مقالات

العطَّار وحبُّ السلامة

د. محمد العباس – أكاديمي سوري

 الأستاذ عصام العطار في هذه الأيام كما هو معلوم يرقدُ في فراشه يعاني من أمراض الشيخوخة، ومع الدعاء له بطول العمرِ في طاعة الله مصحوباً بالصحة والعافية، فإنَّ حديثنا اليوم لن يكون حول مرضِ الشيخ وسنِّه المتقدمة.

وإنما سيكون حديثنا عن هذا العالِم الجليل كظاهرةٍ مُختلفة، وكحالةٍ مُتميزة تلفتُ الأنظار ويقفُ المرء عندها زمناً طويلاً، مع العلم أنَّ كثيراً من المشايخ والمفكرين أمثاله يعيشون بجواره في البلاد الأوربية وغيرها، وهم يحملون أفكاراً ونظريات وقوانين وحِكَم ونصائح في العلم وفلسفة الحياة ليست أقلَّ مما يتمتعُ به الأستاذ العطار، وقد يبهرونك بثقافتهم وموسوعيتهم أحياناً، لكنَّ هؤلاء مع كُلِّ هذا العلم الذي عندهم وما يحملونه من مزايا متفردة أحياناً فإنهم  يقومون بنشر ذلك من شُرف منازلهم أو من وراء مكاتبهم لا يُجاوزون ذلك في أغلب الأحوال .

في حين كان الأستاذ العطار الذي نتحدثُ عنه كظاهرةٍ قد أمضى زهرة شبابه في دمشق مُناضلاً مُجاهداً مُجاهراً بالحقِّ مُقارعاً للظلم مُطالباً بحقوق أهله وأمته.

علَّم وعمِلَ وخطبَ وتظاهرَ وخاطرَ ولُوحِقَ وعُوقِبَ ومن ثُمَّ تغرَّب قسراً عن بلده، وبعد ذلك قُتلت زوجته غيلةً في بلاد الغربة وكان هو المقصود …

إنَّ من أهم ما تميَّز به العطار في رأيي أنه ليس كغيره ممن آثر السلامة، وسلك طريق التنظير من غير أن يُتعب نفسه ويخاطر بحياته وحياة أسرته أحياناً، فكانت له هذه المنزلة في قلوب الناس وذاكرتهم، وفي الوقت ذاته فإنَّ غيره افتقد هذه الميزة ويا للأسف، ولم يقتحم ميدان العمل والمخاطر؛ وعليه أُحبُّ أن أقول لهؤلاء:

-حبُّ السلامة – إخواني- هو الذي يمنعُ الأفكار والمشاريع الورقية أن تنزل إلى الميدان لتؤثر فيه.

– حبُّ السلامة هو الذي يمنعُ حاملَ العلمِ وصاحب الفهم أن يتكلم خوفاً من النقد أو فقد المكانة.

– حبُّ السلامة هذا سيجعل كلماتك ذات درجة من البرودة لا تكادُ تَلقى لها آذاناً صاغية ولا حماساً مُتقداً في النفوس.

_ حبُّ السلامة هو الذي سيجعل الجماهير تنفضُّ من حولك مع مرور الزمن لأنها ستشعر بأنك تبيعهم مجرد كلام …

_ حبُّ السلامة هو الذي يجعلك تعيش انفصالاً شعورياً في برجك العاجي بعيداً عن معاناة الناس وآلامهم.

  • حبُّ السلامة -سيدي- يذهب بك بعيداً عن تفاصيل الأمور وتسلسل الأحداث مما يجعل أحكامك مضحكة حتى للجهلاء والبسطاء ويتيح الفرصة للرويبضة وأنصاف المتعلمين بالتصدّر. 
  • حبُّ السلامة هو الذي يجعل مبادءك التي كنت تحملها وتنادي بها تهتزُّ حتى في عيون أنصارك وأتباعك، هذا إذا لم يصلوا إلى درجة الكفر بها …

حبُّ السلامة يثني عزم صاحبه

                                                عن المعالي ويُغري المرء بالكسل()

أمَّا التضحيةُ والبذلُ والمغامرةُ والشجاعةُ فهي قيمٌ عالية وعملية لو اجتمعت فيك -سيدي- صاحبَ الفكرِ والعلمِ لجعلت منك مُلهِماً لي ولأمثالي، ولجعلتك قدوةً وأسُوةً لا يمكن لأي أحدٍ أنْ يُنازعك هذه المكانة مهما كان حجمُ التشويش والتشويه.

  • حبُّ التضحية وطلبُ المعالي هي التي تُخلِّد ذكرك كما خلَّدت ذكرَ مَن نعرف من الرجال الذين سطَّروا أسماءهم في ذاكرة الشعوب على مرِّ التاريخ القريب والبعيد.
  • حبُّ التضحية والبذل هو الذي يجعل المبادئ التي تؤمن بها حيةً متجددةً في نفوس أهل الحقِّ وأتباعه.
  • حبُّ التضحية والبذل هو الذي يُظهر معادن الرجال ويميز أهل الصدق والحق من أهل الزيف والنفاق. 
  • حبُّ التضحية والصدع بالحق هو الذي جعلنا نعرف أهل العلم الأُصلاء من غيرهم من الدخلاء الأدعياء. 

لَا يُدْرِكُ المَجدُ إِلَّا سَيِّد فَطِن … لِمَا يَشُقُّ عَلَى السَّاداتِ فعَّالُ

لَوْلَا المَشَقَّةُ سَادَ النَّاسُ كُلَّهُمَ…. الجودُ يُفقِرُ والإقدامُ قتَّالُ()

وبالمناسبة حتى لا يُفهم كلامي على غير المراد، لا أعني بما قدَّمت ألا يأخذ أهل العلم بأسبابِ السلامة وطرق الحكمة الشرعية بالمطلق التي قد تجنبهم الوقوع بأيدي المستبدّين والظَلمة، فالمسلمُ لا يتمنى لقاء العدو ولكن إذا لقيه صبر، و إنما أعني أنَّ أهل العلم في الملمات وعند المواقف وفي معرض البيان و الحاجة لا يسعهم السكوت كغيرهم من آحاد الناس، ولا يكون موقفهم الحياد كما يُقال، ولا يمكن أن يكونوا في المنطقة الرمادية، فقد أُخذ عليهم الميثاق بالتبيين للناس وعدم الكتمان  هذا من جهة، ومن جهة ثانية عليهم ألا يكونوا أدوات بأيدي الظلمة والطغاة يتكلمون حين يريدون، و يسكتون حين يطلبون، فهذا الذي لا يليق بأهل العلم بأي حال، ولا يوجد له أي تبريرأو تأويل ولو على أضعف الأقوال  .

 وختاماً على ذكر السلامة، سلامٌ من الله ورحمةٌ على عصام العطار في فراشه.. 

سلامٌ على كل حر شريف من أمثاله ممن عرفنا وممن لم نعرف. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى