بحوث ودراسات

المربط الصفوي مقاربات عقدية وسوسيولوجية وسياسية وتاريخية 17

أكرم حجازي

كاتب وباحث أكاديمي
عرض مقالات الكاتب

المبحث الثاني

الاتجاه نحو الداخل

   علاوة على الإرث التاريخي لفارس « المجوسية»، فقد بلورت جمهورية « ولاية الفقيه» أيديولوجية تتلاءم مع الواقع الدولي. وبدت الجمهورية، في أطروحتها التوسعية، نسخة طبق الأصل عن أطروحة « صك الانتداب» (1920)، الذي سبق وبلورته بريطانيا وفرنسا عشية الحرب العالمية الأولى، تحت غطاء ما أُسمي بـ « عصبة الأمم»، بهدف استعمار ما صُنِّف بـ « العالم الثالث»، ووفقا لوثيقة الصك التي زعمت أن « رفاهية وتطور هذه الشعوب تشكل أمانة مقدسة في عنق المدنية». كما لم تختلف أطروحتها عما فعله الاتحاد السوفياتي في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، وتبنيه لأطروحة « حق تقرير المصير»، ودعم حركات التحرر والتمرد في العالم الثالث. وغني عن البيان، بعد نحو مائة عام، أن أطروحة الانتداب لم تكن سوى أبشع عملية إبادة ونهب دولي منظمين، مثلما كانت « الماركسية» مجرد أيديولوجيا للتوسع والهيمنة، فضلا عن تمكين الاتحاد السوفياتي، بالدرجة الأساس، من الاضطلاع بدوره الوظيفي في قيادة « المركز» وفرض الرقابة على مناطق التوتر في منطقة « الهامش». فما هي الأيديولوجية التي هندستها إيران لاختراق قلب « الهامش» الدولي؟

   يتحدث الدستور الإيراني في مقدمته عن « تصدير الثورة» و « نصرة المستضعفين» و « حكومة المستضعفين في الأرض» و « المحرومين» و « المضطهدين»، فيقول: « بالنظر إلى محتوى الثورة الإسلامية في إيران، التي كانت حركة تهدف إلى نصرة جميع المستضعفين على المستكبرين، فإن الدستور يعدّ الظروف لاستمراريّة هذه الثورة داخل البلاد وخارجها، خصوصاً بالنسبة لتوسيع العلاقات الدولية مع سائر الحركات الإسلاميّة والشعبيّة حيث يسعى إلى بناء الأمة الواحدة في العالم ﴿ إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون92 : 21 ] [ ويعمل على مواصلة الجهاد لإنقاذ الشعوب المحرومة والمضطهدة في جميع أنحاء العالم».

    وفي المادة 154 من الفصل العاشر، قسم السياسة الخارجية، يبدو وكأن المشرع استعان حتى بمفردات «

 صك الانتداب»، حين يقول: « تعتبر جمهورية إيران الإسلامية سعادة الإنسان في المجتمع البشري كله قضية مقدسة لها، وتعتبر الاستقلال والحرية وإقامة حكومة الحق والعدل حقًا لجميع الناس في أرجاء العالم كافة، وعليه فإن جمهورية إيران الإسلامية تقوم بدعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أية نقطة من العالم، وفي الوقت نفسه لا تتدخل في الشئون الداخلية للشعوب الأخرى».

    هكذا تسللت « الإمامية» إلى العالم الإسلامي، وترجمت « التوسع» أيديولوجيا بشعارات ومبررات مطاطة، بحسب الظروف. فحازت على الشرعية حين امتطت ظهر القضية الفلسطينية، وتدخلت في الدول ذات الحضور الشيعي بدعوى حماية المستضعفين والدفاع عن حقوق المحرومين، واستوطنت أمنيا وعسكريا لحماية المراقد المقدسة والعتبات في العراق، وهاجمت في سوريا دفاعا عن محور المقاومة والممانعة، ثم غيرت سقف المبررات الطائفية عبر أطروحة الدفاع عن المراقد والعتبات، ثم تحول الأمر إلى حرب وجودية، لتنتهي أخيرا بالدفاع عن كرمنشاه وطهران. وشرعت في عملية تخريب طائفية منظمة في البحرين، ولم تتوقف عن التحضير للتدخل في اليمن، لتقود انقلابا شاملا، ويعلن الزعيم الحوثي، عبد الملك الحوثي، عشية التدخل السعودي، عبر عملية عسكرية باسم « عاصفة الحزم – 26/3/2015»، أن سقف « الحركة الحوثية»، لمن لم يعلم بعد « عال جدا جدا»[1]! وكأن الاستيلاء على الدولة والمجتمع والثورة لم يكفه!!! وكل هذا يجري وفق ما رسمته « الخطة الخمسينية لتصدير الثورة الشيعية[2]» التي صاغها عالم الفيزياء الإيراني محمد جواد لاريجاني، ونالت موافقة المرشد علي خامنئي. ولا ريب أن أوضح ما في هذه التدخلات وغيرها:

  1. أنها كانت ولمّا تزل، وطبقا للخطة الخمسينية تجري باتجاه الداخل الإسلامي، عبر إشعال الحروب وتوطين الفتن والتدخلات الأمنية والسياسية والعسكرية والعقدية .. وهي ذات التدخلات القديمة التي قامت بها فارس، وتؤمن بها منذ عهد الأكاسرة، وهذا يعني أن الشيعة في « أية نقطة في العالم»، هم المقصودون أولا، وأكثر من غيرهم، بمصطلحات « المستضعفين» و « المحرومين» و « المضطهدين»، باعتبارهم رأس الحربة في الثأر والانتقام.
  • وفي المقابل ظلت إيران، منذ انتصاب « ولاية الفقيه» تتجه، على الدوام، نحو التفاهم مع « المستكبرين»، وتطبيع العلاقات مع «إسرائيل» والولايات المتحدة خصوصا والغرب عموما. لذلك حرصت على ألا تطلق طلقة واحدة، في تاريخها الملكي أو الجمهوري، ضد «إسرائيل» أو التصدي لأي عدوان دولي على أي بلد عربي أو إسلامي.

المبحث الثالث

الخيانة ( العراق وأفغانستان)

   عطفا على وقائع الغدر التاريخية، ودول فِرَقِها وجماعاتها المارقة على الدين، عادت « الاثنى عشرية» لتهاجم تحت مظلة النظام الدولي. ودشنت أول حضور دموي لها، كالعادة، في العراق ما بين سنتي 1981 – 1988، ثم ابتداء من سنة 2003. وفي وقت لاحق في أفغانستان سنة 2001. ابتدأ العراق الحرب بعد أن استنفذ كل وسائل الحوار مع « الولي الفقيه». ومع أنه أعلن عن استعداده لوقف الحرب، بعد سنتين على اندلاعها، إلا أن إيران ابت إلا أن تستمر. وما كانت لتتوقف إلا بعد أن قبلت إيران قرار مجلس الأمن رقم 598، الصادر في 28/5/1988 .. هنا فقط توقفت الحرب بطريقة تفوق صعوبة تجرع السم لدى الخميني. لكنها لم تنته حتى بعد الغزو الأمريكي للعراق وسقوط بغداد في 10 أفريل/نيسان سنة 2003. ولا بعد انسحاب الأمريكيين وتسليمهم البلاد إلى إيران والمليشيات الشيعية.

     وفقا لوقائع الخيانة والغدر؛ وبألسنة علية القوم، ثمة ثلاثة رؤساء؛ أولهم يكشف عن الأمر، والثاني يحرض على المزيد، والثالث يعاتب على الثمن! والنتيجة سقوط دولتين مسلمتين، وضحايا وتشريد وتنكيل واستباحة كل محرم. كان أول من افتتح المزاد هو الرئيس الأسبق، ورئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، علي أكبر هاشمي رفسنجاني. ففي معرض كلمة له بجامعة طهران، في 8/2/2002، أعلن أن: « القوات الإيرانية قاتلت طالبان، وساهمت في دحرها، وأنّه لو لم تُساعد قوّاتهم في قتال طالبان لغرق الأمريكيون في المستنقع الأفغاني». وتابع قائلاً: « يجب على أمريكا أن تعلم أنّه لولا الجيش الإيراني الشعبيّ ما استطاعت أمريكا أنْ تُسْقط طالبان»[3]. تبعه محمد علي أبطحي، نائب الرئيس، محمد خاتمي، للشؤون القانونية والبرلمانية. ففي محاضرة له في ختام أعمال مؤتمر «الخليج وتحديات المستقبل13/1/2004»، الذي ينظمه مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية سنويا، أكد أبطحي على أقوال رفسنجاني، بالقول أن: «بلاده قدمت الكثير من العون للأمريكيين في حربيهم ضد أفغانستان»، وقاطعا في القول، بأنه: « لولا التعاون الإيراني لما سقطت كابول وبغداد بهذه السهولة؛ لكننا بعد أفغانستان حصلنا على مكافأة وأصبحنا ضمن محور الشر، وبعد العراق نتعرض لهجمة إعلامية أمريكية شرسة»[4]!!!

      لكن «أبطحي»: « لم يوضح طبيعة التعاون الإيراني مع واشنطن فيما يتعلق بأفغانستان والعراق». فما كان من رئيسه محمد خاتمي إلا أن بادر إلى التفصيل في الأمر أيما تفصيل، وذهب إلى حد تحريض الأمريكيين على احتلال العراق، كما سبق واحتلوا أفغانستان، وكأن ما قاله « رفسنجاني» و«أبطحي» لم يشف صدور غلاة الصفويين من التفاخر والاعتزاز بالخيانة. ونظرا لأهمية تصريحاته؛ سننقل نص الحوار المصور الذي ورد في برنامج وثائقي بثته مؤسسة «السحاب» خلال لقائها السادس مع د. أيمن الظواهري بتاريخ 3/8/2009، وهو يتحدث عن الدور الإيراني في تسليم بلدين مسلمين للولايات المتحدة:

« الرئيس خاتمي:  

   «الطالبان كانوا أعداءنا، وأمريكا ترى أيضاً أن الطالبان أعداؤها، ولو أطاحوا بالطالبان فإن هذا سيخدم بالدرجة الأولى مصالح إيران».

«السحاب»:

      وقرر الإيرانيون أن يتحدثوا للأمريكان، وكان المكان الوحيد الذي يلتقي فيه الوفدان الإيراني والأمريكي هو الأمم المتحدة، وهناك حمل عضوٌ من الوفد الإيراني رسالةً لحكومة الولايات المتحدة. وعن هذا قالت هيلاري مان عضوة وفد الولايات المتحدة في الأمم المتحدة :

هيلاري مان:

« لقد قال إن إيران مستعدة للتعامل بلا قيود مع الولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب وإذا تمكنوا من العمل معنا في هذا الصدد فإن هذا سيوفر احتمال تحول جذري في علاقات الولايات المتحدة وإيران».

«السحاب»:

     وبدأ الدبلوماسيون الإيرانيون والأمريكان يجتمعون سراً فيما عرف بمجموعة 6 +2 وعن هذا تقول هيلاري مان:

هيلاري مان:

« تمت هذه الاجتماعات في نيويورك وأيضاً في جنيف وكان الإيرانيون راغبين في القيام بكل ما هو ضروري ليساعدوا في التأكد من أن حملة الولايات المتحدة العسكرية يمكن أن تنجح«.

«السحاب»:

    واستمر القصف الجوي الأمريكي الذي بدأ في السابع من أكتوبر لعالم 2001 لقرابة شهر ولكن بدون نتيجة، وكان حلفاء إيران من التحالف الشمالي المحصورون في وادي بانشير يحتاجون أن تقصف أمريكا الطالبان حيث يسدون الطريق لكابل، وهنا قرر الإيرانيون أن يمدّوا الولايات المتحدة بالمعلومات الاستخباراتية الحيوية، واستخدموا مجموعة 6 + 2 .

محسن أمين زاده «مساعد وزير الخارجية الإيراني»:

   « لم يكن قد بقي شيء في أفغانستان لتدميره، فقد دمر كل شيء من قبل، واستهدفت الحملة الأمريكية الملاجئ والكهوف وأسقطوا قنابل هائلة كان بإمكانها تدمير الجبال ولكن بلا نتيجة. وكان أحد موفدينا في هذه الجلسات عسكري، وكان يمدهم بالمعلومات عن الأحوال داخل أفغانستان«.

هيلاري مان:

   « لقد ضرب الطاولة وقال: أنا لدي ما يكفي من هذا، هذا حديث شيق ولكن لن نتقدم إذا لم تنجح حملة القصف هذه».

محسن أمين زاده «مساعد وزير الخارجية الإيراني»:

     «إذا أرادت أمريكا أن تنجح فإنها ستحتاج لمعونة التحالف الشمالي وأصدقاء إيران«.

هيلاري مان:

« وأخذ خريطة وبسطها على الطاولة، وبدأ يحدد الأهداف التي على الولايات المتحدة التركيز عليها وخاصة في الشمال. وأخذنا الخريطة وأرسلناها للقيادة المركزية. وبالتأكيد أصبحت هذه هي استراتيجية الولايات المتحدة العسكرية«.

«السحاب»:

جاك سترو «وزير الخارجية البريطاني«:

     « إيران كانت دولة ذات شأن في المنطقة، وكان من المهم لي أيضاً أن أرى الإيرانيين، لكي نضمهم معنا لما كنا ننوي أن نفعله بصدام وهو التخلص منه. نحن لا نستطيع تجاهل الخطر الذي يشكله صدام حسين لهذه المنطقة ولدول مثل إيران والكويت وللشعب العراقي نفسه ولأمن المنطقة والعالم«.

محمد خاتمي:

« لم يكونوا دائماً يعارضون صدام، صدام عدونا ونحن أول من يرغب في تدميره «.

«السحاب»:

     وقدم خاتمي الآن عرضاً غير متوقع، فقد عرض أن تمد إيران أمريكا بالمعلومات الاستخباراتية والمشورة اللازمتين للإطاحة بصدام.

جاك سترو «وزير الخارجية البريطاني«:

« لقد كان هناك ترتيب دولي فيما يتعلق بأفغانستان وقد شاركوا فيه، ولا أدري إن كنتم قد لاحظتم ذلك، وقد كانت نتيجته جيدة جداً«.

محمد خاتمي:

 « أنا قلت له: لنكرر تجربة أفغانستان في العراق، ولنجعلها ستة زائد ستة , ست دول مجاورة للعراق، والدول الخمسة الدائمة العضوية في مجلس الأمن ومنهم أمريكا ومصر».

محسن أمين زاده «مساعد وزير الخارجية الإيراني»:

« بالنسبة لنا فإن مستقبل العراق مهم جداً، ولا يقل أهمية عن مستقبل أفغانستان، والكثير من الشخصيات العراقية الفاعلة كانت منفية في إيران وسوف تكون زعامات العراق القادمة«.

محمد خاتمي:

« انظروا لإيران على أنها القوة التي يمكن أن تحل المشاكل بدلاً من أن تنظروا لها على أنها مشكلة بحد ذاتها».

     في 21/2/2010، رد الرئيس الإيراني السابق، أحمدي نجاد، بعصبية فائقة، على الإعلان الأمريكي بتصنيف إيران من ضمن « محور الشر» إلى جانب كوريا الجنوبية والعراق، فقال: « إننا تعاونا مع الإدراة الأمريكية في الغزو ضد أفغانستان. لكنهم وقحون جداً. قمنا بالتعاون معهم في أفغانستان والعراق، كما أنهم قاموا بفرض بعض شروطهم علينا في مجال الملف النووي .. ورضينا بذلك أيضا، وتقبلنا كل شروطهم التي أُمليت علينا، وبعد كل ذلك التعاون والتنسيق المشترك؛ أقدم الرئيس الأمريكي بوش وبصلافة على اتهامنا بأن ايران دولة من دول محور الشر»[5].


[1] الحوثي: طموحاتنا لا حدود لها والخيارات مفتوحة، 21/1/2015، موقع الجزيرة نت، على الشبكة:  http://cutt.us/yxwj

[2] نشرها د. عبدالرحيم البلوشي ( أبو المنتصر)، منشورات « رابطة أهل السنة في إيران»، لندن، 20/9/2010، وكاتبها وصاحبها هو عالم الفيزياء، د. محمد جواد لاريجاني. وهو من قدمها لمرشد الثورة علي خامنئي ووافق عليها. وبحسب د. عبدالله النفيسي فإن لاريجاني نفسه هو من كشفها، وقام المرشد، في حينه، بمعاقبته عبر إبعاده عن ملفات التفاوض وحتى سجنه بسبب ثرثرته.

[3] « رفسنجاني: قواتنا قاتلت طالبان وأنقذت أميركا من المستنقع الأفغاني»، 9/2/2002م، صحيفة « الشرق الأوسط السعودية»، على الشبكة: http://cutt.us/5x3rW.

[4] « أبطحي: لولا إيران لما سقطت كابول وبغداد»، 13/1/2004، موقع « إسلام أون لاين»، على الشبكة:         http://cutt.us/obnM4. ورابط « موسوعة الرشيد»، على الشبكة: http://cutt.us/Q3UOf

[5] موقع « يوتيوب» على الشبكة: http://cutt.us/XaQ4F، من الجدير الإشارة إلى كتاب « المبعوث» للسفير الأمريكي الأول، بعد غزو العراق، زالماي خليل زادة، حيث يتحدث فيه عن الاتصالات السرية بين الولايات المتحدة وإيران عشية التحضير لغزو العراق وبعد الاحتلال، والتنسيق بينهما أمنيا وعسكريا وسياسيا، فيما يتعلق بمستقبل العراق. « خليل زاده: أميركا نسقت مع إيران قبل غزو العراق»، 7/3/2016، موقع « الجزيرة نت»، على الشبكة: http://cutt.us/kL45C

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى