ثقافة وأدب

القائد البربري كسيلة.. بين العاطفة القومية و الحقيقة التاريخية

عبد الرحمن قارف

كاتب جزائري
عرض مقالات الكاتب

كسيلة بن لمزم!.. تلك الشخصية البربرية التاريخية التي انقسم الناس في نظرتهم إليها قسمين:

قسمٌ يرى أنها من الشخصيات البطولية التي تستحق أن تُخلَّد و تُمدَح بسبب مقاومتها لـ”الغزاة العرب”، و ذلك القسم إنما أساس نظرته تلك هو العاطفة القومية المحضة حيث أنَّ البربر اليوم (سواءً كانوا مسلمين أم غير مسلمين) هم من يُشكِّلون غالبية ذلك القسم، و بالتالي فنظرتهم لكسيلة إنما هي”نظرة قومية” تلفُّها العاطفة القومية، لا العاطفة الدينية أو المصداقية التاريخية أو الحقيقة.

أما القسم الثاني فيرى أنَّ شخصية كسيلة شخصيةٌ عدائية تصدَّت لحركة الفتح الإسلامي في بلاد المغرب و أعلنت الحرب على الفاتحين، بل و بعض ذلك القسم يعتبر كسيلة شخصية مرتدة عن دين الله بعد إسلامها و ماتت على الردة، و بالتالي فنظرة ذلك القسم لكسيلة هي نظرة سوداء لها بعض المصداقية التاريخية.

فما وجه الحقيقة الكاملة يا تُرى في قصة القائد البربري كسيلة؟!.. و ما موقفه من حركة الفتح الإسلامي و الفاتحين المسلمين و على رأسهم عقبة بن نافع؟!.. و هل صحيح أنَّه مات على الردة بعد أن اعتنق الإسلام؟!

كل تلك الأسئلة سنعرف أجوبتها بعد الاطلاع على قصة كسيلة كاملةً من البداية إلى النهاية..

ففي سنة (50هـ) يتولى الفاتح البطل عقبة بن نافع رحمه الله ولاية إفريقية (تونس اليوم) إثر تعيينه من قِبل أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان y، فجاهد مَنْ بها من الروم و البربر المقاتلين، و دخل للإسلام على يديه قبائلٌ بربريةٌ كثيرةٌ سرعان ما تحولت من خط الهجوم على الفاتحين المسلمين و صدِّ دعوتهم، إلى خط الدفاع عن الإسلام و المساهمة في نشره معهم بين جموع الناس، ثم بنى عقبةُ مدينة القيروان فاكتمل بناؤها سنة (55هـ) و اتخذها مقاماً لعموم المسلمين و قاعدةً للجيوش المجاهدة في بلاد المغرب، و السبب في ذلك سرعة ارتداد البربر عن الإسلام لمجرد مفارقة الأمراء المسلمين لهم، فيعودون لمحاربة المسلمين و الغدر بهم، فقرَّر عقبة بناء القيروان ليحول دون موجة الرِّدَّة البربرية.

و لكن ها هو والي معاوية على مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري يُقرِّر عزل عقبة بن نافع و تولية مولىً له يقال له أبو المهاجر دينار، فحضر هذا الأخير إلى إفريقية و أجرى قرار والي مصر بعزل عقبة (و قد حدثت أزمة)، ثم واصل أبو المهاجر في زمن ولايته الجهادَ و الفتحَ و اعتمد على سياسة اللين و كسب القلوب مع من يُقابلهم مِنَ قبائل البربر؛ ذاك بسبب ما عُرِف عنهم من عزَّة النفس و الكرامة و رفض الإهانة، و هو عكس الأمر الذي كان عليه عقبة من الشِّدَّة و القسوة نسبياً في التعامل مع تلك القبائل التي تحالفت مِراراً مع الروم البيزنطيين ضد المسلمين، فدخل في دين الله الكثير من البربر و تحولوا إلى مقاتلين و مجاهدين في جيش أبي المهاجر، و لا زال هذا البطل رحمه الله يُجاهد و يفتح حتى ترامت إلى مسمعه أخبار تحالفٍ كبيرٍ بين البربر و الروم البيزنطيين في مدينة تلمسان، وكان زعيم هذا التحالف هو القائد البربري القوي كسيلة بن لمزم الذي ينتسب إلى قبيلة أوربة حاملة لواء الزعامة في المغربَيْنِ الأوسط و الأقصى، و كان الروم البيزنطيون قد أوغروا في قلب كسيلة كره الفاتحين المسلمين و اعتبارهم غزاةً معتدينَ رغم أنه لم يكن يدرِ عن الإسلام و أهلهِ شيئاً من قبلُ، و لأنَّ له مكانةً مرموقةً بين جماهير البربر فقد اجتمع له بين يديه منهم خلقٌ عظيمٌ تحمسوا لقتال المسلمين، فلما سمع أبو المهاجر بخبر التحالف ذاك قَدِم إلى تلمسان و عسكر بجيشه حولها، و ما هو إلا أن بزغ الفجر التالي حتى التحم الفريقان التحاما عنيفاً، و حمي وطيس المعمعة بين الطرفين، و اشتدَّ القتل و الجرح بين الصَّفَّين اشتداد عظيماً كاد أن يفنى على إثره تعدادُ الجيشين، فانتهى اللقاء بانتصار المسلمين و انقهار البربر و الروم البيزنطيين، و أُسِر القائد كسيلة و آخرون من أصحابه معه، و قد اشتهرت تلك المعركة بمعركة تلمسان نسبةً للأرض التي جرت أحداثها فيها، و هي اليوم مدينةٌ معروفةٌ غرب الجزائر.

هذا؛ و لأنَّ شريعة الإسلام حثَّت على حسن معاملة أسرى الحرب و الرأفة بهم كما لم تحثَّ شريعةٌ سواها قطُّ؛ فقد أظهر أبو المهاجر و مَنْ معه مِنَ المجاهدين الصورة المشرقة للإسلام أما أنظار كسيلة و باقي الأسرى فعلاً و قولاً، و عومل كسيلة معاملةً كريمةً خاصةً نظراً لمكانته المرموقة في قومه، و طمع أبو المهاجر و المسلمون في إسلامه، فما هو إلا قليل حتى أُعجِبَ كسيلة بالإسلام و اعتنقه طواعيةً دونما أدنى إكراهٍ أو إجبارٍ، و أحبَّ اللغة العربية و اجتهد في تعلُّمها و تعليمها لأفراد قومه بعد أن رغَّبهم في الإسلام، و بين ليلةٍ و ضحاها أضحى كسيلة واحداً من رجال أبي الهاجر المقربين، و من فرسانه المقاتلين، ثم عاد أبو المهاجر إلى القيروان ليراقب عن كثب تحركات الروم البيزنطيين بعد أن اطمأنَّ لأوضاع البربر في المغرب الأوسط.

و لكن في سنة (62هـ) توفي والي مصر مسلمة بن مخلد الذي كان له الفضل في تعيين أبي المهاجر دينار على رأس ولاية إفريقية بدلاً من عقبة بن نافع، و كان هذا الأخير قد كره عزله من منصبه و ترقَّب الرجوع إليه لإكمال مسيرته الجهادية في بلاد المغرب، و ذلك ما حدث بالفعل عقب وفاة مسلمة بن مخلد حيث أمر الخليفة يزيد بن معاوية بعزل أبي المهاجر و تولية عقبة مكانه مرةً أخرى في ذات السنة، فسار عقبة إلى القيروان و أوثق أبا المهاجر في الحديد و حبسه عنده إثر جفوةٍ شديدةٍ بين الطرفين منذ أيام عزله من طرف مسلمة بن مخلد سنة (55هـ)، و شرع بعدها عقبة بن نافع في جهاد الروم و مَن بقي على كفره من البربر حتى وصل إلى أطراف المغرب الأقصى حيث لم يجد أمامه إلا المحيط الأطلسي، و هو الذي أشار إليه في دعائه المشهور: ((اللهَّ اشهد أنِّي قد بلغتُ المجْهُودَ، و لَوْلَا هَذَا البَحْرُ لمضَيْتُ في البِلَادِ أقتلُ مَنْ كَفَرَ بِاللهِ حَتَّى لَا يُعبَدَ أَحَدٌ مِنْ دُونِكَ!))، ثم عاد أدراجه إلى القيروان و قد نفرت من طريقه قبائل البربر و حاميات الروم البيزنطيين خوفاً و رهبةً.

على أنَّ موقفاً حصل لعقبة أثناء عبوره في داخل المغرب الأوسط، و هو لقاؤه بالقائد البربري كسيلة الذي أسلم كما أسلفنا القول على يد أبي المهاجر، و كان هذا الأخير متواجداً في صفوف جيش عقبة، فنصحه طويلاً بحسن معاملة كسيلة و اللين معه و تجنب تجريحه و إهانته، و لكن عقبة لم يأخذ بنصيحة أبي المهاجر، و أحضر غنماً أمرَ كسيلة بذبحها و سلخها، فردَّ كسيلة قائلا: ((هَؤُلاءِ فِتْيَانِي وَ غِلْمَانِي يَكْفُونَنِي المؤُونَةَ))، فرفض عقبةُ قولَهُ و ألزمه فعل ما أمره به بيَدَيْهِ، ففعل كسيلة عن كرهٍ، و لكنه قد أضمر الشرَّ و الغدرَ في قلبه تجاه عقبة، و وسوس له الشيطان أن يفكر في الكيد له و أن يوقع به حينما تحين له الفرصة لذلك، و ذاك هو السبب الذي تفرَّسه أبو المهاجر و جعله يشدِّد على عقبة النصيحة بحسن معاملة كسيلة لئلا يوقع الشيطان في قلبه العداوة تجاهه فيحصل ما لا يُحمد عقباه.

و بالفعل.. ففي طريق عودة عقبة بن نافع إلى القيروان و بعد إذ لم يبقَ أمامه للوصول إليها سوى مسيرة ثمانية أيامٍ بثَّ رحمه الله أفواجاً من جيشه يميناَ و شِمالاً ظناًّ منه أنه بمأمنٍ و أن لا أحد يخشى صدَّه له أو مهاجمته، فبقي في عددٍ قليلٌ من أصحابه لا يزيدون عن (300) رجل منهم صحابةٌ و تابعيونَ، و هنا راسل من رآهُ من الروم البيزنطيين كسيلةَ و جشَّعوه على مهاجمته، فالتمس كسيلةُ في ذلك غايَتَه للانتقام من عقبة و الغدر به، و اجتمع له من البربر و الروم البيزنطيين المتحالفين معه عددٌ عظيمٌ يربوا عن (000،50) توجه بهم صوب موقع تواجد عقبة و أصحابه، فأحاط بهم كسيلةُ إحاطة السوار بالمعصم، و ضيَّق عليهم الخناق تضييقاً، و لما رأى أبو المهاجر ذلك المشهد و هو لا يزال في وثاقه تمثَّل بقول الشاعر المشهور أبي محجن الثقفي:

كفَا حزناً أن ترتدي الخيلُ بالقنا *** و اُتركَ مشدوداً عليَّ وثاقيا

إذ قمتُ عنَّاني الحديدُ و أُغلت *** مصارع من دوني تضمُّ المناديا

فلما سمع منه عقبة ذلك أمره بالمغادرة و اللحاق بالمسلمين ليغتنم الشهادةَ وحدَه، فرفض أبو المهاجر ذلك و أبى إلا أن يغتنم معه الشهادة في موقفٍ رائعٍ يستحق التأمل، و ما هي إلا دقائق حتى سقط المجاهدون الـ (300) جميعُهم شهداءً بمن فيهم عقبة و أبي المهاجر رغم توفر إمكانية الفرار و النجاة قبل اللقاء، و أسِر من الصحابة يومئذٍ محمد بن أوس الأنصاري و يزيد بن خلف العبسي و نفرٌ معهما، ففداهم ابن مصاد صاحب قفصة و بعث بهم إلى القبروان.. و قد سُميت تلك المعركة غير المتكافأة بـ(معركة تهوذة).

و أما جيش كسيلة فقد زحف نحو القيروان و استولى عليها بعد أن زادت جموعه من البربر ازدياداً كبيراً، و طلب أهلُها منه الأمان فأمَّنهم على أرواحهم و أموالهم و ذراريهم و أهليهم، و في القيروان التي بقيت في يده أكثر من أربع سنواتٍ رأى كسيلة عدداً عظيماً من المسلمين عرباً و بربراً أرهبه شأنُهُم و أخافَه، و تزامن ذلك مع عزم الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان على إنفاذ جيشٍ كبيرٍ بقيادة زهير بن قيس البلوي ليستردَّ ما وقع في يد كسيلة، فخاف هذا الأخير إن هو واجه ذلك الجيش في القيروان أن ينضم أهلها المسلمون إلى جيش زهير فيكون جيش كسيلة في موقف حرجٍ و خطير، فغادر سريعا نحو منطقة ممس الواقعة بالغرب من القيروان، و لحق به إليها زهير بن قيس و نازله هنالك نزالاً عنيفاً انتهى بانتصار المسلمين على التحالف البيزنطي البربري و سقوط كسيلة قتيلاً، و لاحق المسلمون الرومَ البيزنطيين و البربرَ بعدها حتى بلغوا المغرب الأقصى، و قد كانت معركة ممس تلك حاسمةً حيث انكسرت شوكة الروم البيزنطيين على إثرها، و ضَعُف أمرُ البربر جداًّ و لله الحمد و المنَّة، و كان ذلك سنة (69هـ).

و أما السؤال الذي يجول الآن بخاطر كثيرٍ من القرَّاء الكرام: هل مات كسيلة على إسلامه؟! أم أنَّه ارتدَّ عنه بعد إهانة عقبة له فمات وهو مرتدٌّ؟!

فالحقيقة أنَّه لا يمكن لأحدٍ الجزم بالجواب عن ذلك؛ و هذا راجعٌ إلى شحِّ و ندرة المصادر و الوثائق التاريخية القديمة التي تناولت حقبة الفتح الإسلام لبلاد المغرب بدءً من عهد غثمان بن عفان و انتهاءً بعهد سليمان بن عبد الملك، و ما وصل إلينا من تلك المصادر لا نجد فيه إجابةً صريحةً فاصلةً عن تساؤلنا الفارط..

و لكل ذلك.. فإنَّنا ننظر لكسيلة على أنه رجلٌ عادى في بداية أمره الفاتحين المسلمين و قاتلهم بتحريض من الدولة البيزنطية التي لم يبق لها من الأراضي خارج مركزها سوى بلاد المغرب، ثم أسلم كسيلة على يد الفاتح أبي المهاجر دينار و حَسُن إسلامه، و جاهد في صفوف الجيوش الإسلامية و ساهم في بعض الفتوحات على حساب الروم البيزنطيين، و لكن إساءة عقبة بن نافع لمعاملة كسيلة دفعت هذا الأخير للتربص به و بمن معه من المجاهدين الذين كان يُجاهد معهم صفا واحدا قبل ذلك، و كان تحالفه مجددا مع الروم البيزنطيين ضد أولئك المجاهدين انتكاسةً عظيمةً منه لم يكن من المتوقع أن تحصل ممن نظر إلى عموم أخلاق الفاتحين و ما يحملونه من رسالة الإسلام، و من ثم فإنَّ معاملة عقبة له لا تعدوا أن تكون معاملةً منفصلة شاذة، و لم يكن ذلك بأيِّ حالٍ من الأحوال سببا كافيا ليدفع كسيلة إلى الغدر بالمجاهدين بعد التحالف مع الروم البيزنطيين الذين اجتهدوا في استغلال ورقة كسيلة حفاظا على وجودهم و مصالحهم في بلاد المغرب بعد قدوم الفاتحين المسلمين إليها!

المراجع

– تاريخ ابن خلدون.

– الكامل في التاريخ لابن الأثير

– معاوية بن أبي سفيان شخصيته وعصره لعلي الصلابي.

– موقع ويكيبيديا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى