اقتصاد

تعليق على مضمون ما جاء بفيديو الدكتور أشرف دوابة (بعنوان): (العملات الإلكترونية – رؤية إسلامية)

د. محمد غانم

تخصص في الاقتصاد الإسلامي
عرض مقالات الكاتب

كثر الجدل هذه الآونة حول العملات الإلكترونية وخصوصا أن هذه العملات فتحت بابا للإتجار بها مما أدى إلى التدافع لاقتناء هذه العملات، واعتبرت فرصة جيدة للاستثمار ومجال جيد لتحقيق دخل وأرباح معتبرة، وكالعادة نرى كثيرا من المسلمين يلهثون ورائها.
أما ما دفعني للتعقيب على فيديو الدكتور أشرف دوابة هو علاقتي الإنسانية الطيبة به، وقد ألتقيت به باسطنبول منذ عدة أعوام في لقاء ليس بطويل، ولقد أحسن الدكتور أشرف لقائي، وتبادلنا الحديث حول مواضيع اقتصادية وبالتحديد موضوع النقود وأهديته كتاباتي ومنها كتابي (المفهوم الإسلامي للنقود وحكم النقد القانوني) وكتب أخرى ووضحت له فهمي وقناعاتي لهذا الموضوع والأسانيد الشرعية التي أعتمد عليها والتي ذكرتها ووثقتها في هذا الكتاب بالتفصيل كنصوص قرآنية وأحاديث نبوية وما قام به الصحابة رضوان الله عليهم.
ومما أذكر أن الدكتور وإن أبدى استغرابه في البداية لطرحي للموضوع إلا أنه ذكر لي ما معناه أن هذا الطرح فريد ولكنه مهم ويجب عليّ أن أستمر فيه.
ومع احترامي الشديد للدكتور أشرف وحبي له إلا أنني وجدت محتوى الفيديو المشار إليه برؤية إسلامية هو في حقيقة الأمر رؤية لا تتوافق مع الرؤية الإسلامية على الإطلاق نصا ومنهجا، وقد وضحت ذلك الأمر بالتفصيل بكتابي المشار إليه ومن خلال عرضي لفكرة المثلث النقدي الإسلامي بكتابي (الإقتصاد الإسلامي مبادئ وحدود)، والذي أرسلته للدكتور أشرف وتواصلت معه تليفونيا للتأكد من تسلمه هذا الكتاب لأهميته باعتبار أن مادته مشتركة بيننا رغم اختلافنا في بعض المواضيع إلا أن الرؤية الإسلامية تحتم علينا جميعا أن نعتد بالنص والمنهج، وهذا أمر ثابت ومشترك لجميع المواضيع والمسائل الإسلامية ويكون هذا هو الفيصل بيننا.
أما بخصوص محتوى الفيديو والذي ذكر فيه الدكتور أشرف أن نظرة الإسلام للنقود تتفق مع النظرة الاقتصادية وللأسف الشديد هذا ليس بصحيح وإن شاع هذا القول وذكره الكثير ممن يتناولونه بكتاباتهم ويدّعون بشرعية النقد الورقي وذلك لعدة أسباب، منها:
أن مفهوم الإسلام للثمن والأثمان وهي التسمية الصحيحة لما يُعرف الآن بالنقود وغالبا ما يأتي هذا الانحراف اللغوي بهدف تغيير المضمون كما أطلقوا على الربا إسم الفائدة.
ولقد استدرك الإسلام كنظام شامل لحياة البشر أهمية وجود معيار للقيم حتى تستقيم معاملاتهم ووضع لها من التشريعات ما يضمن أداء وظائفها حتى تتحقق العدالة وقد تعرضت لذلك بالتفصيل بكتابي المشار إليه، ولا بأس بالإشارة إلى بعض ملامح هذا المفهوم للرد على ما جاء في تسجيل الدكتور أشرف.
خلق الله سبحانه وتعالى كل من الذهب والفضة كما خلق كل شيء فقدره تقديرا بحيث يحقق الغرض من وجوده وخص كل من هذين المعدنيين بصفات ذاتية مادية تتحقق بها وظائف النقود التي أشار إليها الدكتور ثم أضاف أمر آخر غير مادي لا يقدر عليه غير الخالق الحكيم سبحانه وتعالى وهو حب الناس لهذين المعدنيين حيث قال في كتابه الكريم الآية رقم 14 من سورة آل عمران: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ).
ولا يوجد توثيق ولا تفسير لحب الناس لهذين المعدنيين إلا ما جاء بهذه الآية الكريمة وما أشارت إليه بعض الأحاديث كما جاء بالحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن لابن آدم وادياً من ذهب أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب).
فليس هناك من وظيفة لهذين المعدنيين تليق وتتلاءم مع الخواص المادية التي وصفها الله سبحانه وتعالى في هذين المعدنيين ثم خصهما بحب الناس لهما إلا أن يكونا معيار للقيم وأصل الأثمان والحكم عليهما في جميع الأماكن والأزمان، ويأتي نص آخر يتعرض للموضوع بصورة مباشرة كما جاء بسورة يوسف 19 – 20 : (وَأَسَرُّوهُ بِضَٰعَةً ۚ وَٱللَّهُ عَلِيمٌۢ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ).
أما من الجانب العملي فذُكر في السيرة “كانت دنانير هرقل ترد على أهل مكة في الجاهلية وترد عليهم دراهم الفرس البغلية فكانوا لا يتبايعون إلا على أنها تبر …” فكانوا يتعاملون بها وزنا، فكان الرطل 12 أوقية وكل أوقية 40 درهما، فأقر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وأقره أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
فإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم التعامل بالذهب والفضة كأثمان والذي جاء في مواضع كثيرة هو تشريع يفيد بشرعية التعامل بهما، أضف إلى ذلك الكم الكثير للأحاديث التي تنظم التعامل بهذين المعدنيين سواء في باب المعاملات أو في باب الربا وما يجب الإشارة إليه أن الأحاديث النبوية الشريفة جاءت تربط بين النقود وتحريم الربا، وأما بالمسيحية واليهودية جاء تحريم الربا منفصلا تماما عن النقود بل لم يتناولا موضوع النقود أصلا وهذا من كمال التشريع الإسلامي.
أما ما ذكره الدكتور أشرف عن أن عمر بن الخطاب رضوان الله عليه أنه (همّ باتخاذ الدراهم من جلود الإبل)، فهذا القول ليس له سند وقد لفقه له أصحاب شرعية النقد الورقي كما اتهموه بأنه قال أن الرسول صلى الله عليه وسلم قُبض ولم يُوضح لنا تفسير آيات الربا. أما حقيقة موقف عمر بن الخطاب أنه ضرب الدرهم والدينار وما كانت ظروف عصره تدعو إلى اتخاذ الدراهم من جلود الإبل، ولو اتخذ من جلود الإبل دراهم لكثرت الدراهم وأصبحت لا قيمة لها وهذا لم يحدث أبدا.
وما وجدته في هذا الباب مقولة للإمام مالك: (لو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى تكون لها سكة وعين لكرهتها أن تُباع بالذهب والورِق نظرة)، وفي رواية أخرى أنه قال: (لو جرت الجلود بين الناس مجرى العين المسكوك لكرهت بيعها بذهب أو ورِق نظرة)، وهذا افتراض لم يحدث ولا أظنه سوف يحدث، ولو حدث فرأي الإمام مالك فلا يتعدى أن يكون كراهة بيعها بالذهب أو الورِق نظرة، أي أنه في هذا الرأي يُقر وجود الأثمان من الذهب والفضة.
أما عن مقولة ابن تيمية: (أما الدرهم فما يُعْرف له حد طبعي ولا شرعي بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح)، فالمقصود بهذا القول أن الدرهم والدينار لم يوجدا في الطبيعة حتى يُقدر وزنها طبيعيا، فالكلام يُقصد به وزن الدرهم والدينار وهذا معنى الحد الطبعي، وقد ذُكر ذلك في باب الأسماء والمسميات.
أما الحد الشرعي فمن السنة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حدد بدقة الدراهم والدنانير في الزكاة والجزية والبيوع ومن ثم بني عليه ما يُعرف بالدرهم والدينار الحسابي الشرعي والذي اتخذه عبد الملك بن مروان في ضربه للدرهم والدينار، وقد تعرضت لتوضيح هذا القول بكتابي المذكور بالتفصيل.
هذا عرض موجز ومختصر لنظرة الإسلام للنقود خلافا على ما ذكره الدكتور أشرف في الفيديو، أما عن ادعائه بأن نظرة الإسلام للنقود تتفق مع ما جاء في تعريفها الاقتصادي، وللأسف هذا القول أيضا غير دقيق وفيه مغالطة لأنه قد يوحي أن النقود التي بين أيدينا اليوم والتي يقرها النظام الاقتصادي العالمي الحالي تتمتع بشرعية إسلامية وهذا ليس بصحيح للأسباب الآتية:
أولا: إنه من الأهمية يجب أن أنوه إلى أن مصدر الشرعية الإسلامية هو الوحي، وموضوعه هو العلوم الإنسانية، وما يقابله من منظومة العلوم الاجتماعية الحديثة والتي تشمل علم السياسة والاقتصاد من العلوم التي يحاول الغرب احتكارها، والتي مصدرها جميعا العقل البشري والتجربة الإنسانية، وهذا يمثل الفرق الشاسع ما بين الوحي الإلهي نصا ومنهجا وبين نتاج العقل البشري نصا ومنهجا.
ثانيا: بالنسبة لعلم الاقتصاد والذي يقوم على دعامتين أساسيتين:
الأولى وهي المشكلة الاقتصادية ومفادها أن الكون غير متوازن وذلك لحدودية الموارد وعدم حدودية الرغبات، وجاءوا بعلم الاقتصاد كعلم بشري ليعيد توازن الكون من خلال هذا العلم.
الثانية أن هذا العلم ضمن العلوم الاجتماعية “إيجابي” Positive، وليس “معياري” Normative، والتي تعني ببساطة رفض أي أمر ديني.
وعليه فإن كل من العلوم الاجتماعية الغربية والعلوم الإنسانية الإسلامية يفترقان من المصدر ثم المنهج وهما متوازيان لا يلتقيان، وهذا لا يمنع أن هناك مواضيع مشتركة مثل قوانين العرض والطلب باعتبارها قوانين كونية ثابتة كذلك وظائف النقود والتي تختلف عن طبيعة النقود وماهيتها.
أما تعريف الاقتصاد للنقود فهو غير محدد ولا يهتم إلا بوظائفها ويطلق الاقتصاديون الآن تعبير حجم النقود المعروض Money Supply بدلا من كلمة النقود لعدم وجود تعريف محدد لها، فمثلا بالنسبة لإنجلترا يُطلق عليها اعتبارا من M1 و M2 و M3 … إلخ، حتى ما يُعرف بالمعنى الواسع للنقود Broad Meaning of Money، وتعريفات مماثلة في جميع بلدان العالم.
أضيف إلى ذلك أن الربا من البداية هو المكون الرئيسي للنقود الحالية وما كان لها أن توجد بدونه والتي تُنشأ من عدم ولذلك كان الربا بمثابة قيمتها، وهذا ما دعاني أن أعتد بأن النقود الحالية هي عين الربا، فكيف تتفق الشريعة الإسلامية مع المفهوم الاقتصادي للنقود؟!
علما بأن العملات الإلكترونية هي مولود غير شرعي يضاهي النقد الوهمي المتمثل في الدولار واليورو وخلافه في محاولة جرئية وذكية وفكرة حذقة جاء نتيجة لمهارات استخدام الأدوات الإلكترونية الحديثة واستغلالها في كسر سلطة احتكار النقد الدولية لهذه العملات الوهمية المجازية والمعروفة اقتصادي بـ Fiduciary Fiat Money.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى