مختارات

سيرة مجاهد

جمال سلطان

كاتب وصحفي مصري
عرض مقالات الكاتب

هناك شخصيات معاصرة من الصعب أن تغيب عن خاطر المسلم بسهولة ، ويظل يستحضر عطر ذكراها كلما حزبتنا الأهوال والأحداث والتحديات ، من هؤلاء المفكر الإسلامي والمجاهد “علي عزت بيجوفيتش” الرئيس الأسبق لجمهورية البوسنة والهرسك ، التي أنشأها على عينه مع زمرة من المجاهدين ، بعد أن كان حلما ظل يداعب خيالهم طوال ثلاثة أرباع القرن تقريبا ، تخللتها رحلة من المعاناة والصبر والتضحيات والمخاطر الجسام في سجون الشيوعيين ، وأخطر من السجون والتعذيب معاناة الأفق المسدود أمامهم ، والمستقبل المحبط ، في ظل نظام شيوعي قوي يرأسه “تيتو” ودولة بوليسية قمعية مخيفة ، وتوازن دولي حاكم بقوة لاستقرار هذه النظم ، وأيضا في ظل تجاهل وجهل العالم الإسلامي بمعاناة شعب البوسنة والهرسك ، ولقد مضى على أمتنا سنوات كنا لا نعرف فيها شيئا عن دول إسلامية كبيرة مثل أفغانستان أو شعوبا مظلومة مثل التركستان فكيف بالأقليات المسلمة في أوربا ، بل على العكس كان طاغية يوغوسلافيا الأسبق “جوزيف بروس تيتو” يقيم أوثق علاقاته مع نظم سياسية تحكم بلدان العالم الإسلامي ، كما حدث في علاقاته الوثيقة مع النظام الناصري ، هذا الأفق المسدود هو الأكثر قسوة في نفوس المجاهدين العظام الذين يعاندون الواقع ويتحدون مسار التاريخ لكي يحقوا الحق وسط ظلمة الباطل وجبروته ، صمد علي عزت بيجوفيتش طوال رحلة جهاده من أجل الإسلام ، منذ كان شابا يافعا في الحادية والعشرين من عمره (عام 1946) عندما دخل معتقلات الشيوعية بتهمة الأصولية لانتمائه إلى حركة إسلامية تنادي بإحياء هوية البوسنويين المسلمة وحكم عليه بالسجن خمس سنوات ، ثم في العام 1983 عندما دخل السجن مع مجموعة من رفاقه بنفس التهمة وحكم عليه بالسجن أربعة عشر عاما خففت بعد ذلك ، واللافت للنظر أن الرجل كان يخرج بعد كل محنة لا لكي يخلد إلى الراحة أو الركون إلى التأملات الفلسفية المحضة ، وكان فيلسوفا ومثقفا رفيعا بالفعل ، وإنما كان يخرج بعد كل مرة مباشرة لكي يؤسس فكرة جديدة أو حركة جديدة تواصل رحلة جهاده من أجل مشروع حياته ، وهو إعادة بلاده إلى هويتها المسلمة ، ففي المرة الأولى كان انتماؤه إلى حركة “الشبان المسلمين” ثم خرج من السجن لكي يفعل نشاط حركة أخرى ذات طابع سري ، ثم في العام 1989 ، خرج من السجن لكي يؤسس مباشرة “حزب العمل الديمقراطي” وهو أول حزب إسلامي على الإطلاق تعرفه القارة الأوربية ، وهو الحزب الذي حقق إرادة الشعب البوسني المسلم بعد ذلك بعام واحد بإعلان استقلاله وأصبح علي عزت بيجوفيتش أول رئيس للبوسنة المسلمة ، ورغم أنه لم يهنأ بثمرة جهاد عمره ، إذ وقع الهجوم الصربي الوحشي الشهير على البوسنة ، وكانت المذابح والتواطؤ الدولي من أجل إبادة المشروع الإسلامي الوليد وجعله عبرة لمن يفكر أدنى تفكير في إعادة التجربة في أوربا ، إلا أن “المجاهد” نزل إلى الشوارع والميادين يحشد القوى ويشد على الأيادي في أحلك سنوات الأمة ، ومد يده إلى كل القوى النبيلة التي تناصر الحق والعدل ، سواء كانوا من الشرق أو من الغرب ذاته ، حتى انتصرت إرادة الخير التي فجرها ورعاها بثباته وصبره وإصراره على المقاومة النبيلة ، “علي عزت” حالة نادرة تستحق الدراسة من المهتمين بالعمل الإسلامي ، فهذا الذي كسر القوالب المجتمعية التي نشأ فيها ، حتى في اختياره للدراسة : القانون والاقتصاد ،إنما اختارهما كدعامات لخدمة مشروعه الطموح لتحرير بلاده وإعادتها إلى هويتها المسلمة ، كما أن مرارات السجون والتحديات لم تفقده توازنه الفكري والنفسي فخرجت كتاباته ومذكراته حتى التي كتبها في السجن مفعمة بالثقة بالنفس والحوار المخلص والنبيل مع الآخرين ، وميزان دقيق للتفريق بين صرامة الثبات على الحق والرعونة في خيارات النضال ، يرحمه الله .

المصدر صفحة الكاتب على فيس بوك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى