مقالات

صقر هونغ كونغ وكفاحه في مجابهة أشرس أنظمة القمع المعارض جيمي لاي

بقلم:  Chen Yi  خبير في الشؤون السياسية لمنطقة هونغ كونغ    

المقدمة

النشأة والبيئة المحيطة والبداية مع الديمقراطية

ولد جيمي لاي في ديسمبر 1948 بمدينة غوانغزو الصينية، بدأ أول عمل له بحمل الحقائب في محطات السكك الحديدية وهو بعمر التاسعة، وتمكن من الفرار إلى هونغ كونغ بمغامرة مثيرة إلى مدينة المباني الشاهقة. بدأ حياته في هونغ كونغ كعامل بأحد مصانع القفازات، وترقى بعمله سريعاً إلى أن أصبح مديراً عاماً للمصنع في سن العشرين. ثم راهن على مدخراته في سوق الأوراق المالية، واستخدم أرباحه لشراء مصنع (Comitex) ليصبح مالكاً لشركته الخاصة التي تنتج الملابس وتصديرها للأسواق الكبيرة بالعالم.  أسس جيمي شركة (Giordano) للملابس عام 1980. حاول إدراج شركة “Next” في سوق الأسهم مراراً وتكراراً ولكنه فشل بسبب تكتل الشركات المؤيدة لبكين ضده، إلى أن نجح وأدرجت شركته في سوق أسهم هونغ كونغ، حيث انتشرت فروعها في الصين مع بداية الانفتاح الاقتصادي بأوائل التسعينات من القرن الماضي يقف جيمي لاي وحيداً في عاصمة المال، ويبتكر استراتيجية جديدة، وتَوَقع المشككون خسارته مراتٍ عديدة، ولكنه سرعان ما يقف على قدميه أقوى مما سبق.

يعتبر جيمي لاي (Jimmy Lai) الرجل الأكثر خطورة في صفوف المعارضة للحكومة والأكثر شعبية واحتراماً في صفوف المناهضين للحكومة المركزية في الصين وحكومة هونغ كونغ. أسس جيمي لاي حياة ناجحة مليئة بالمغامرات، حيث مر بمراحل متعددة من معاناته للفقر في الصين ثم انتقل إلى هونغ كونغ بعمر مبكر وصل فيها إلى مرتبة مجتمع رجال الأعمال الناجحين بعدة مجالات عن جدارة، وجد نفسه في معظم المراحل بصدام مع أعضاء الحزب الشيوعي كمعارض للسياسات القمعية بكلٍ من هونغ كونغ وتايوان، كما ويحمل جنسيات كلٍ من هونغ كونغ وتايوان وبريطانيا.

كان لرسالة جيمي صدى واسع وقوي، لأن قصته هي قصة هونغ كونغ. حيث وصل من البر الرئيسي للصين بمفرده، ومهاجر، هارب خلسة في قاع قارب صيد، مفلساً بعمر الثانية عشر، إلى مدينة بناها اللاجئون الصينيون المتعطشون للحرية من أمثالهُ، وقد رفع نفسه من مراهق بحياة عشوائية في غوانغزو إلى مؤسس سلسلة ملابس شهيرة للغاية، ثم مالكًا لمجلة Next الشهيرة في سوق الأسهم، وصحيفة (Apple Daily) بكلٍ من هونغ كونغ وتايوان. 

ومنذ تَسليم سلطة هونغ كونغ من الإدارة البريطانية، وأن بدأت هونغ كونغ تحت الإدارة الذاتية الخاصة ودخول الصينيين إلى هونغ كونغ، أصبحت معركته هي الحفاظ على هونغ كونغ التي أظهرت ما يمكن أن ينجزه الصينيون العاديون إذا مُنِحوا الحرية. كان هذا أيضًا وعد بكين الذي كان ضمن اتفاقيتها مع بريطانيا بموجب التعهد لصيغة نظام “دولة واحدة بنظامين”. ولكن بمجرد أن وضعت بكين يدها على هونغ كونغ، شرع الحزب الشيوعي للعمل على ضمان بقاء نظام واحد فقط من بين النظامين، ألا وهو النظام الشيوعي. جسد جيمي لاي حياته في نجاحات روح المبادرة متأرجحاً بين أزقة هونغ كونغ المليئة بمناهضيها الديمقراطيين ومركزها المالي وأصحاب الاستثمارات المرتبط مستقبلها بالاستثمارات الصينية. مسيرة حياة بدأت من لا شيء أبداً سوى الإصرار.

تعلم الإنكليزية بمفرده وحائز على تعليم جامعي، وجائزة “حرية الصحافة” من قِبل “مراسلون بلا حدود” (RSF) لدوره في تأسيس صحافة حرة. قُدرت ثروتهُ في عام 2008 بما يفوق عن 1,2 مليار دولار أمريكي.

بداية المواجهة

في أعقاب مظاهرات (Tiananmen) عام 1989 ببكين وقمع الجيش الصيني آلاف المتظاهرين وقتل معظم من كان بوجه الجيش، استوحى إلى جيمي لاي إطلاق صحيفة إعلامية (Next Weekly) التي سميت لاحقاً (Next Digital)، وصِفت حينذاك بالصحافة الاستقصائية، وفي إحدى أعمدته انتقد مجزرة بكين التي كان ضحاياه بالآلاف، وأثر ذلك المقال في شعبية صحيفته وحولها للأكثر رواجاً ونقداً لحكومة الصين علانيةً. إذ وصف عام 1994 رئيس وزرائها آنذاك (Li Peng) –قائد حملة المجزر الطلابية – بأنه “ابن بيضة سلحفاة دون معدل ذكاء”. وجاء رد فعل الحكومة الصينية سريعاً وتعسفياً، وتم إغلاق ومصادرة كافة محاله (Giordano) بالصين، وحاولت لجنة الأوراق المالية والعقود الآجلة في هونغ كونغ، من خلال اقتراح يتضمن الاستيلاء على شركة صغيرة مدرجة (Paramount Publishing Group) –احدى فروع شركاته وقتها-، وذلك في إحدى الطرق للانتقام من جيمي، إلى أنها كانت محاولة فاشلة، كذلك، ساهم موقفه المتحدي بجعله هدفاً لمحاولة اغتيال.

قُبَيل تسليم إدارة هونغ كونغ إلى الصين، وفي عام 1995 تحديداً، أسس جمي لاي صحيفة (Apple Daily) الناقدة للحكومة الصينية وتوسع بها إلى جزيرة تايوان –والتي أعلنت الانفصال عن جمهورية الصين الشعبية وسميت نفسها بجمهورية الصين، كما ضخ بها قرابة 13 مليون دولار أمريكي ليجعلها الصحيفة الصينية الأكثر معارضةً للحكومة المركزية والأكثر شعبية على كافة الأصعدة في منطقتين تعتبرهما الصين تابعتان لها. ترأس جمي لاي في الصحيفة كمحرر وأدارها بشغف منذ الصباح الباكر إلى منتصف الليل ويومياً.  توسعت (Next Digital) في تايوان وباع جيمي حقوق أعمال المطبوعات والمرئيات في تايوان.

من ناقد صحفي إلى محارب ميداني

ساهم لاي في دعم الجماعات المؤيدة للديمقراطية في هونغ كونغ بشكل مستمر، وذكرت صحيفة (SCMP) المحلية، بأنه تبرع بأكثر من (1.4 مليون دولار أمريكي) لأحزاب وسياسيين ديمقراطيين منذ عام 2013 (مع بدء الانتفاضة الأولى “احتلال وسط المدينة” أو “Occupy Central”).

داهمت سلطات مكافحة الفساد منزله مراتٍ عديدة كون تبرعاته السياسية أصبحت موضع تدقيق متزايد وقلق. ذكر في إحدى مقابلاته مع صحيفة (WSJ) أنه “ولد في الصين، وقضى طفولته فيها، وشهد كيفية الحياة والعيش في ظل النظام الشيوعي الاستبدادي، والفرق بين المنطقتين كان مثل الجنة والجحيم” بقصد المقارنة مع هونغ كونغ.

تحتوي هذه الصورة على سمة alt فارغة؛ اسم الملف هو image-5.png

تنشر صحيفة (Apple Daily) بانتظام انتقاداتها للقيادات الصينية كما دعمت حركة الاحتجاجات منذ اندلاعها عام 2019، وتثابر على انتقاد الحزب الشيوعي في الصين بكل لحظة، كما أنشأ جيمي لاي حساب على تويتر يجري دردشة تضمنت أسئلة وأجوبة، مع تقديم دعم مالي لجهات معينة تدعم الحراك المناهض.  

وضع حد لانتقادات قطب الإعلام والقبض عليه

التقى جيمي لاي بالعديد من الشخصيات السياسية البارزة في العالم، وكان مؤخراً لقائه بنائب الرئيس الأمريكي السابق بينيس وبوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في البيت الأبيض في يوليو 2020 لمناقشة الوضع السياسي في هونغ كونغ، ونظم مع مواطني هونغ كونغ احتجاجات حاشدة ضد مشروع القانون الذي تم سحبه لاحقاً والذي كان يتضمن إرسال المشتبهين الجنائيين من هونغ كونغ إلى البر الصيني للمحاكمة، وقد قُبل لقاء جمي بوزير الخارجية مايك بومبيو ونائب الرئيس الأمريكي بإدانة صارخة من كبار المسؤولين الصينيين، وعلى الرغم من ذلك، فإن قانون الأمن القومي وتمريره داخل المجلس التشريعي في هونغ كونغ، جعل من كافة منتقدي الحكومة المركزية تحت المسائلة القانونية واقتيادهم لسجون الصين. خاطب جيمي لاي “بابا” الفاتيكان مستعيناً به للإدلاء بتصريحات والقيام بما يستطيع لمناهضة مواطني هونغ كونغ (كونه من الكاثوليك)، كما نظم عدة لقاءات مع منظمات حقوقية للضغط على الحكومة الصينية.

اعتقلت شرطة في هونغ كونغ مؤخراً السيد جيمي لاي مع مجموعة من موظفين آخرين أثناء عملهم في (Next) للنشر بحجة الاشتباه في تواطؤهم مع قوات أجنبية للتدخل في الأمن القومي الصيني بمنطقة هونغ كونغ، ودون تقديم تفاصيل، وعلى الرغم من أن اعتقاله لم يكن مفاجأة، إذ حدث بعد أيام من فرض الصين لقانون الأمن القومي على المنطقة بشهر يوليو 2020، كما تزامن مع اعتقال ما يزيد عن 50 من صقور المعارضة في هونغ كونغ، في أول مداهمة من قبل السلطات مستخدمة قانون الأمن القومي.  

تصنف وسائل الإعلام الحكومية في الصين صاحب مؤسسة النشر أنه واحدٌ من “عصابة الأربعة” التي تقول إنها تحرض على الحزب الشيوعي، الثلاثة الآخرون هم المسؤولة الثانية في حكومة هونغ كونغ مسبقاً وذات شعبية مرموقة بين المثقفين (Anson Chan)، والقانوني (Martin Lee)، والحقوقي في مجال حقوق الإنسان (Albert Ho).

أجاب جيمي لاي لأحد الصحفيين مرةً عندما سأله عما سوف يفعله خلال الاعتقال في السجن، بأنه يرغب بقراءة الكتب التي لم يسمح له الوقت قراءتها مسبقاً وسوف يكون أكثر إيجابية في حياته وتوقعاته.

وبصفته ملياردير، كان من الممكن أن ينجو بسهولة من الاعتقال ومن حكم شبه مؤكد بالسجن، كما كان بإمكانه قطع أشرعة (صحيفة آبل)، أو بيعها، أو البقاء ببساطة في أحد مساكنه في الخارج حيث يصعب على السلطات لمسه.

منذ بدأ جيمي معارضته لحكومة بكين، قاطعته العديد من الشركات التي كانت تضع إعلاناتها في صحفه، وكان متردداً في تسمية خصومه علناً، لكنه أفصح عن الملياردير (Li Ka-Shing) أنه الخصم الدائم في حرب الاستنزاف ضد شركاته، ويعد لي كا شينغ أكبر أثرياء هونغ كونغ، والمالك لأكبر شركات الاستثمار وصاحب مجموعة (CK Hutchison) التي تدير شركة مبيعات التجزئة (Park ‘n Shop and Welcome Supermarket) إضافةً للعديد من الشركات التي لديه استثمارات ضخمة في الصين.  

عوامل تضع جيمي لاي في مقدمة معارضين للصين

بالرغم من وجود العديد من القيادات في الحراك الديمقراطي المناهض لحكومة هونغ كونغ، إلا أن جيمي لاي يحظى بالنسبة الأكبر من الشعبية والمؤيدين له، ويصفه المحيطين به بأنه “رجل كل الفصول”، اضافةً لانتقاداته اللاذعة لحكومة هونغ كونغ، يتميز جيمي بطبيعة المقاوم، حتى عندما يعتبر معظم من حوله أن الوضع ميؤوساً منه، وعليه كسب محبة الجميع من معه وعرفه. وعليه يشكل الخطر الأكبر للحزب الشيوعي في الحكومة المركزية ببكين لعدة أسباب:

  • يتميز بشخصية قيادية عالية ويمتلك إصرار وعزيمة وتاريخ مفعم بالنضال.
  • يؤمن بالديانة الكاثوليكية (التي تمثل شريحة كبيرة بين مواطني هونغ كونغ)، والمعارضين خاصة.
  • يجيد كتابة المقالات المُحَفزة لإثارة الشارع ضد الحكومة وحشد الجماهير، وفعلها عدة مرات مستخدماً منبر صحيفة (Apple Daily).
  • يجيد أساليب المخاطبة وبحرية وتحدث اللغة الصينية والإنكليزية.
  • يمتلك أكبر الصحف الصينية المعارضة والتي تعرض للبيع في المدن التي يكثر بها السياح الصينيين، مما يعرض فضائح الحزب الشيوعي علانية على مواطني الصين، وتُباعُ صحفه يومياً في كلٍ من هونغ كونغ وتايوان، مما يجعله ذو شعبية إعلامية ومنبر القراء في كافة شرائح المجتمع، متحدياً الإعلام الحكومي.
  • لديه شبكة واسعة من المعارف، من بينها سياسيين عالميين واقتصاديين وكتاب ومعارضين للحكومة المركزية ومنظمات حقوقية وجمعيات صحفية.
  • ساهم في تبرعات سخية لكلٍ من المعارضين، وتبرعات للجمعيات الخيرية، فضلاً عن تبرعاته للمراكز التعليمية والمنشآت العامة والمشافي داخل مجتمعي هونغ كونغ ومكاو.
  • يتواصل مع حكومات الفاتيكان والولايات المتحدة وبريطانيا والعديد من الدول ذات التأثير على صناع القرار في الصين.
  • شارك وساهم في تنظيم العديد من الاحتجاجات السلمية المناهضة لحكومة هونغ كونغ اضافةً إلى دعمه مادياً وإعلامياً بكل حراك.  
  • يحث الشعب في تايوان على الاستقلال التام، وهو ما يتوافق مع معظم آراء الشباب في هونغ كونغ، مما يجعله يحمل خلفية مشتركة لكل من المنادين للديمقراطية.

لا يكترث جيمي تعرضه لأي تهديد كما يزعم ومهما حاولت الحكومة فعله بقدر ما يخشى تعرض منطقة هونغ كونغ خطر زوال مجتمعها التقليدي المعادي للحكومة المركزية. جيمي لاي شاهد قوي ورجل ذو عصبية وطنية وعلى استعداد للتخلي عن كل شيء باستثناء مبادئه، حتى لو كان ذلك يعني مقايضة حياة الملياردير مقابل زنزانة سجن منشق صيني “على حد قول مناصريه”. جردته الحكومة الصينية من فروع شركة (Giordano) لصناعة الألبسة، لكنه ليس بالتاجر الذي يلعب بقواعد اللعبة المعروفة، ونجح بعد أن اكتسب العداء والدعاوى القضائية للعديد من ذوي النفوذ بتغطية منشوراته.

تمت مؤخراً إدانة جيمي برفقة ستة من أعمدة الداعين للديمقراطية بتهمة المشاركة في مظاهرات غير مرخصة والتجمع الغير مرخص والتآمر مع دول أجنبية والتحريض ضد قانون الأمن القومي إذ يمكن أن تؤدي كل إدانة بعقوبة قصوى تصل إلى 10 سنوات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى