ثقافة وأدب

نقد رواية عبد الرحمن منيف “حين تركنا الجسر”(2-2)

أ.د. إبراهيم عوض

كاتب ومفكر مصري.
عرض مقالات الكاتب


وكان لا بد من الكتابة عنها وتبيين سوآتها للقارئ!
والجو فى الرواية جو كئيب، فهو بارد وثقيل ولزج ومترب طبقا لما يصفه السارد. وحينما أخطأ الكاتب وسمح للشمس فى منتصف الرواية أن تظهر وينتشر شىء من الدفء سرعان ما صيرها بردا وثلوجا وعواصف. وكان يمكن أن يبدع الكاتب فى وصف الطبيعة فى مثل تلك الظروف، لكن ما قاله عنها موجز ويخلو من الإبداع ولا يشد القارئ إلى ما يقول، إذ يبدو وكأنه آلة تقدم تقريرا عن الجو فى الخارج باردا لا نبض فيه ولا حيوية. والكلب يتمرغ فى التراب والماء. والطبيعة من حول البطل وكلبه جهمة تصد النفس عن الانطلاق فيها والتفاعل معها، ولايظهر فى الإطار الذى يتحركان فيه أحد من البشر، اللهم إلا صيادين: أحدهما ظهر ظهورا قصيرا غامضا، ولم تكن بينه وبين صيادنا مودة أو ثقة، بل جو عدائى أو شبه عدائى، والآخر كانت هناك حوارات بينه وبين بطل الرواية، وكان رجلا طيبا، بيد أن كلا منهما كان حريصا بوجه عام على ألا يكشف ما لديه من أسرار الصيد للطرف الآخر. فإذا أضفنا إلى ذلك مزاج السارد العكر المظلم المزعج وانتهاء الرواية بالفشل فى الإيقاع بالبطة المنشودة والغموض الذى يسربل قصة الجسر تبين لنا كيف أن الرواية ثقيلة ثقيلة ثقيلة على النفس. ولوقارنا مثلا بين وصف المؤلف للطبيعة فى روايته وبين ما قاله امرؤ القيس عن الغيوم والمطر والسيول التى انصبت انصبابا وتعرض لها فى معلقته وكيف كان كل شىء رغم ذلك ممتلئا بالحيوية والعُرَام لرأينا الفرق بين أدب وأدب. ذلك، وامرؤ القيس شاعر جاهلى لم يدرس الأدب ونظرياته ولا النقد ومدارسه كعبد الرحمن المنيف، ولم يكن يعرف الحداثة والتقدمية وغيرها من المفاهيم والمصطلحات المجعلصة التى يبرع أمثال المنيف فى التشدق بها ولَوْكها والتفاخر بأنهم يجرون عليها فى نتاجهم.
وهذه بعض النصوص التى يصف فيها المؤلف، على لسان السارد، منظر الطبيعة: “كانت الريح تشتد، أما السماء فكانت تختنق تدريجيا بالحمرة القاتمة وتتداخل بالأفق الآخر ثم تصبح جزءا منه. وفوق كل الأشياء انتشرت رائحة المساء الرطبة المزدحمة المليئة بتوقع ما” (ص12). “المدى الفسيح بين المستنقعات المنخفضة، كما أحب أن أسمى هذا المكان، والمستنقعات الأخرى التى أشار إليها الرجل مليئة بذلك الجمال الأخرس، الجمال الشتائى الحزين: أشجار الجوز تقف عارية كأنها حدود بين عالمين. أشجار الجوز العملاقة بأغصانها المتداخلة الكثيرة تشبه حالة من الفوضى الدائمة. أما لون الأرض فأقرب إلى الصفرة الرمادية. السماء الباهتة الزرقة والبعيدة توحى بالوحشة، أما البرودة فقد اكتنزت حتى أصبحت مثل شىء ثقيل يهبط على الصدر” (ص69). “المطر الأبيض الناعم يتساقط. صوته الصغير يخرق ذرات الهواء ليستقر فيها. رائحة الأرض تعوى بذلك الدخان الذى لا يرى. ولكن تفاعله السريع، ازدحامه فى الأشياء ثم تمدده، يجعله رماديا لدرجة لا تصدق. رفعت وجهى نحو السماء. أغمضت عينى وفتحت فمى ورئتى” (ص81). “ما كادت الأيام الأخيرة من كانون الثانى تنقضى ببرودتها القاسية الثقيلة حتى هبت موجة دفء تزخر برائحة الانتقال. تفتحت الحياة وزفرت الأرض بروائح الخصوبة، وبدت الطيور فى حالة أقرب إلى الفرح الشيطانى بحركاتها الذكية الصاخبة. لكن ما كاد يطل الأسبوع الثانى من شباط حتى تغير الجو من جديد. انفجرت الرياح الباردة فجأة، وهبت ريح عاصفة ثلجية غطت الأرض فى فترة قصيرة، وأخذ الثلج يزداد كثافة يوما بعد آخر، وكأن الطبيعة نصبت فخا، وبدأت. كانت الطيور فى الأيام الأولى للعاصفة كالأفاعى المحاصرة بالنيران. كانت ضعيفة مقرورة بأجنحتها الرخوة ونظراتها المتوسلة المليئة بالرجاء، وكأنها فقدت عادة الطيران” (ص123). “وفكرتُ: ذلك الشهر الأعمى الملىء باللزوجة، بالريح المغبرة، تجمد ذلك الشهر فوق رؤوسنا كالطير عندما يضاجع الهواء. كان ثقيلا مليئا بتلك الونّة الصماء” (ص124).
ثم لدينا أيضا الجسر، وما أدراك ما الجسر؟ فموضوعه غامض كأن الكاتب يتحدث إلى ناس بأعيانهم بالشفرة فلا يفهمه إلا هم. ما هذا الجسر؟ وما قصته؟ نعرف معرفة غامضة أن بعض الجنود، فيما أتصور، وهذا أمر قد أخذ منى وقتا طويلا وصفحات أطول من ليل الشتاء بالنسبة للعازب، قد أُمِروا أن يبنوا جسرا فبَنَوْه، ثم أُمِروا أن يتركوه ويرحلوا. لماذا؟ إلى أين؟ ولم كان السارد يريد نسفه قبل الرحيل؟ قيل فى بعض ما كُتِب من نقد أو عَرْض لهذه الرواية إن الإشارة هنا إلى جسرٍ خافَ بانوه من الجنود أن يستخدمه العدو فى حرب حزيران عام 1967م بعد تركهم المكان. لكن هذا غير واضح بتاتا من النص، وأرجح ترجيحا شديدا أن يكون ذلك كلاما أخبرهم به المؤلف. ومعنى هذا أنهم لم يفهموا هذا الذى قالوه من تلقاء أنفسهم بل من شرح الكاتب. أى أن الكاتب يتحدث عن نيته. وليس الأمر فى عالم الأدب بالنيات بل بما استطاع الأديب أن يوصله للقارئ من خلال إبداعاته الأدبية. وهنا نجد أن الأديب لم يستطع توصيل شىء لنا نحن القراء، بل بقيت نيته حبيسة ضميره لا نعرف عنها شيئا إلا منه هو. وما هكذا يكون الإبداع الأدبى.
ولنفترض أن الأمر كما قالوا فعلا فهل كان بمكنة مثل هذا الجسر منع العدو من العبور؟ ولكن عبور إلى أين؟ ومن أين؟ لا ذكر لشىء من هذا، وليس أمامنا سوى الغموض والإبهام والظلام. ثم إن هذا الجسر، فيما تحدث عنه السارد، جسر صغير حتى لقد ذكر أنه كان بمستطاع الجنود سحبه على الأرض. فهل مثل هذا الجسر يمكن أن تكون له كل تلك الأهمية الإستراتيجية التى يومئ إليها سارد الرواية؟ معنى ذلك أنه جسر مقام على نُهَيْر، وهو ما لا يمكن أن يشكل تدميره عائقا للقوات العدوة الغازية. ولقد كانت هزيمة حزيران من الشُّنْع والبشاعة بحيث لا يمكن أن يشكل وجود مثل ذلك الجسر أو غيابه أية أهمية حربية. لقد دُمِّر الطيران المصرى كله فى وقت ضئيل واحتُلَّت سيناء لعدة سنين، وقيل كلام كثير عن تسليم السلطات السورية مرتفعات الجولان لإسرائيل تسليم مفتاح. فما قيمة جسر مثل هذا فى هذه الظروف العربية البائسة؟ ولماذا لم ينسفه الجنود ما دامت ضمائرهم الثورية تلذِّعهم كل هذا التلذيع؟ لقد ذكرت الرواية أن الأوامر قد جاءتهم أن ينجو كل منهم بجلده ويتصرف بعقله وعلى مسؤوليته. عظيم! فلماذا لم يتصرفوا بأنفسهم ويدمروا الجسر تدميرا، ولا من شاف ولا من درى! إذن لكنا ارتحنا من وجع الدماغ هذا الذى لا فائدة فيه. واضح أن المؤلف يخلق مشكلة من لامشكلة! والمهم، بعد هذا كله، أن النصف الآخر من الرواية يمثل حارة مسدودة هو أيضا.
وقد قفز إلى مخى، وأنا أنتهى من قراءة “حين تركنا الجسر”، رواية أرنست همنجواى: “العجوز والبحر” (The Old Man and the Sea)، التى كنت قرأتها منذ بضعة عقود فى ثوب عربى. فكلتا الروايتين تعالجان موضوع الصيد: رواية همنجواى تتعرض لصيد البحر متمثلا فى سمكة مارلن، ورواية المنيف تتناول صيد الهواء متمثلا فى بطة. كما تنتهى كلتاهما بالإخفاق فى الحصول على الصيد المراد: فصياد همنجواى الكوبى تأكل أسماك القرش الأخرى سمكته الضخمة التى اصطادها بعد عذاب، وصياد المنيف العربى الذى لا نعرف من أى بلد هو صياد خائب لا يدرى كيف يفرق بين البطة والبومة، فيصطاد الأخيرة حاسبا أنها البطة المَرُومَة. إلا أننا، لدى التدقيق، نجد فروقا واضحة وجوهرية بين العملين: فعجوز همنجواى خرج فى رحلته لاصطياد سمكة المارلن جائعا، ولم يرتزق شيئا طوال ثلاثة أشهر تقريبا كان أحد الشبان الذى علمه الصيد فى صغره يرعاه ويخفف عنه ويزوده بالطعام خلالها. وهو ينطلق إلى البحر وحده دون أى رفيق من البشر أو غير البشر، بل إنه لا يقابل أثناء رحلته فى مطاردة المارلن أى إنسان. أما صياد المنيف، وهو ليس عجوزا بالمناسبة بل رجلا ملء هدومه ونشاطه وصحته وحيويته، وبذاءته وحماقته وتطاوله على الله أيضا، فكان يصطحب معه كلبه وردان، زيادة على أنه قابل مرتين صيادين مثله يدور بينه وبين كل منهما الحديث حول الصيد. ثم إنه فى الوقت الذى كان صياد الروائى الأمريكى يواجه أخطار البحر من أمواج وقروش غير مستعين بشىء غير قاربه ومجدافيه وحربة صيده وعلى مدى أيام ثلاثة، نجد صياد الكاتب العربى لا يواجه أى خطر كان، إذ هو يصطاد على اليابسة. وأقصى ما واجهه من صعوبة هو خوضه لعدة دقائق فى المستنقع للإمساك بالطائر الذى اصطاده أخيرا ظانا أنه هو البطة التى تسكن خياله وتجسِّد أمنيته فى الحياة، وعلى مقربة منه كلبه وردان. ولا ينبغى كذلك أن يفوتنا الفرق الهائل بين بطته وبين مارلن همنجواى. ومن هذه الفروق أيضا أن الصياد الأمريكى قد نجح فى الإيقاع بسمكة المارلن التى كان يتغيا الإمساك بها بل نجح أيضا فى ضربها بحربة صيده حتى ماتت وشرع يجرها مربوطة إلى قاربه عائدا إلى البر شاعرا بالظفر، وإن كان قد ظل طوال رحلة العودة يصارع، برماحه وسكينه، أسماك القرش التى تكأكأت على سمكته تأكل منها حتى تركتها فى نهاية المطاف مجرد هيكل شوكى ورأس وذيل فقط، أما الصياد العربى فقد أخفق فى التعرف على الطائر الذى أطلق عليه رصاصه وأسقطه فى المستنقع وخاض المياه حتى استطاع أن يضع يده عليه وحمله إلى الشاطئ حيث فوجئ بأنه إنما اصطاد بومة لا بطة. وهو ما يدل على أنه صياد فاشل لا يصلح لمزاولة ذلك العمل. وهذا بالمناسبة كل ما قابله من صعوبة. وهناك أيضا أن رواية المنيف تستغرق شهورا، بينما لا تأخذ رواية الكاتب الأمريكى أكثر من أيام قلائل. وفوق هذا رأينا صياد الطيور العربى يصطاد أثناء ذلك طيورا أخرى، فى حين لم يصطد عجوز همنجواى فى رحلته هذه سوى السمكة. وزيادة على ما مر لا يتمتع العجوز فى “العجوز والبحر” بسلاطة اللسان وجهامة الروح وعدوانية الطباع والتجديف فى حق الله والقسوة على مخلوق رقيق ظريف كالكلب وردان مثلما يتمتع صياد “حين تركنا الجسر” بكل تلك العيوب، إن كان من الممكن التمتع بالعيوب. بل إن من النقاد من وجد فى رواية الأديب الأمريكى رموزا نصرانية كالصلب ودق المسامير فى اليد مثلما وصفت الأناجيل حادثة الصلب طبقا لاعتقاد النصارى المؤمنين بأن المسيح عليه السلام قد صُلِب. وهذا يعاكس ما فى رواية المنيف من تجديف وتمرد وسخرية بالله والدين. ومن حيث بناء الروايتين لا بد من الإشارة إلى أن عمل همنجواى رواية قصيرة، ولا يزيد كثيرا عن نصف رواية المنيف التى تقع فى مائتى صفحة ونيف، والتى تحتوى أيضا على موضوعين هما موضوع الجسر وموضوع الصيد، على حين لا تضم رواية همنجواى بين طياتها إلا موضوعا واحدا هو رحلة العجوز لصيد سمكة المارلن الضخمة. وقد أعطى هذا ميزة وتفوقا لرواية الأديب الأمريكى، إذ لم تتشتت جهود كاتبها ولا جهود القراء بين موضوعين لا صلة بينهما كما حدث فى رواية المنيف، التى لم يكن هناك أى داع لتضمينها حكاية الجسر مع حكاية الصيد، وبخاصة أن حكاية الجسر غامضة لم يستطع المنيف أن يضع أيدينا على أى سبب لإيراده إياها أو على أى معنى لها. وبالإضافة إلى هذا فإن الانفجار الذى حدث فى نهاية “حين تركنا الجسر” قد زاد الرواية غموضا فوق غموضها الأصلى، علاوة على أننا لا ندرى لماذا أراد المؤلف أن يوحى لنا أن ثم صلة بين الكلب وردان، الذى ابتعد عن صاحبه وهو يخوض مياه المستنقع ليستنقذ الطائر حين سقط هناك، وبين ذلك الانفجار. وهذا عيب فنى فادح فوق العيوب الفنية الفادحة الأخرى التى تعانى منها الرواية. كما أن عجوز همنجواى لم يكن عكر الطبع سيئ المزاج كبطل “حين تركنا الجسر”، بل كان رضىّ النفس هادئ البال. ثم إن فشل “العجوز والبحر” ليس راجعا إليه، ومن ثم فهو غير مسؤول عنه، بخلاف الفشل لدى بطل المنيف، إذ هو فشلٌ يعود إلى جهل صاحبه وغبائه حين ظن البومة بطة. وهو أمر غريب جدا ومستهجَن الوقوع من صياد، وخصوصا من صياد كزكى نداوى ظل يمطرنا بثرثراته المزعجة التى لا تنتهى طوال الرواية عن أمور الصيد. وإذا كانت رواية المنيف قد انتهت بفشل زكى نداوى فى صيد بطته التى ظل يحلم بها دهرا فإن رواية “العجوز والبحر” تستمر بعد ذلك حتى يفد الشاب الذى علمه سانتياجو العجوزُ الصيدَ فى طفولته، ويراه فى حالته البائسة التعيسة، فيحمل إليه القهوة ويعزيه عما لاقاه من شدائد وآلام وإخفاق واعدا إياه بأنهما سوف يبحران عما قريب معا فى قارب واحد ليعاودا الكرة آمِلَيْن أن يكون رزقهما أوفر حظا. وقد وضع همنجواى روايته فى جزر الباهاما عام 1951م، وإن لم تصدر إلا فى العام الذى يليه، وحاز بفضلها على كل من جائزة نوبل وجائزة بوليتزر الأمريكية لأستاذيته فى فن القص وأسلوبه القوى. ومع هذا فثم نقاد رَأَوْا أن الرواية عمل ضعيف وأنها تخالف أعماله السابقة التى تتسم بالواقعية. وقد حُوِّلَتْ روايةُ همنجواى إلى فلم سينمائى أكثر من مرة، بينما لم تحظ رواية المنيف بهذا المصير.
والآن، وبعد أن انتهيت من نقدى للرواية أحب أن أثبت هنا رأى كاتب آخر فيها ونرى رأينا فيه. كتب إبراهيم العريس عن عمل منيف مقالا بعنوان”حين تركنا الجسر” لمنيف: هزيمة فرد وهزيمة جيل” فى صحيفة “الحياة” (الأربعاء/ ١٩ نوفمبر ٢٠١٤م) هذا نصه: “مع صدور روايته الاولى “الاشجار واغتيال مرزوق” جعل الكاتب السعودى عبد الرحمن منيف لنفسه مكانا لا بأس به فى الرواية العربية المعاصرة. فروايته الأولى تلك كانت مفاجأة حقيقية عرفت كيف تثير الإجماع من حولها بفضل تميّزها وبنيانها الذى أدخل جديدا إلى حد ما على الرواية العربية. غير أن ذلك المكان الذى تحقق لمنيف بفضل “الأشجار” لم تعززه روايتاه التاليتان: “قصة حب مجوسية” و شرقى المتوسط”، اللتان صدرتا خلال الأعوام التالية لصدور روايته الأولى، فاعتبرت أولاهما أقل شأنًا من “الأشجار” فيما نُظر الى الثانية باعتبارها عملًا تغلب عليه السياسة والأيديولوجيا بل تلتهمانها رغم تفوقها المدهش فى هذين البعدين.
من هنا كان من الضرورى فى ذلك الحين، أى أواخر سنوات السبعين، أن تصدر رواية منيف الرابعة: “حين تركنا الجسر” لتطرح من جديد مشكلة التعامل مع هذا الكاتب، ومشكلة تقييمه انطلاقا من مجمل أعماله وتطرح فى الوقت نفسه سؤالًا مشروعًا يقول: هل يمكن أن يكون الشخص الذى كتب “الاشجار” هو نفسه مؤلف الروايات الثلاث التالية، رغم أن الرواية التى نحن فى صددها نالت إعجابا ونجاحا فاقا ما نالته سابقتاها؟ فالحال أن “حين تركنا الجسر” أتت متميّزة عن تينك السابقتين محاولة فى شكل أو آخر، فى بنيانها الفنى على الأقل، الاقتراب من عالم “الأشجار واغتيال مرزوق”.
“حين تركنا الجسر” أتت رواية عن الخيبة والفشل تماما مثلما هو الأمر مع الرواية الأولى، غير أن التعامل مع هذين البعدين يتخذ هذه المرة لدى “بطل” الرواية طابعا عدوانيا ممتزجا بالحزن والمرارة وشىء من الانتظار. “البطل” هنا اسمه زكى النداوى، انسان سيتبين لنا شيئًا فشيئًا أنه ينتمى إلى الفئات الكادحة، وأن صيد الطيور الذى يمارسه فى صحبة كلبه “وردان” ليس هواية تأتى عن ترف، وإنما هو محاولة لإنجاز الذات، لسحق الهزيمة التى كانت قد سحقته، من طريق السيطرة على “ملكة البط”.
فعن طريق قتل هذه الملكة وإذلالها بمشاركة وردان كان زكى النداوى يأمل فى تخطى هزيمته. والحدث الأول للرواية يدور حول انتظار الملكة فى بقعة الصيد الريفية لقتلها. وهذا الحدث يجرى على المستوى الأول حيث يروى لنا زكى النداوى انتظاره الطويل الذى يحمل شيئًا من الأمل فى الوقت الذى يستعيد فيه على المستوى الثانى للرواية ذكريات “الجسر” الذى بناه والرفاق المقاتلين، ثم تخلَّوْا عنه من دون أن يعبروه (لاستعادة الأرض المغتصبة؟) او ينسفوه (منعًا للعدو من استعماله).
على هذين المستويين: مستوى الحاضر وانتظار الملكة لقتلها، ومستوى الماضى واستعادته، تتمحور شخصية زكى النداوى، الذى يبدو لنا محبطًا ويائسًا منذ السطور الاولى للرواية. وشيئًا فشيئًا سنكتشف سبب الإحباط واليأس، كما سنشهد كيفية تعامل زكى النداوى معهما من طريق إسقاطهما على كلبه وردان. والكلب، رغم قسوة زكى، مطيع متفهم متعاون يشارك معلمه انتظاره وقلقه وأمله ويأسه من دون أن ينبس ببنت شفة او يتمرد. وهو حتى حين يتمرد فى الفصل الاخير من الرواية يكون تمرده سلبيا لا عدوانية فيه تجاه معلمه. زكى النداوى هو الذى يربط مستويى الفعل والتذكر فى الرواية. وهو يطمع، كما قلنا، إلى تخليص نفسه من شوائب الماضى عبر قتل الملكة. الملكة مقتولة تساوى عنده الجسر متروكًا. والمعادلة ترافقه طوال الفصول حين يكتشف، من طريق شيخ حكيم، أن أسلوبه فى انتظار الملكة أسلوب خاطئ. وهنا، إذ يصحح أسلوبه ويأتى فى ليلة قمرية، يتمكن أخيرًا من قتل ملكة البط، ويصل إلى حدود تحقيقه لذاته فى مشهد أخاذ. ولكن فى لحظة الانتصار هذه يتخلى عنه وردان. بيد أن هذا التخلى نفسه لا يهمه فى لحظة انتظاره المتوهجة، فيلتقط القتيلة “الزانية” بنفسه ليكتشف أن انتصاره هذا لا يساوى شيئًا، وأن عملية الاستبدال محكومة بالفشل، وأن البطة الملكة ليست بعد أن ماتت سوى بومة قبيحة. ويعيدنا هذا إلى الحلقة الدائرية التى سبق لنا أن تعاملنا معها فى “الأشجار واغتيال مرزوق”: الهزيمة، الانتظار، الأمل، الخيبة. لكن التطور الذى يطرأ بين الانتظار الأول والانتظار الثانى أنه فى المرة الاولى يكون فرديا ينغلق فيه زكى النداوى على ذاته، لكنه فى المرة الثانية يتحول الى انتظار جماعى: “وقبل أن تغيب شمس اليوم الأول كنت قد ضعت فى زحام البشر، وبدأت أكتشف الحزن فى الوجوه، وتأكدت أن جميع الرجال يعرفون شيئًا كثيرًا عن الجسر، وأنهم ينتظرون… ينتظرون ليفعلوا شيئا
إن هذه الكلمات الاخيرة التى تنتهى اليها رواية “حين تركنا الجسر” تمثل فى الواقع التطور الأكبر الذى أصاب عمل عبد الرحمن منيف منذ روايته الأولى حتى صدورها. ولكنّ ما يُفْقِد نقطة الضوء هذه قيمتها هو أنها تأتى أيضًا من طريق اكتشاف فردى لشخص محبط لا يرى إلا الحزن فى كل الوجوه. ومن هنا السؤال: هل تكفى هذه النهاية لإقناعنا بأن “حين تركنا الجسر” ليست رواية عن الخيبة والإحباط؟ وهل تكفى بضع كلمات ختامية إلى ضرب كل لحظات التأزم والانهزام التى رافقت مسيرة زكى النداوى منذ ترك الجسر لقمة سائغة للعدو حتى تخلى عن انتصاره على الملكة خائبًا؟ أسئلة لا يمكن التنبؤ بالكيفية التى كان من شأن الكاتب أن يجيب عليها فى أعمال تالية له. لكن بناءه لشخصية زكى النداوى، هذا البناء المتماسك فنيا الى حد كبير، كان يدفعنا الى الاعتقاد بأن النداوى هذا لن يكون هو الحل، كما أن الحل لن يأتى من الانتظار. فالحل يقترحه الحوار التالى:
“- والجسر ألا يعنى شيئًا؟

  • يمكن دائمًا بناء الجسور. الصعب هو بناء الإنسان.
  • بناء الإنسان؟
  • نعم بناء الإنسان من نوع جديد!
  • تقصد إنسانًا لا يترك الجسر؟
  • أقصد إنسانًا لا يترك الجسر، ويعرف كيف يتصرف”.
    إن هذا الحوار، إذ يأتى فى الصفحات الأخيرة، يكشف لنا عن ملامح إيجابية فى الرؤية. غير أن إيجابيتها تفترض واحدًا من اثنين: إما سقوط زكى النداوى (مع كل الجيل الخائب المحبط الذى يمثله) وإما إقدامه على عمل شىء يختلف عن مجرد محاولة التخطى الداخلى للهزيمة. ومن هنا نجد أن “حين تركنا الجسر” بتقنيتها الحديثة التى تجعلها أشبه “بمونولوج” طويل (أكثر من اللازم على أى حال) تنتمى إلى تلك الإبداعات التى تعكس أزمة جيل أكثر مما تعكس أزمة طبقة. وهنا ليس مصادفة أن تحفل الرواية بتجريد زمانى ومكانى لا تناقضه سوى إشارات قليلة جدا حول انتماء زكى النداوى.
    من الناحية الفنية لا تخفى الرواية، على رغم شىء من الوهن فى تسلسل الاحداث، تماسكًا فذًّا فى رسم شخصية زكى النداوى، وعلاقته مع كلبه. فالنداوى المحبط على الدوام واليائس من وحدته لا يكف عن إسقاط كل إحباطه على الكلب فى حوار متميز على رغم امتلائه، أحيانًا، بثرثرة ما. وفى مقابل الرسم التصاعدى لشخصية زكى النداوى وكشفه أمامنا تدريجيًّا نلاحظ ضعفا، والكثير من المبالغة الغرائبية، فى رسم شخصية “الشيخ” الذى يدل النداوى على أفضل الأساليب لصيد الملكة.
    “حين تركنا الجسر”، على رغم بعض السلبيات التى كان يمكن المرء أن يجدها فيها، رواية جيدة، رواية تتحدث فى لغة متماسكة، وصور قوية، وبناء فنى متصاعد يسير على مستويين تاريخيين متوازيين: الماضى والحاضر كما يراهما زكى النداوى. والقارئ، إذا كان قد أخذ عليها عدم قدرتها على تخطى هزيمة “الجيل” الذى تتحدث عنه، فإنه أدرك أن عبد الرحمن منيف، حين يتحدث عن جيل “زكى النداوى” وهزيمته، فإنه يعرف جيدًا ما يقوله. ولكنه إذا كان لا يقول ما لا يعرفه فما هذا إلا لأنه واحد من أبناء الجيل الذى ينتمى اليه زكى النداوى. وهو إذا كان يتلو فى هذه الرواية شيئًا من فعل الندامة فإن فضيلته الكبرى أنه بات متأكدًا الآن كما يقول على لسان “بطله”: لا تفيد الجسور شيئًا إذا لم يعبر عليها الناس. والقارئ العربى كان، فى ذلك الحين ومن زمان، فى انتظار من يتفوه أخيرًا بهذه البديهية”.
    ولعل القارئ قد لاحظ أننى والعريس نشترك فى استغراب معاملة الراوى لكلبه بهذه الطريقة القاسية رغم لطف الكلب وطاعته والمساعدات الكثيرة التى يؤديها لصاحبه. أما فيما خلا هذا فلا أوافقه على شىء مما يقول: فهو مثلا يؤكد، ولا أدرى على أى أساس، أن زكى النداوى من الطبقة الكادحة. وليس فى الرواية ما يرشح لهذا الفهم والاستنتاج. ولو كان الرجل يتخذ من الصيد حرفة له فلماذا شغل نفسه كل هذا الشغلان فى اللهاث خلف تلك البطة؟ إن الكادح إنما يسعى وراء لقمة عيشه ويهتم بكثرة ما يصطاد من الطيور لا ببطة بعينها مضيعا وقته ومفسدا أعصابه بسببها على هذا النحو وكأنه لا يوجد فى الكون شىء آخر يستحق الاهتمام والانشغال، وإلا فمن أين كان يأكل ويعيش طوال الوقت؟ وهو لم يذكر قط فى الرواية أنه يتاجر فى الطيور التى يصطادها أو أن من يتعاملون معه يطلبون هذا الصنف من الطيور أو ذاك ولا اشتكى من ضيق باب الرزق بسبب صعوبة الصيد مثلا أو عن حاجته إلى الصيد من أجل إطعام نفسه وأسرته. بل إن كلامه الساذج عن الصيد وتصرفاته السطحية الخرقاء أثناءه لتدل على أنه لم يكن صيادا محترفا بل هاويا. وهو نفسه فى حديثه مع الصياد الثانى الذى قابله فى العراء يؤكد أن الصيد بالنسبة له مجرد هواية ورياضة ليس أكثر (ص75). وفى موضع آخر يقول لنفسه إنه لا بد أن يلازم هذا الصياد ويتعلم منه حتى يصير هو نفسه أيضا صيادا (ص88).
    كما أن كلام إبراهيم العريس عن أزمة الفرد وأزمة الجيل هو رَوْسَم يبرع فى ترديده والتشدق والطنطنة به اليساريون وأشباههم، أولئك الذين يعشقون تضخيم ذواتهم وإسباغ بطولة موهومة على أعمالهم السخيفة. بالله أين فى الرواية ما يدل على أزمة الجيل؟ لا شىء. أما أزمة الفرد فتتمثل فى قلة أدب زكى النداوى وتجديفاته دون أدنى داع. فلَمْ نعهد لدى الصيادين طول اللسان وزفارته والتمرد على الله والتطاول عليه. إن الصيادين دائما ما يرددون الأدعية وهم خارجون لعملهم كى يرزقهم الله فى يومهم رزقا حسنا. هذا ما نعرفه عن الصيادين، أما الشيوعيون فهم قليلو الأدب عديمو الذوق، يعملون على تشويه صورة الصياد وإظهاره بمظهر المتمرد على ربه تحت دعوى التقدمية والتنوير.
    كذلك فالناقد، فى ربطه بين الجسر والصيد، لم ينجح فى إقناعنا. وهو نفسه لم يكن مطمئنا إلى ما قاله عن الجسر، الذى ظلت حكايته غامضة بل مظلمة طوال الرواية، فلم نفهم من أمره شيئا ذا بال. ومن ثم فمحاولة العريس لجعله رمزا على إحباط الجيل محاولة مقضى عليها بالفشل. وعلى كل حال فمن المضحك أن يرى العريس فى قول النداوى من أن “الجسور لا تفيد فى شىء إذا لم يعبر عليها الناس” اكتشافا مذهلا، وكأنه قد أتى بالذئب من ذيله. وهل هناك فى الدنيا كلها من يرى فى الجسور شيئا آخر غير هذا؟ أم ترى هناك من يبنى الجسور لمجرد التفرج عليها مثلا؟ ثم كيف يكون النداوى ثوريا تقدميا وهو يائس ومحبط بهذا الشكل البائس التعيس؟ أين أبواب الأمل الذى يدعى اليساريون أنها لا تغلق فى وجوههم أبدا لأنهم مع حركة التاريخ، وانتصارهم على خصومهم حتمى لأن المستقبل لهم ولمذهبهم؟ ثم إن النداوى على طول الرواية لم يتطرق ولا مرة عابرة عارضة إلى الحديث عن ثورة أو تمرد أو عن أية جماعة ثورية. فمن أين إذن أتى ناقدنا المفضال بكلامه عن الثورة والثوار؟
    كذلك ليس هناك حوار بين الصياد وكلبه بل قلة أدب طوال الوقت تقريبا من الصياد نحو كلبه المسكين الظريف المتعاون على عكس ما ذهب إليه إبراهيم العريس. وعلى ذكر الحوار هل يعقل أن ينفق المؤلف الفقرات وراء الفقرات فى مناجاة الراوى لكلبه؟ إنه لا يكاد يكف عن الحديث إليه فى كل صغيرة وكبيرة، وفى كل فارغة وملآنة، فى ثرثرة بغيضة مملة خانقة. لقد كان يكلمه عن الطيور والجو وعن مشاعر الإحباط لديه وعن والده ووالدته وما كان يدور بينهما من خصام وجدال. كما كان كثير الكلام عن عطاس الكلب نفسه وبوله، وكأنه لم يكن يعمل شيئا غيرهما، وكان يشتمه ويهدده ويناقشه فى الإلهيات والتجديفات. وهذا أمر شاذ تمام الشذوذ. لقد كنت أرى البريطان فى الحدائق العامة ومعهم كلابهم، فلم يكن يزيد كلامهم معهم عن “Good boy” أو “Bad boy” حسب موقف الكلب من الطاعة لما يأمره به صاحبه أو عدم مسارعته إلى إتيان ما يريده منه. وكان الله يحب المحسنين. وإنى لأتصور أنْ لو كان وردان يستطيع التعبير عن مشاعره تجاه هذا الثرثار لسَبَّه أو لصَفَعَه على وجهه ضِيقًا بثرثرته وقلة عقله وانحطاط لغته وشتائمه التى يوجهها إلى ربه. أما أنا فلا أظن إنسانا طبيعيا يمكن أن يتحدث إلى كلبه طوال الوقت على هذا النحو البغيض. ولو كنت أنا المؤلف لقطعت الرواية وأخذته على مستشفى الخانكة لمعالجته من هذا الهوس بالكلام مع الكلاب أو لحبسته معهم فى وِجَارٍ وارتحتُ وأرحتُ وتركته ينبح معهم على راحته. ومرة أخرى فالكلب لم يكن يردّ على صاحبه بل لم يكن يفهم من قلة أدبه وتمرده على ربه شيئا. فكيف يسمَّى هذا: حوارا؟ ثم ما دخل الكلب فى إحباطات النداوى؟ وهل هذه هى مقتضيات الثورية التى ينبغى أن يعامل بها اليسارى كلبه؟ ترى ما ذنب الكلب المسكين؟
    وبالمثل هناك فشل من جانب المنيف فى الربط بين محاولة الصياد المستميتة غير المفهومة ولا المبررة لصيد البطة وبين حكاية الجسر. وفى كل مرة ينتقل المنيف بين الموضوعين يكون الانتقال مصطنعا وواهيا وغير مقنع. فهو ينتقل فجأة من كلامه مع كلبه فى الموضوعات المختلفة إلى الحديث عن الجسر دون أن يكون هناك ما يسوغ هذا الانتقال، ثم يقطع الكلام فى الجسر دون مبرر أيضا ويعود إلى صيده وثرثرته السخيفة إلى كلبه، تلك الثرثرة التى أتصور أن الكلب كان متأذيا منها أشد التأذِّى، لكن المسكين لا يستطيع عمل شىء لهذا الثرثار السفيه طويل اللسان الذى يركله لغير ما سبب سوى قسوته ووقاحته وساديّته. ومن ثم فكلام العريس فى هذه النقطة كلام ضعيف متهافت كتهافت عمل المنيف، الذى يحاول هو عبثا إسباغ القوة والبراعة عليه.
    أما ما كتبه فيصل دراج، فى مقاله: “عبد الرحمن المنيف ومساءلة التاريخ”، عن الرواية التى بين أيدينا، وهو منشور فى مجلة “نزوى” العمانية، وفى عدة مواقع مشباكية أيضا، فلا يزيد عن أن يكون طنطنات فارغة مخلوطة بهلاوس لفظية لا ترابط بين أجزائها ولا علاقة لها بالنقد الأدبى ولا بأعمال المنيف ذاتها. وإنى لأستغرب من أين يأتى بعض من يسمون: نقادا بهذه السيول من الهلاوس الكلامية، وأنى لهم الوقت اللازم لذلك. وأشد ما يحيرنى هو كلام الكاتب عن عَقْد الخصاء. ترى ما طبيعة ذلك العقد؟ بالله عليكم هل هناك من يوقع على عقدٍ بخصاء نفسه؟ وهل الخصاء يقوم أصلا على عقد؟ نحن نعرف الشهر العقارى والعقود التى توثَّق فيه، وكذلك العقود المبدئية التى لا يوثقها أصحابها تهربا من دفع الرسوم الباهظة، ولم نسمع بشىء اسمه “عقد الخصاء”. فمن أين لناقدنا اللوذعى بتلك النوعية من العقود الشاذة التى ليس هناك مكان لمن يتحدث عنها سوى المصحة العقلية والنفسية؟
    قال: “حين تركنا الجسر: نص نموذجى عن المهزوم الذى خذل قضيته, وكتابة متوترة عن وعى شقى يتاخم الجنون. والقضية هى الجسر المهجور. والقضية- الجسر هى الوطن الذى لم يجد فى “حرب حزيران” من يصون كرامته. لذا تقول الرواية: “العجز يسرى فى الدم, وسيأتى يوم لا ينسل رجال هذه الأمة إلا الأقزام والمشوهين, والأقزام والمشوهون لا يعرفون إلا أن يموتوا رخيصين” يأتى القول غاضبا مباشرا منذرا بهزائم قادمة تحايثه فى إيقاع متصاعد, طبقات إشارية توطد تشاؤمه, تتحدث عن “العيون المهترئة, الرجل المخصى, القرد الأسود وأضواء تنصب على الشارع البارد برخاوة عاجزة”. يبوح الراوى, وهو جندى عادى مهزوم, بكوابيسه الثقيلة دون أن يتهم, إلا بشكلٍ وَمْضِىٍّ, صناع الهزيمة كأن الخوف الموسع يمنعه عن الكلام الصريح فى “الثكنة” وفى الغابة الموحلة التى يطارد فيها طائرا أسطوريا لا وجود له. بهذا المعنى فإن “الخصاء”، الذى تقاربه الرواية بإشارات مختلفة, يتوزع على المؤسسة المهزومة وعلى الجندى البائس الذى ينتسب إليها. إنه السجين الذى يقاد مقيدا إلى معركة قرر مصيرها.
    إذا كان عبد الرحمن, الوطنى المنغمس فى قضايا الأمة انغماسا مرهقا, قد أنتج فى “شرق المتوسط” فضاء كابوسيا خانقا يحاصر القارئ ويثيره فى آن فإن ما جاء به فى “حين تركنا الجسر”، وبفنية مدهشة, يستثير القارئ ويحضه على التأمل والمساءلة. لم تترك الرواية الأولى للتساؤل الطليق إلا حيزا محدودا تاركة الكابوس اللاعقلانى يكتسح غيره, بينما جمعت الرواية الثانية بين الكابوس وفسحة التساؤل, منتظرة بشرا يردون على الهزيمة ولا يقبلون بتأييدها. ذلك أن الرد على الهزيمة متاح إن تحرر الإنسان من قيده والوعى المهزوم من أوهامه. ولهذا يعيد “الطائر الأسطورى”، بعد مطاردة طويلة شاقة, صياغة الصياد ووعيه, يحرره من “عقد الخصاء”، ويدلل على أن “خصاء السلطة” لا يقع لزوما على جميع الذين يأتمرون بأوامرها.
    صاغ عبد الرحمن رواية “حين تركنا الجسر” باقتصاد إشارى محسوب يستهل بـ”بنات آوى” ويختتم ببشر ينتظرون أفقا مغايرا. تبدأ الرواية بصراخ حيوانى وصياد معطوب وأرض موحلة ومناخ شتائى بارد وكلب ذليل، واضعة على لسان الصياد المخذول لغة فاحشة وبائسة فى فحشها تستدعى القرود والأفاعى والعناكب والجرذان والفأر القطبى. تصدر الكلمات عن مركز مأزوم متوسلة “مونولوجا عصابيا” يخلط الحاضر بالماضى، والمخلوقات بالأشباح كما لو كان زمن الذاكرة المثلومة هو الزمن الـوحيد الذى يقرر معنى العالم. من هذه العناصر المختلفة التى تستولد فيها اللغة المتـدفقة الرموز والإشارات والحكايات بَنَى منيف معنـى الهزيمة, ووضع فى الهزيمة معنى السلطة, وقرأ الطرفين فى معنى “الخصاء الموسع”.
    سردتْ “حين تركنا الجسر” سيرةَ جندى مهزوم. وسردت، بشكل مضمر، سيرة سلطة تقمع الجندى وتنهار أمام العدو الخارجى. وإذا كان فى سيرة الجندى ما يفصح عن هموم الإنسان العادى فإن فى السيرة المضمرة ما يحكى عن سلطة متداعية. يظهر سؤال الهزيمة من اختصاص الإنسان العادى، ويتجلى اختصاص السلطة فى الدفاع عن الشروط التى تنتج الهزيمة”. وليس لى من تعليق على هذا الكلام البزرميط إلا أن أقول: ربنا يشفى!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى