ثقافة وأدب

«طَرْدِيّة» أحمد عبد المعطى حجازي: شعر أم هذيان لغوي؟

أ.د. إبراهيم عوض

كاتب ومفكر مصري.
عرض مقالات الكاتب


المصادفة وحدها هى التى جعلتنى أكتب هذا المقال، إذ كنت أتحدث منذ عدة ليالٍ مع أحد معارفى ممن يمسكون بالقلم ويكتبون، وكان معجبا بقصيدة أحمد عبد المعطى حجازى: “طَرْدِيّة” ويُثْنِى عليها ثناء كبيرا كأنها فتح الفتوح تعالى أن يحيط به نَظْمُ من الشِّعْرِ أو نَثْرٌ من الخُطَبِ، فقلت له إن القصيدة رديئة لا معنى لها، فهى أشبه بالأحاجى، ويصعب علىَّ أن أتذوقها، وليس فيها فن. وأنت تعرف أننى فى مثل تلك الحالة لا أوارى ولا أدارى، بل أقول رأيى واضحا صريحا لا جَمْحَمَة فيه، وبخاصة أننى أدرك إلى أى مدى قد أفسد الذوقَ الأدبىَّ كثيرٌ ممن يظنون أنفسهم نقادا هذه الأيام. ولكن علىَّ أن أضع القصيدة أولا بين يَدَىِ القراء قبل أن أكرّ عليها بما يجلِّى رأيى فيها:

هو الربيع كان

واليوم أحدْ

وليس فى المدينة التى خلت

وفاح عطرها سواى

قلت: أصطاد القطا

كان القطا يتبعنى من بلد إلى بلدْ

يحطّ فى حُلْمى ويشدو

فإذا قمتُ شردْ

حملتُ قوسى

وتوغلت بعيدا فى النهار المبتعدْ

أبحث عن طير القطا

حتى تشممت احتراق الوقت فى العشب،

ولاح لى بريق يرتعدْ

كان القطا

يدخل كاللؤلؤ فى السماء،

ثم ينعقدْ

مقتربا،

مسترجعا صورته من البَدَدْ

مُسَّاقطا

كأنما على يدى

مرفرفا على مسارب المياه كالزَّبَدْ

صوبتُ نحوه نهارى كله،

ولم أَصِدْ

عدوْتُ بين الماء والغيمة،

بين الحلم واليقظة،

مسلوب الرَّشَدْ

ومذ خرجت من بلادى لم أَعُدْ

وأول ما ألفت النظر إليه هو الغموض بل الاستغلاق الذى يسربل القصيدة فلا يعطيك فرصة للفهم، ومن ثم لا يمكنك تذوقها، علاوة على خلوها من الفن. ولسوف آتى إلى ذلك بعد قليل. لكنْ أبدأ بالعنوان الذى اتخذه حجازى لقصيدته هذه التى تدور حول محاولة صاحبها صيد القطا، وهو نوع برىّ من الحمام يعيش فى الصحراء، وهذا العنوان هو كلمة “طَرْديّة”. و”الطردية” أرجوزة يخصصها الشاعر لوصف مطاردته للثعالب أو الظباء أو الأرانب البرية أو الطيور وما أشبه. وفى هذه المطاردة يحاول الصياد الإيقاع بالحيوان أو الطائر المذكور، فإذا ما حاول أن يفلت منه بالجرى أو بالطيران أرسل عليه كلبا أو بازِيًا ينقضّ عليه ويمسكه، وهو أمر ممكن لأن كلا من المطارِد والمطارَد يستعمل ذات الوسيلة فى الحركة: الأرجل إن تمت المطاردة فى حالة الحيوان عن طريق الكلاب مثلا، أو الجناح إن تمت المطاردة عن طريق البازى فى حالة الطائر. أما صيد الطير هنا فلا يسمى: “طردية” لأنه متى أحس بالخطر هرب محلقا بعيدا فى السماء مستخدما وسيلة ليست متاحة للشاعر، وهى الجناح، إذ ليس معه بازٍ يمكن أن يرسله وراء الطائر، ومن ثم لا يستطيع مطاردته بل يتركه يمضى وهو يعض بنان الغيظ. فكيف إذن يسمى شاعرنا قصيدته فى صيد القطا: “طرديّة”، وليس فيها مطاردة؟

كذلك ففى الطردية ينتهز الشاعر الفرصة للتفنن فى وصف كلبه أو فهده أو بازِيه أو باشقه أو شاهينه أو صقره الذى يستخدمه فى المطاردة فيتناول، مبهورا مفتونا، أعضاءه ورشاقته وحركاته وانقضاضه على الفريسة وعراكه معها فى شِعْرٍ بديع يصور لنا طبيعة الحياة وكيف أنها قائمة، فى جانب منها فى أقل تقدير، على الصراع الذى لا يعرف الرحمة، أو القسوة التى لا تترك للتفاهم موضعا. أما هنا فلا شىء من ذلك، بل لا شىء من غير ذلك، إذ الشاعر، كما قلنا، يكتب شعرا مستغلقا غير قابل للفهم ولا للتذوق.

ثم نمضى مع حجازى فنجد أنه يستهلك بعض السطور فى إخبارنا بأن الدنيا ربيع، والجوّ بديع، وأن المدينة قد خلت من سكانها جميعا لأن اليوم كان هو الأحد، وأن عطرها قد فاح، ثم يقول فجأة إنه قرر أن يقوم بصيد القطا. وعبثا نحاول أن نعرف الداعى لتلك السطور التى حدد فيها الفصل واليوم وخلوّ المدينة من السكان، أو العلاقة بين هذا كله وبين قراره اصطياد القطا. إن العقاد مثلا فى قصيدته الرائعة: “سِلَع الدكاكين فى يوم البطالة” قد حدد اليوم بأنه يوم بطالة، وذكر أن الناس جميعا قد تركوا المدينة ومَضَوْا فى الخلوات. وهو قد فعل ذلك توطئةً للحديث عن السلع التى وجدت نفسها مسجونة فوق الرفوف قد حُرِمَتْ من الحرية، ولم يذكره اعتباطا كما فعل الأستاذ أحمد عبد المعطى حجازى. وأنا أعتقد أن شاعرنا قد أخذ هذا من العقاد، فالشَّبَه واضح، وهو معجب بشعر العقاد، وحَقَّ له، إذ العقاد شاعر كبير رغم تنطع بعض اليساريين إزاءه للهجوم الصاعق الذى كان يشنه رحمه الله على الفكر الماركسى المتهافت. إلا أن حجازى لم يستفد من هذا الذى أخذه من العقاد. فشاعرنا الكبير، أى العقاد طبعا، قال ما قاله كى يَخْلُص إلى أن الدكاكين قد أُغْلِقَتْ على البضائع فوق رفوفها فشعرت جرّاء هذا بالقيود فثارت وهاجت وماجت وصاحت مطالبة بالحرية، تلك الحرية التى تعرف هى قبل غيرها أنها مفضية بها إلى التهلكة، إذ الحرية هنا معناها أن يشتريها المشترون ويعتقوها من ذلك السجن، ومعروف أن المشترين سوف يستهلكونها فلا يعود لها من ثم وجود. إلا أنها راضية تمام الرضى بهذا المصير ما دامت ستحصل على حريتها، التى تؤثرها على البقاء رهينة الحبس فوق الرفوف رغم أن بقاءها هناك يوفّر عليها حياتها. وهو ينطلق من هذا إلى أن الحرية لدى الإنسان قيمة عظيمة لا تَعْدِلها قيمة حتى لو كان فى تلك الحرية حتفه. وهذا واضح من موقف الجنين، الذى لو أَخَذْتَ تحدثه من هنا إلى ما شاء الله عن الأذى الذى سوف يلحقه من الدنيا وآفاتها إن هو خرج إلى الوجود وانعتق من قيود الرَّحِم وتحاول أن تغريه بالبقاء حيث هو فى الدفء والأمان لم يصغ إليك بل ضرب عُرْض الحائط بما تقول. هذا ما قاله العقاد، ومن الواضح أن ذكره لخلوّ المدينة من سكانها هو فى موضعه الركين، أما عند حجازى فلا معنى له. كذلك فقد استوحى حجازى، فيما يغلب على ظنى، موضوع طيف الخيال فى الشعر العربى القديم حين تكلم عن القطا الذى يطارده فى المنام، فإذا ما قام من نومه شَرَد.

ولكن لماذا حدد الشاعر الوقت بأنه الربيع بالذات؟ ولماذا حدد اليوم بأنه يوم الأحد؟ أَوَلاَ يستطيع الإنسان الصيد، أو صيد القطا على الأقل، إلا يوم الأحد، وفى فصل الربيع؟ كذلك هل تصاد القطاة بقوس وسهام، وهى الطائر الصغير الضعيف؟ لقد كان العربى يستخدم السهام فى صيد البقرة والحمار الوحشيين مثلا، أما القطاة فلا أدرى كيف يفكر أحد فى اصطيادها بهذه الوسيلة. ولقد كان العرب يصطادون الطيور التى تشبه القطا على النحو التالى كما جاء فى كتاب “عيون الأخبار” لابن قتيبة” فى “باب مصايد الطير”: “من أراد أن يحتال للطير والدجاج حتى يتحيرن ويُغْشَى عليهن حتى يصيدهن عَمَدَ إلى الحِلْتِيت فدافَه بالماء ثم جعل في ذلك الماء شيئا من عسل ثم نقع فيه بُرًّا يوما وليلة ثم ألقى ذلك البُرّ للطير، فإنها إذا التقطته تحيرت وغُشِيَ عليها فلم تقدر على الطيران إلا أن تُسْقَى لبنا خالطه سمن. وإنْ عُمِدَ إلى طحينِ بُرٍّ غير منخول فعُجِن بخمر ثم طُرِح للطير والـحَجَل فأكلن منه تحيَّرْن. وإن جُعِل خمر في إناء وجُعِل فيه نبيذ فشربن منه غُشِيَ عليهن. ومما يُصَاد به الكراكي وغيرها من الطير أن يوضع لهن في مواقعهن إناء فيه خمر، وقد جُعِل فيه خربق أسود، والنقع فيه شعير. فإذا أكلن منه أخذهن الصائد كيف شاء. ومما تصاد به العصافير بأسهل حيلة أن تؤخذ شبكة في صورة المحبرة اليهودية المنكوسة ويجعل في جوفها عصفور فتنقض عليه العصافير ويدخلن عليه. وما دخل منهم لم يقدر على الخروج، فيصيد الرجل في اليوم الواحد مائتين، وهو وادع. ويصاد طير الماء بالقَرْعة، وذلك أن تؤخذ قرعة يابسة صحيحة فيُرْمَى بها في الماء، فإنها تتحرك، فإذا أبصرها الطير تتحرك فزع، فإذا كثر ذلك عليه أَنِسَ حتى لربما سقط عليها، ثم تؤخذ قرعة فيُقْطَع رأسها ويُخْرَق فيها موضع عينين، ثم يدخل الصائد رأسه فيها ويدخل الماء فيمشي إليها مشيا رويدا. فكلما دنا من طائر أدخل يده في الماء فقبض على رجليه ثم غمسه في الماء ثم دق جناحه وخلاه فبقي طافيا فوق الماء يسبح برجله ولا يطيق الطيران، وسائر الطير لا يمكن انغماسه. فإذا فرغ من صيد ما يريد رمى بالقَرْعة، ثم يلتقطها ويحملها”. كما كانوا يصطادون القطا بالشاهين (أو السوذانق) كما فى الأبيات التالية من حائيّة الملك العمانى سليمان بن سليمان النبهانى من أهل القرن التاسع والعاشر الهجريين:

ولقد غَدوتُ مُسوِّمًا شوذانقًا بجبال آيهة به ومَراحا

شهما أحَدَّ القلبِ أشهبَ ضاريًا غَرثان يَنتشط الكُلَى جَرّاحا

يعد المطارحَ أحْجُنًا عِرْنِينُه سَلِب المناسر يقبض الأرواحا

يرمي الفِجاجَ بمقلتيْ متفَقِّدٍ ساطٍ أضاعَ فلم يزل مُلتاحا

قد حُرِّمَ اللبنَ الحليبَ، وقد غَدَا أبدا عليه دَمُ القَنِيصِ مُبَاحا

فترى الغَطَاطَ لدى الغُطَاطِ مخافةً ينجونَ منه، ولم يجدنَ بَرَاحا

عِفْنَ الوُكُور لكي تنالَ بسُدْفةٍ رزقًا فأصبح رزقُهنّ ذباحا

فأصابَ ثَمَّ ثمانيًا وثمانيًا وثمانيًا أُثْخِنّ منه جِراحا

فمُوشَّقٌ من صيدِه ومُضَهَّبٌ ومقدَّرٌ نشلُ العَبيطِ شياحا

ومضى كأشهمِ ما يكونُ مظفَّرًا ندِسًا يَروقُك نخوةً وِطمَاحا

كذلك كانوا يصطادونه بالشبكة كما فى قول الكميت بن زيد الأسدى:

قَبَضْنَ بِنا قَبْضَ القَطا نُُصِبَت لَهُ شِباكٌ فَنَجّى بَينَ مُقْصٍ وَقاطِعِ

وقول قيس بن ذَرِيح مجنون بنى عامر:

كأن القلب ليلةَ قِيلَ: يُغْدَى بليلى العامرية أو يراحُ

قطاةٌ عَزَّها شَرَكٌ فباتت تجاذبه وقد عَلِقَ الجناحُ

ولقد أذكرنى كلام حجازى بما قاله أحد الطلاب الصغار ونحن فى السنة الأولى الثانوية، وكنا ندرس قصيدة النابغة البائية التى يتحدث فيها عن اتباع عصائب الطير لجيش الملك اللخمى أينما ذهب ثقة منها بأنها واجدة طعامها من جثث الأعداء الذين يجندلهم ذلك الجيش، إذ ظن الطالب الريفى الصغير الذى لم ير فى حياته جثة آدمى مطروحة فى العراء تنتاشها مناقير الطيور أن تلك الطيور هى العصافير، فهو لم ير فى حياته نسرا أو عُقَابا أو غير ذلك من الطيور الجارحة، فسخر منه أستاذ اللغة العربية سخرية شديدة، غير واضع فى حسبانه أن الطالب المسكين معذور فى جهله هذا. فماذا كان يكون تعليقه على قوس وسهم الأستاذ حجازى، الذى طوف فى الآفاق ما طوّف وتجاوز السبعين وتنوّر فى عاصمة النور، وأصبح بذلك واحدا من زعماء التنوير فى بلاد العرب والمسلمين أجمعين؟

ثم ماذا يقصد شاعرنا بــ”احتراق الوقت فى العشب”؟ هَبْه يقصد أن الوقت قد مضى ولم يعد هناك نهار، فهل احتراق الوقت هو الصورة الموحية بهذا؟ ولو سلمنا بالاحتراق، فلماذا العشب بالذات؟ ترى ما دلالته؟ أهو رَصُّ كلام، والسلام؟ أين الحساسية الشعرية؟ إن الحساسية الشعرية شىء، والهذيان اللغوى والتصويرى شىء آخر. وليس الشاعر مجرد مالئِ فراغاتٍ على الورق، بل هو مبدعٌ خالق. فأين الإبداع والخلق هنا؟ ثم ما علاقة البرق المرتعد، ولا أدرى لماذا يرتعد، بالقطا عند ظهوره فى اللوحة؟ وكيف ينحلّ القطا لؤلؤا ثم ينعقد بعد ذلك؟ أترى الشاعر يريد أن يقول إن القطا كان فى بدء ظهوره متفرقا، كل قطاة تطير متباعدة عن الأخرى، ثم تَقَارَبَ وأصبح سربا، فكأنه حبات اللؤلؤ كانت متناثرة ثم نُظِمَتْ فى سلك فأصبحت عِقْدًا؟ لكن هل ما قاله حجازى هو السبيل إلى التعبير عن هذا المعنى؟ وهل هذه صورة موحية؟ إن هذا تشبيهٌ شكلىٌّ محض ليس فيه شىء آخر، ومن ثم يمكن أن يقوم مقامه أى تشبيه آخر ما دامت المسألة تشبيه شكل بشكل ليس إلا.

ومثل تلك الصورة عبثيةً وخلوًّا من الإيحاء بل خلوًّا من المعنى ذاته قوله إن القطا كان يرفرف على مسارب المياه كالزَّبَد. هل القطا أبيض اللون كالزبد؟ وهذا، بالمناسبة، هو السبب فى أنه قد شبَّه القطا من قبل باللؤلؤ. إنه بياض اللون. والقطا ليس أبيض اللون، بل هو، كما ذكر ابن قتيبة فى كتاب “المعانى الكبير فى أبيات المعانى”، ضربان: الكُدْرِىّ والغَطَاط. فالكدرى ما يكون أكدر الظهر، أسود باطن الجناح، أصفر الحلق، قصير الرجلين، في ذَنَبه ريشتان أطول من سائر الذَّنَب، والغَطَاط ما اسودّ باطن أجنحته، وطالت أرجله، واغبرَّت ظهوره غبرة ليست بالشديدة، وعظمت عيونه. واضح أن الشاعر لا يعرف شيئا عن محور قصيدته، وهو القطا، الذى سوف نرى بعد قليل أنه لا يمكن الإمساك بدلالته فى القصيدة ولا بالسبب الذى حدا بالشاعر إلى اختياره دون غيره من الطيور لنظم قصيدته فيه. وواضح أيضا أن الشاعر قد اختلط الأمر عليه فجاء كلامه لا عن القطا، بل عن النوارس، فالنوارس لا القطا هى الطيور البِيض، وكله عنده صابون. وعلى أية حال فالقطا طائر صحراوى لا علاقة له بالبحار ورغوتها. كما أن المسارب المائية لا يمكن أن تكون لها تلك الرغوة، إذ لا أمواج لها يمكن أن تثور وترغى.

ولا يقولن قائل إن الشاعر إنما ينظم شعرا ولا يكتب دراسة علمية حتى تأخذ عليه أنه يجهل كل ما يتعلق بالقطا. نعم لا ينبغى أن يقول قائلٌ هذا الكلام لأن جهل الشاعر المطلق بموضوعه قد أفسد كل شىء، ولم يعد فى القصيدة شىء مستقيم، وبخاصة أن القطا هو محور القصيدة. فإذا كان كل ما يذكره الشاعر عن القطا خطأ فى خطإ فى خطإ، فما الذى تصلح له القصيدة إذن؟

ولقد تذكرت ما اعترض به إبراهيم اليازجى على عنترة حين وصف الذباب وهو يغنى فى حديقةٍ غِبَّ المطر، إذ توهم أن غناء الذباب يصدر عن فمه، على حين أن الصوت الذى يصدر عنه إنما مبعثه اهتزاز أجنحته فى الهواء، وهو ما يستلزم أن يكون الذباب فى حالة طيران فى الجو لا واقفا على أغصان الشجر مثلا فيستطيع حَكَّ ذراعه بذراعه لأن الذباب لا يستطيع ذلك الحكّ أثناء الطيران. وهذا الانتقاد منقول عن كتاب المرحوم أحمد تيمور باشا من كتابه: “أوهام شعراء العرب فى المعانى”. وقد انبريت للرد على اليازجى بالقول بأنه حتى لو صح ما يقول فإن الصورة التى افترعها عنترة هى من الروعة والفتنة والسحر بحيث تغطى على ما سقط فيه من خطإ، إذا كان هذا خطأ، إذ اليازجى إنما يحاول فى بيت عنترة تفصيص الشعرة كما يقولون. والصورة المشار إليها هى صورة الأجذم الذى انكبّ على الزناد يحكّه كى يقتدح منه الشرر، تلك الصورة التى بلغت من روعتها أن أنطقتْ ناقدا فحلا عملاقا كالجاحظ (فى كتاب “الحيوان”) فهتف معجبا بها أيما إعجاب، وهو ما صنعه غيره من النقاد أمامها، وآخرهم فيما أعرف هو د. نجيب البهبيتى حسبما ذكرتُ فى كتابى: “عنترة بن شداد- قضايا إنسانية وفنية”، فضلا عنى أنا، إن كان لى أن أَعُدّ نفسى ناقدا يتذوق ويفهم، أو بالأحرى: يفهم ويتذوق، ما دام التذوق مترتبا على الفهم لا العكس، وإن كانت الواو لا تفيد ترتيبا. أما الأستاذ حجازى فلم يأت فى قصيدته بشىء: فلا هو قدم لنا لوحة كاملة، ولا هو أمدنا بصور جزئية فاتنة، ولا هو أعطانا معنى مفهوما، ولا هو أحسن تناوُلَ ما تناوله، بل جاء كل ما لمسته يداه فاسدا مضطربا غامضا بل مستغلقا، فكان الفرق بينه وبين عنترة كفرق السماء من الأرض. وهذا لو كانت ملاحظة اليازجى سليمة. وهذه عبارة البهبيتى، وهى متاحة لمن يطلبها فى كتابه: “تاريخ الشعر العربى حتى آخر القرن الثالث الهجرى”، الذى وصف فيه ما صنعه عنترة بأنه “صورة رائعة يلتزم فيها الشاعر الحقيقة لا يعدوها، ولكنه فى هذا الالتزام يخرجها إخراجا يجعلها من أصفى أنواع الشعر ومن أسمى ما تطمح إليه شاعرية شاعر. صوّر خلوّ الذباب بالروضة، وأسمعنا طنينه فيها، وأبى إلا أن يُفِيض عليه من جمال نفسه هو فجعله غناءً. ولم يجعله أى غناء، بل غناءَ سكرانَ يترنح. ثم صوّر حركته تصويرا لا يخرج عن الطبيعة أقل خروج، وهى حركة يعرفها من تابع الهوامّ فى حركاتها حول المياه فى الرياض، فخرج الوصف أمينا واقعيا يتصل بالحقيقة. ثم إن هذه الصورة فى الواقع تعبير جليل عن ذلك القدر من الانفعال والطرب يأخذ بنفس من خلا فى مثل هذه الروضة، وبقلبه من الشاعرية الفياضة بعض ما أودعه الله قلب عنترة”. والحق إن فى عبارة الدكتور البهبيتى لنفحات من الشعر. وحق لمن يفتتن بتلك الصورة البديعة الشادهة ويكتب عنها بهذه الطريقة أن تهب على حديثه من شعر الشاعرين مثل تلك النفحات.

أما قول الأستاذ حجازى إن القطا، حين كان يهوى من السماء، كان يسترجع صورته من البَدَد فلا أحقق له معنى، مثلما لا أحقق معنى لقوله إنه عند صعوده من الماء كان يصعد بلا جسد، ومثلما لا أحقق معنى لقوله إنه هو، أى الشاعر، كان يعدو بين الماء والغيمة أو بين الحلم واليقظة. إن هذا كله، كما قلت، هذيانٌ لغوىٌّ لا أكثر. والشاعر الحق حين ينظم شعره إنما يكون فى حالة صحو برغم النشوة الهائلة التى تلفّه وتستولى عليه أثناء ذلك. وواضح أيضا أن الماء والغيمة يقابلان الحلم واليقظة، ولكن كيف يكون هذا التقابل؟ الله وحده هو الذى يعلم. لقد قال لى الصديق المذكور إن هذا العَدْو دليل على الحيرة بين الحسى والمعنوى، أو بين المثالى والواقعى. فأين الحسى هنا، وأين المعنوى؟ وأين المثالى هنا، وأين الواقعى؟ هل الماء هو الحسى والواقعى؟ أم هل الغيمة؟ وهل الحلم هو المعنوى والمثالى؟ أم هل اليقظة؟ الحق أن هذا إنما هو مجرد رَصّ كلماتٍ بعضها بجوار بعض لا أكثر. ثم يختم حجازى القصيدة بأنه منذ خرج من بلاده لم يعد، وأنه قد سُلِب الرشد. ترى لم سُلِب الرشد؟ ولماذا لم يعد إلى بلاده منذ خرج منها؟ وأين ذِكْرُ بلاده وخروجه منها قبل ذلك؟ لا يَقُلْ أحد إنه كان قد خرج من المدينة، فالمدينة لا يمكن أن تكون هى بلاده، بل مجرد جزء منها لا غير، وإلا ما قال إن الناس قد تركوا المدينة يوم الأحد وخرجوا كلهم، وبقى هو وحده فيها، فالناس لا يتركون كلهم أوطانهم على هذا النحو.

وقبل ذلك كله إلام يرمز القطا، هذا الذى تكرر ذكره فى القصيدة ما لا أدرى كم من المرات ولم يتكرر غيره فيها مثله، فهو مفتاح القصيدة على رأى النقاد الحداثيين؟ قال صديقى المتحمس للقصيدة تحمسا شديدا إنه ليس أمامنا إلا التخمين. فقلت له: وهل نحن فى أحاجٍ وفوازير؟ ثم قال: إن من الممكن أن نرى فى القطا إشارة إلى ذكريات الشاعر. فأجبته بأن الذكريات تسكننا ولا يفكر أحد أن يبحث عنها خارج ذاته، فضلا عن أن يصطادها. ثم هل يصح أن يقال إن الإنسان يتسلح بقوس وسهام كى يستعيد ذكرياته؟ إن من شأن القوس والسهم أن يهلكا القطا، الذى تقول يا صديقى إنه يرمز إلى الذكريات. فقال: من الممكن القول بأنه يرمز إلى الأمل. فكان ردى: وهل يحتاج الأمل إلى أن تخلو المدينة، أيا كانت دلالة المدينة هنا، من الناس وأن يكون اليوم هو يوم الأحد حتى يبحث الإنسان عن آماله ويعمل على تحقيقها؟ ثم قال: إن من الممكن أن يكون القطا تجسيدا لِلذَّات المغتربة. فقلت له بدورى: واضح أنك قد وضعت نصب عينيك منذ البداية أن يكون للقصيدة معنى، وإلا فكيف يكون القطا رمزا على الذكريات والأمل، وفى نفس الوقت رمزا على الذات المغتربة، وهذان غير تلك؟ وعلى كل حال فالقطا لا ترتبط فى الوجدان ولا التراث العربى بشىء مما تقول مثلما يرتبط الغراب مثلا بالشؤم والبين، أو الحمامة بالدعة والسلام، أو العصفور بالنزق والطيش طبقا لقول الشاعر العربى: “أجسام البغال، وأحلام العصافير”، أو العصفورة (لدى المصريين المعاصرين) بإفشاء الأسرار وتبليغ الأخبار كما فى قول أحدنا لطفله حين يعلم عنه سرا كان يخفيه ويستغرب كيف علمه رغم ذلك: “العصفورة هى التى قالت لى ذلك”، أو كما ترتبط البومة عندنا بالخراب، وعند بعض الأمم الأخرى بالحكمة. كما أن القطا لا يرتبط بالربيع مثلما يرتبط السُّمَانَى بالخريف مثلا على ما هو مذكور فى عنوان رواية نجيب محفوظ المعروفة على سبيل المثال. بل إن القطا لا يشغل موضعا أى موضع فى الذاكرة المصرية كأبى قردان مثلا أو أبى فصادة أو الهدهد أو الحمام أو اليمام أو الكروان أو الحِدَأة أو الغراب. وأنا متأكد أنه لا أحد من قراء القصيدة، إن كان قد قرأها من القراء عدد ذو بال، يعرف القطا، وربما لم يسمع به قط، اللهم إلا إذا كان على علم واسع بالأشعار والأمثال العربية القديمة حيث يجد مثلا تشبيه المرأة الحيية فى تهاديها بالقطاة كقول عمر بن لَجَإٍ:

لياليَ يدعوني الصِّبا فأُجيبُهُ إلى البِيضِ تُكْسَى الحَضْرَمِيَّ المُصلَّبا

نواعمَ يَسبِينَ الغَوِيَّ، وما سَبَى لهنَّ قلوبًا إذْ دنا وتخلَّبَا

وصوَّرَهنَّ اللهُ أحسنَ صورةٍ ولاقَينَ عيشًا بالنعيمِ تَرَبَّبَا

قِصارَ الخطى تمشي الهُوَيْنَا إذا مشتْ دبيبَ القطا بالرملِ يُحْسَبْنَ لُغَّبا

وحيث يعرف للعرب قولهم فى الأمثال: “لو تُرِك القطا ليلا لنام”، أى لا بد أن يكون قد حدث أمرٌ جَلَلٌ، وإلا ما استيقظ القطا من نومه، إذ هو لا يطير ليلا، أو ذلك المثل الآخر: “إنه لأَصْدَقُ من قطاة”، أو المثل الذى يقول: “أَهْدَى من قطاة”، لأنها تعرف طريقها فى الصحراء جيدا، أو قولهم فى مَثَلٍ خامس: “أقصر من إبهام القطاة”، أو قولهم فى سادس: “دَعِ القطا يَنَمْ”، ومعناه كما نقول بالعامية المصرية: ابعد عن الشر وغَنِّ له. والقطا، كما سبق القول، طائر يعيش فى الصحراء لا فى الريف ولا فى المدن، ولهذا وصف بعضهم مفازة فقال: “هى غبراء الجوانب، مجهولة المذاهب. تقطع المطا، ويحار فيها القطا”. وقالت ليلى الأخيلية:

وداويّةٍ قفرٍ تحارُ بها القطا تخطيتها بالناعجاتِ الضوامرِ

ولها أيضا:

وصحراءَ مَوْماةٍ يحارُ بها القطا قطعْتُ على هولِ الجنانِ بمنسرِ

ولعروة بن أُذَيْنة:

هذا، ومهلكةٍ ترقّصُ شمسها كالرجعِ في رَهَجِ الوديقةِ آلها

غبراءُ ديمومٌ يحارُ بها القطا عُصَبًا يفرّقُ بعدهُ أرسالها

كذلك ساق صديقى ما كان قد قرأه لدى واحد من النقاد له كتاب عن الشاعر، وهو أن القطا “نوع من النشاط النفسى يريد الشاعر أن يتحدث إليه”. فضحكت صائحا: الله أكبر! أى تفسير أو تأويل للشعر هذا؟ وما علاقة القطا بالنشاط؟ وأين الدليل على أن هذا هو معناه؟ إن تخميناتك يا صديقى، رغم تعسفها وتخبطها ولامنطقيتها، لأرحم من هذا الكلام الذى لا رأس له ولا ذنب. هذه أول مرة نرى إنسانا يحاول أن يصطاد النشاط. وبأى شىء؟ بالقوس والسهام! والحمد لله أنه لم يقل إنه سوف يصطاده بالمسدس! وهى أول مرة أسمع أن الإنسان يريد أن يتحدث إلى النشاط. ولقد قرأت ما تقوله من كلام ذلك الناقد منذ أيام واستسخفته استسخافا شديدا. وأذكر أنه قد عاد بعد ذلك بأسطر معدودات وأوَّلَ القطا (نعم، القطا ذاته) بأنه “طائفة من الرغبات والمشاعر المكبوتة”. يعنى أن القطا فى خلال ثلاثة أسطر قد تحول بقدرة قادر من “نوع من النشاط النفسى يريد أن يتحدث الشاعر إليه” إلى “طائفة من الرغبات والمشاعر المكبوتة”. كيف؟ الله وحده أعلم. وفيما بين هذا وذاك قال عنه إنه، أى القطا، “سوف يستمر معنا بشكل محير”. يعنى: لا هو نوع من النشاط النفسى ولا طائفة من الرغبات والمشاعر المكبوتة. ولقد مضى الناقد فقال إن رغبة الشاعر فى اصطياد مشاعره يدل على أن تلك المشاعر لم تكن واضحة تماما. ترى هل رأيت، بالله عليك أيها الصديق، أنت أو غيرك من يريد اصطياد مشاعره ورغباته؟ إن المشاعر والرغبات موجودة فى داخلنا وليست خارجة عنا حتى نفكر فى اصطيادها. أما إذا كان لا بد من صيد واصطياد ما دام الشاعر مغرما بهذا كما هو واضح، فإنها هى التى تصطادنا لا العكس، إذ تعمل على أن توقعنا فى حبائلها. أليس كذلك؟ ثم كيف يفكر الإنسان فى اصطياد رغباته ومشاعره وهى غامضة غير واضحة له؟ إذن فماذا يصطاد؟ وعلى أية حال فقد عاد ناقدك اللوذعى فقال إن القطا “نوع من حديث النفس”. يعنى: لا هو طائفة من الرغبات والمشاعر ولا هو نوع من النشاط النفسى. ليس ذلك فقط، فقد عاد الناقد الهمام فقال إن القطا “أشبه باللاشعور السعيد بمعنى ما”. ولاحظ أنه كان قبل قليل طائفة من الرغبات والمشاعر غير الواضحة. ولكنه الآن لم يصر واضحا فحسب، بل أصبح سعيدا. ثم عاد الناقد فى نهاية المطاف فقال إن القطا “يمكن أن يومئ إلى إنسان عربى يشتبه ضعفه وقوته أو يشتبه وهمه وعلمه”. هل فهمت أيها القارئ شيئا؟ لقد أصبح النقد الأدبى على يد بعض من يُسَمَّوْن: “نقادا” سداح مداح، فلا ضابط ولا رابط، وما عليك إلا أن تقول كل ما يطقّ فى رأسك دون مبالاة بمنطق أو قانون أو ذوق أو حساسية. قل ما يخطر لك حسبما تلقى إليك به الريح المجنونة، ولا تلق بالك إلى أحد أو إلى شىء!

كذلك ذكر ناقدنا أن العطر فى القصيدة إنما كان موجودا فى الحلم. وهذا خطأ، إذ نصت القصيدة على أن الشاعر قد شمه حين وجد نفسه وحيدا فى المدينة ففكر فى اصطياد القطا. أى أنه كان موجودا فى اليقظة لا فى الأحلام السابقة على ذلك اليوم، تلك الأحلام التى كان كثيرا ما يطارده فيها القطا، فإذا ما حاول الإمساك به شرد. ثم قلت لصديقى: لقد سبق أن قرأتُ ذلك النقد، وهو ليس نقدا على الإطلاق، بل هلاوس يبدو هذيان القصيدة بجانبها عقلا متزنا ومنطقا متماسكا رغم أنه ليس بالهذيان البسيط الهين. ومن هذه الهلاوس أيضا، وكل ما فى ذلك الكتاب هو من ذلك اللون العجيب من الهلاوس، قوله إن “الزَّبَد” أشبه ما يكون بالعطر القديم وبرائحة الإنسان. هل فهمت يا صديقى، وأستحلفك بالعزيز الجبار أن تَصْدُقنى القول رغم اختلافى معك، شيئا من هذا العبث؟ بل قل لى، بالله عليك وبحق الصداقة التى بيننا، كيف تُشْبِه رائحةُ العطر القديم رائحةَ الإنسان حتى يعطف هذه على تلك بوصفهما شيئا واحدا فى الصورة المذكورة آنفا! وهل للإنسان رائحة ملازمة لا تتغير حسبما يُفْهَم بكل وضوح من هذا السخف المسمى نقدا؟ إن للإنسان روائح تتعدد بتعدد حالاته كما هو معروف، لكن تلك الروائح لا يمكن أن تشبه رائحة العطر أبدا، ولا أظن أن هناك من يجادل فى هذا. ثم قلت له: يا صديقى، أتَذْكُر إذ كنت دائما تقول لى إن الشاعر لا ينظم قصيدته ليقول لنا شيئا، بل ينظمها والسلام؟ فكيف نسيت هذا الذى كنت تردده على مسامعى دائما كى تُفْهِمنى أننى، حين أبحث عن معنى فى القصيدة، إنما أُلْزِم الشاعر بما لا يَلْزَمه بل يَلْزَمنى أنا وحدى ما دمت أُصِرّ على البحث فى القصيدة عن معنى؟ وافترقنا أنا وصديقى دون أن نتفق. أما أنا فلست أستطيع أن أفهم القصيدة ولا أن أتذوقها رغم رغبتى الشديدة فى أن أفيد مما قاله لى صديقى. إنها، والحق يقال، هذيان لغوى، وأنا لا يمكننى فهم الهذيان، فضلا عن تذوقه، فلا فكرة ولا صورة ولا عاطفة ولا لغة متميزة. باختصار: لا شىء يمكن أن يخرج به القارئ الصادق من هذا الكلام الذى يريد صاحبه إقناعنا بأنه شعر، وما هو بشعر ولا بشىء ينتمى إلى عالم المعنى والشعور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى