقول ابن حيان عنها إنها أجمل وأعقل وأعلم نساء عصرها، وكانت من أفتن النساء بجمالها وأدراهن بفنون الشعر. ومما قال بعض المؤرخين عن الحَكَم بن الناصر: “في ذلك العهد الذي أُوِلعَ فيه أهل الأندلس بالشعر وجَنَوْا قِطَاف الفنون والعلوم كان النساء في عزلتهن يقبلن على الدرس وينصرفن إليه، وأكثرهن قد امتاز بمضاء الذكاء وانفساح مدى العلم. وكان في قصر الخليفة بين نسائه لُبْنَى تلك التي جمعت إلى جمالها الساحر إحاطتها بالنحو والشعر والرياضة وما سوى ذلك من علوم وفنون. وكانت تكتب رسائل الخليفة بأسلوبٍ يملأ النفس روعة، وخَطٍّ يملأ العين جمالا، فهي كاتبة قصره، ومنشئة رسائله. ولم يكن بين نساء القصر من يساميها عقلا وفطنة ورشاقة لفظ وسماحة قافية. وفاطمة، وَمَثَلُها في رجاحة العقل وسماحة القول مَثَلُ لبنى. وكان شعرها كِفَاء نثرها، وفي كليهما أمعنت حتى بلغت غاية لا تنال. وكان العلماء والشعراء يطربون لشعرها وما فيه من ألق وإبداع. ولها مكتبة جمعت أَجَلَّ الكتب وأنفسها. ومنهن خديجة، وهي التي جمعت، إلى عذوبة المنطق وروعة الشعر، رخامة الصوت والذهاب في فنون الغناء. ومريم، التي كانت تغدو على بنات سادات إشبيليه فتعلمهن القريض، وكان لها في التعليم ذكر نابه وشهرة ذائعة. وقد تخرج في مدرستها طائفة عظيمة من شهيرات النساء. وراضية، ويدعونها: “الكوكب الزاهي”، وهي التي وهبها الناصر لابنه الحكم، وكانت آية العصر في الأدب والتاريخ. وقد تنقلت في بلاد المشرق إثر موت الحكم، فكانت موطن الإجلال والإكبار من العلماء جميعًا”.
ومن كتاب “تاريخ آداب العرب” لمصطفى صادق الرافعى ننقل بعض أسماء النساء الأديبات الكاتبات فى الأندلس. قال: “سبقت لنا كلمات خفيفة عن الأدب النسائي في الأندلس، وعَدَدْنا أسماء بعض جواري عبد الرحمن الأوسط. وسنعد الآن المشهورات من سائر أولئك الأدبيات: فأُولاهُنَّ وأَوْلاهُنَّ بالتقديم لبنى كاتبة الخليفة الحكم المستنصر بالله، أي ناسخة. كانت تكتب الخط الجيد، نحوية شاعرة عروضية بصيرة بالحساب مشارِكة في العلم لم يكن في مصرهم أنبل منها، وتوفيت سنة 374. وقد عدها السيوطي في “طبقات اللغويين والنحاة”. وكانت تعاصرها حسانة التميمية بنت أبي الحسن الشاعر، والشاعرة الغسانية، وحفصة بنت حمدون. واشتهرت بعدهن عائشة القرطبية المتوفاة سنة 400. لم يكن في زمنها من حرائر الأندلس من يَعْدِلها علمًا وفهمًا وأدبًا وشعرًا وفصاحة. تمدح ملوك الأندلس وتخاطبهم بما يعرف لها من حاجة. ثم اشتهرت في آخر القرن الخامس مريم بنت أبي يعقوب الأنصاري الشاعرة المشهورة، وهي التي كانت تعلم النساء الأدب. وقد كثرت الأديبات في هذه المائة، فكان فيها أم العلاء بنت يوسف الحجارية، والعروضية مولاة أبي المطرف بن غلبون اللغوي، وقد أخذت عن مولاها النحو واللغة، وفاقته في ذلك، وبرعت في العروض. وكانت تحفظ “الكامل” للمبرد، و”النوادر” للقالي وشرحهما (ص430 ج 2: نفح الطيب)، ويؤخذ عنها الأدب، وتوفيت سنة 450. وولاّدة الأديبة الشهيرة المتوفاة سنة 484، ومهجة القرطبية صاحبتها وتلميذتها، ونزهون الغرناطية البارعة، وحمدونة بنت زياد المؤدب التي يلقبونها بـ”خنساء المغرب” لقوة شعرها وسمو إبداعها، ولها شعر مطرب (ص491 ج2: نفح الطيب). والعبادية والدة المعتمد، واعتماد حَظِيّته، وبثينة بنته، وأم الكرام بنت المعتصم بن صمادح، وغاية المنى جاريته، وغيرهن. ثم اشتهر في أوائل القرن السادس الأديبة الشلبية، وأسماء العامرية، وحفصة الركونية، وهي أديبة الأندلس في هذه المائة”.
ووجد في التاريخ الإسلامي نوابغ من النساء في كافة الفنون والعلوم. ولم تغفل كتب الطبقات الترجمة للمرأة المسلمة، ففي كتاب “الطبقات الكبرى” لابن سعد مثلا ذكر كثير من الصحابيات والتابعيات الراويات. وخصص ابن الأثير جزءا كاملا للنساء في كتابه: “أُسْد الغابة”. وفي “تقريب التقريب” لابن حجر العسقلاني أسماء 824 امرأة ممن اشتهرن بالرواية حتى مطلع القرن الثالث الهجري. وأورد السخاوي في “الضوء اللامع لأهل القرن التاسع” أكثر من 1070 ترجمة لنساء برزن في ذلك القرن معظمهن من المحدثات الفقيهات. فالمرأة المسلمة كانت تتعلم وتعلم، ويقصدها الطلاب لأخذ العلم عنها، وتصنف الكتب وتفتي. وفي وقت من الأوقات لم تكن العروس تجهَّز إلا ومعها بعض الكتب الشرعية النافعة. ذكر الإمام الذهبي أن البِكْر كان في جهازها عند زفافها نسخة من كتاب “مختصر المزني”. وكان في قرطبة وحدها دكان نسخ واحد يستخدم مائة وسبعين جارية في نقل المؤلفات لطلاب الكتب النادرة. وقد نقلت هذه الفقرة من مقال بمنتدى “ملتقى أهل الحديث” عنوانه: “المرأة العاملة” كتبته أم أحمد المكية، وأوردت فيه مراجعها التى استندت إليها فى كل ما ذكرته.
ثم إننا نفاجأ، بعد كل ما قاله د. الغذامى عن ذكورية اللغة طوال صفحات الكتاب، أن نسمعه يقول (ص181) إن اللغة كانت فى الأصل أنثوية ثم صارت ذكورية. متى؟ وكيف؟ ومن الذى شاهد ذلك؟ وأين الدليل؟ ثم ما المقصود بأنثوية اللغة وذكوريتها؟ لا جواب لدى الكاتب على هذه الأسئلة للأسف. والواقع أن اللغة ليست ذكورية ولا أنوثية، بل تعبر عن الذكورة والأنوثة جميعا وتتيح لكل من الطرفين أن يقول ما يريد عما يريد. وبالمناسبة فالغذامى فى الواقع لا يقصد اللغة بل التقاليد، إلا أنه يخلط بين هذا وذاك. فاللغة لم تنزل جاهزة على البشر بحيث يصح أن نصنفها على أنها ذكورية أو أنثوية، بل هى انعكاس لأوضاع المجتمع وتقاليده وتفكيره وقيمه ومبادئه… إلخ. إلا أن قطاعا ضخما من مثقفينا يردد ما يصله من الفكر الغربى بعُجَره وبُجَره دون أن يُعْمِل فيه عقله النقدى، بل أحيانا ما تكون مهمته التى يكلَّف بها أن ينشر هذا الفكر ويُسَوِّقه بين الناس حتى لو بان له أنه فكر معطوب أو مدخول.
والمضحك أن د. الغذامى، رغم ذلك كله، يقول (ص57 وما بعدها) إن شهرزاد كانت تمارس على شهريار الرجل سلطة اللغة. أى أن الأنثى كانت تملك اللغة كما يملكها الرجل فى تلك العصور، أى قبل زمن الكتابة، وتتسلط بها عليه وتهبه عن طريقها سكينة الروح وشفاء النفس طبقا لكلامه (ص61- 62)، وأنها قد مارست فى “ألف ليلة وليلة” كل شىء من الإبداع اللغوى شعرا وأمثالا وخيالا وتمثيلا (ص68)، وهو ما ينقض كل ما قاله من قبل. بل إنه ليجعل “ألف ليلة” كلها نصا أنثويا (ص68، 72)، بما يعنى أن اللغة ليست ذكورية دائما، فها هو ذا نص لغوى ساحر يتسلط على الرجال ويغيرهم إلى ما تريده المرأة، وفى نفس الوقت هو نص أنثوى. فالنص عنده تأليف أنثوى، وهو ما يعنى أن الكتابة (بمعنى التأليف، وهو المهم) كانت معروفة لدى النساء حتى لو كان الرجل هو الذى يدون ما تكتب المرأة كما هو الحال هنا حسب كلامه (ص61، 68). لقد قال ذلك فى البداية فى شىء من التردد، ثم عاد فقاله بيقين لا أدرى من أين له به (ص80- 81، 83). ليس ذلك فقط، بل إن المرأة التى ألفته قرأت، حسب كلامه، المئات من أمهات الكتب العربية والإسلامية (ص70). كذلك فالكتاب يثبت أن المرأة أفضل من الرجل فى كل شىء (ص85)، وهو ما ينقض كل ما قاله من أساسه، إذ ها هو ذا مجتمع ذكورى يقبل أن تؤلف امرأة كتابا تثبت فى قصة من قصصه (هى قصة “تودد” الجارية) أن المرأة أفضل من الرجل ولا يفكر الرجل فى مصادرة الكتاب أو البحث عن مؤلفته لمعاقبتها. وطبعا نحن لا نؤمن بأن مؤلفة الكتاب هى شهرزاد، بل هو تأليف رجالى كما هو معروف، إلا أننا نأخذ المؤلف بما يقول لنبين ما فى كلامه من تناقض غير مقبول، وأن ما يكتبه لا يعدو أن يكون فقاقيع فكرية إن كان للفكر صلة بما يقول د. الغذامى. ثم إن جميع القصص التى خلفتها لنا الثقافة الإسلامية تقريبا هى قصص كتبها رجال وموجهة إلى الجمهور بنوعيه رجالا ونساء، وهو ما يعنى أن أن الحَكْى لم يكن مقصورا على المرأة، بل كان يمارسه الرجل على عكس ما يزعم الكاتب من أن الحكى وظيفة أنثوية. بل إن كثيرا من أبطال “ألف ليلة” هم الذين يروون بالفعل قصصهم لا شهرزاد.
ويتصايح الغذامى وأمثاله دوما بأن المرأة مقموعة قمعها الرجل، مع أن المرأة لم تكن يوما مقموعة بالمعنى الذى يقصدونه، فهى الحبيبة والخطيبة والابنة والزوجة والأم والأخت والجارة والخاطبة والطبيبة والممرضة والمدرسة والمحامية والشاعرة والكاتبة والإدارية، فهل كل هؤلاء مقموعات؟ وماذا نفعل بالأشعار التى تصورها قِبْلة قلب الرجل وحلم خياله ومحور وجوده وسر سعادته؟ ثم هل من الممكن أن كل زوجه كان يقمع زوجته على طول الخط فلا يأخذ رأيها ولا يستعين بها فى أى من أموره؟ وحتى لو كان يردد ما قد يقلل من قيمتها فى بعض الأحيان فحقيقة الأمر أن هذا من الأشياء التى يرددها الواحد منا، لكنه فى الواقع يسير على سنة أخرى غير ما يقول؟ والرجل قد يضيق بخلفة البنت، لكنه بعد قليل تغلبه مشاعر الأبوة والحنان والحب والخوف عليها والعمل على توفير حاجاتها وتزويجها. أما الأم فكان لها دائما وأبدا الاحترام والإجلال… كذلك فما سجله ابن الجوزى فى كتابه: “أخبار النساء” فى “باب ما جاء فى خلق النساء” من أوصافهن فى كل وضع وشكل وخلق ومنظر يدل على مدى اهتمام الرجل العربى بها ولا يمكن أن يكون دليلا على قمعه لها. وحتى لو كانت فى الظاهر خاضعة فإنها كثيرا ما تكون مخضوعا لها من جانب الرجل رغم ما قد يبدو من ضعفها. انظر مثلا إلى قول مى زيادة فى كلامها عن مُتْحَف اللُّوفْر: “هذا قصر الملك- الشمس، الذى كان يهاب صولة النساء فى حين كان أصحاب التيجان يهابونه” . ويُذْكَر أن القائد الفرنسى نابليون بونابرت قال لابنه يوما: أتعلم يا بنىّ أنك أقوى إنسان فى هذا العالم؟ فقال ابنه: وكيف يا أبى؟ قال نابليون: أنا أَحْكُم العالم، وأمك تحكمنى، وأنت تحكم أمك. وفى رواية أخرى أن قائل هذا الكلام أحد القواد الأثينيين. وفى كثير جدا من الأحيان كانت النساء ذوات سلطان قوى فى قصور الخلفاء العباسيين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين: الحرائر منهن والجوارى على السواء، وكذلك الأمر فى الغرب. وليس الذى صنعته مارى أنطوانيت، التى كانت السبب الحاسم فى انفجار الثورة الفرنسية ضد حكم زوجها لويس السادس عشر، ولا الذى صنعته مارى أنطوانيت الثانية، سوزان ثابت، بحسنى مبارك وبرجال الدولة بل بالدولة كلها، وكان سببا رئيسيا لقيام الثورة المصرية الأخيرة، بالذى يخفى على أحد. ودعنا من الكلام عن الفنانات والراقصات والمومسات والدور الذى يلعبنه فى أوساط كبراء الدول وينفِّذْن من خلاله ما يشأن دون حسيب أو رقيب. كما قامت بسبب المرأة الحروب كما فى حرب طروداة، التى اشتعلت بسبب هيلانة، والحرب التى اشتعلت واستمرت أربعين عاما بين قبيلتى بكر وتغلب فى الجاهلية بسبب البسوس خالة كليب، والحرب التى دارت بين المسلمين فى المدينة وبين اليهود بسبب المرأة التى ربط أحفاد القردة والخنازير ذيل ثوبها فى السوق فانكشفت سوأتها، وكما فى فتح عمورية بسبب المرأة التى اعتدى عليها الروم فى مدينة من مدن الحدود بينهم وبين الدولة العباسية، فصرخت: وامعتصماه! وكم ارتكبت جرائم قتل بسببها، إذ أغرت بيلاطسَ الحاكم الرومانى فى فلسطين قبيل دعوة المسيح عليه السلام الفتاةُ سالومى بنت زوجته فجَزَّ رقبة يحيى عليه السلام، كما حرضت إحدى جميلات الخوارج رجلا منهم على قتل علىّ بن أبى طالب، فقتله. وعندنا أيضا بلقيس والزباء وسجاح وكاهنة البربر وشجرة الدر والملكات الكثيرات اللاتى حكمن بلادهن فى أنحاء العالم .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى