بحوث ودراسات

رؤية استراتيجية للتعليم في الدول العربية

الدكتور السيد مصطفى أبو الخير

خبير أكاديمي في القانون الدولي
عرض مقالات الكاتب

    إن العرب اليوم يعيشون حالة عجز أمام التحديات العلمية التي يطرحها العصر، بعد أن كانوا مصدرا لنشر العلم والمعرفة في كل رجا من إرجاء المعمورة، فهم الآن مجرد مجموعات بشرية تحيي علي ماض خلفه الأجداد وتوقف عنده الأحفاد فلم يضيفوا إليه إلا قدرا ضئيلا، حتى غدوا مجرد مستهلكين لما ينتجه ويقدمه لهم الآخرون، أي عالة علي الآخرين(1).

     أن إصلاح نظام التعليم لا يكون بالاحتجاج علي الواقع ولا عدم الرضا عن النتائج والمقارنة مع الآخر واستيراد مناهجه وفلسفته التربوية والسير علي طريقته ولا بالافتخار بالماضي ومآثره لإخفاء نقص في النفوس وكسل في العقول. أنما يكون الإصلاح بالدراسة الميدانية بمناهج البحث الحديثة وتحديد موطن الخلل ودراسة أسبابه مع وضع خطة متأنية في زمن كاف وعدم استعجال النتائج، لأن التربية والتعليم تعتبر من الصناعات الثقيلة التي لا تظهر نتائجها في جيل واحد، لأن الإنسان هو أداتها وموضوعها، فيجب أن تعطى الخطط التعليمية فرصتها من الزمن الكافي، و يقوم بها أهل الخبرة والاختصاص و أصحاب العزائم العظيمة والهمم العالية وخلاصة الكفاءات مع توفير أفضل الإمكانيات وأعظم الميزانيات.

     لا يختلف اثنان على أن (نوعية) مستقبل أي أمة تتوقف إلي حد كبير على نوعية نظامها التعليمي، لذلك فإن العملية التربوية والتعليمية تعد أهم وأخطر عملية في بناء أي مجتمع، لذلك فهي أهم الجوانب التي يجب مراعاتها عند هندسة المستقبل فيجب الأ يستأثر بها شخص مهما كان أو مؤسسة أو وزارة أو تخصص أو جماعة أو فئة، فهي عملية متراكبة متراكمة ومستمرة تتطلب الكثير من التشاور والتخطيط وفحص الناتج من قبل كافة المتخصصين في العلوم الاجتماعية والإنسانية.

     لذلك ينبغي – في هذه المرحلة الحرجة بالذات- الاهتمام البالغ المتواصل بالعملية التربوية والتعليمية، والاستمرار في المراجعة وإعادة النظر والتقويم والنقد، وإيجاد البديل الملائم المنطلق من عقيدتنا مرجعيتنا الإسلامية، مع العلم بأن الاجتهاد الخاطيء لا يجوز أن يوقف بذل الجهد للارتقاء بالتعليم. وإبقاء ملف التعليم دائما مفتوح لمزيد من النظر والتقويم والمراجعة والمشاورة والنقد واقتراح البدائل والإفادة من التجارب. و أصلاح التعليم يحتاج لأكثر من بحث وأكثر من باحث(2).     

      يري معظم خبراء التعليم أن أي خطة لإصلاح التعليم عامة والجامعي خاصة لها أركان ثلاثة لابد من توافرهم، وهم:

  1. المرجعية: وهي الأيديولوجية التي تضم الفلسفات والقيم والمبادئ العامة، التي تقوم عليها العملية التعليمية ويستند عليها في تحديد الأهداف المرجوة. وغالبا هي القيم العليا السائدة في المجتمع(3)
  2. الأهداف: الغايات التي يرجى ويرمي تحقيقها والمتمثلة في تحقيق تنمية حقيقة للمجتمع، وهي عبارة عن (استبصار سابق ومقدم لجملة النتائج والغايات التي يمكن تحقيقها في ظل الإمكانيات المتاحة) وهي النواة الأساسية التي تتحرك في نطاقها عملية الإصلاح والتطوير للنظام التعليمي(4).
  3.  البيئة: وهي المجتمع الذي سوف تطبق فيه خطة التطوير أو عملية الإصلاح والذي يراد إصلاحه وتطويره، أي المكان الذي يقيم فيه الشخص المستهدف بالتعليم والإصلاح (5).

     يميل بعض الباحثين لحصر أركان خطة التطوير في ثلاثة عناصر تتمثل في الأهداف والوظائف والمكونات، مع استبعاد المرجعية أو الأيديولوجية التي تنطلق بناء عليها ومنها خطة التطوير والإصلاح، وهذا الرأي يجافي الصواب، لأن المرجعية قد تكون غير ظاهرة في الخطة، ولكن ليس معني هذا أنها غير موجودة، لأنها المشكاة التي تبني عليها الأهداف والغايات المرة من الخطة (6).

     ونحن نرى أن خطة الإصلاح المستقبلية لتطوير التعليم الجامعي تقوم علي أربعة عناصر رئيسية تتمثل في المرجعية والبيئة والأهداف والمكونات، وغياب أي ركن من هذه الأركان تفقد خطة التطوير والإصلاح جدواها وفائدتها وتصبح غير ذات جدوى، فهذه العناصر هي الأساس الذي تتكون منه أي خطة لإصلاح وتطوير التعليم سواء الجامعي أو قبل الجامعي.

     فالمرجعية هي القاعدة التي تنطلق منها الأفكار والمشكاة التي تخرج على أساسها الأهداف والغايات، والبيئة هي المجتمع المراد تطبيق الخطة فيه، فلا يتصور وجود خطة لإصلاح التعليم غير موجهه لبيئة معينة، علما بأن ما يصلح لبيئة معينة لا يصلح لأي بيئة، فالسبب الأساسي الذي أدي إلي فشل السياسات التعليمية في الوطن العربي أنها ولدت في بيئة مغايرة ومختلفة عن تربة وبيئة الوطن العربي، كما أن البيئة هي التي تعطي المعطيات التي تقوم بها وعليها الخطة، والأهداف تتمثل في الغايات المراد تحقيقا من وراء هذه الخطة، ولا يتصور وجود خطة أو عمل بلا أهداف،  ومكونات الخطة من المنطقي وجودها حتى يمكننا القول بوجود خطة للتطوير و الإصلاح.

     إن أي خطة لتطوير التعليم الجامعي أو غيره، تفقد أي ركن من هذه الأركان كأن تغيب عنها المرجعية السائدة في المجتمع المراد تطوير تعليمه، لا تنتج ثمرتها المرجوة وتكون وبالا على عدة أجيال في هذا المجتمع، وتفضي إلى تدهور خطير في هذا المجتمع، وهذا ما حدث في المجتمع العربي، استورد خططا وضعت لبيئات مغايرة لبيئته، فكانت النتيجة أن العرب احتلوا مؤخرة الأمم بعد أن كانوا أئمة وقادة وقيادة.

      فخطط التطوير للمنظومة التعليمية في مجتمع ما لا بد أن تكون نتاج معطيات ومنتجات وأفكار هذا المجتمع الذي يقوم علي مرجعية ما، فالنظم التعليمية الغربية لا تصلح للمجتمعات العربية لأنها خلقت لبيئة مغايرة لها من المعطيات والأفكار التي تخالف بل وتناقض أفكار ومعطيات البيئة العربية، فالنظم التعليمية لا تستورد وتستهلك مثل البضائع والأجهزة المنزلية لأنها تتفاعل مع المجتمع بمعطياته وأفكاره ومرجعيته والقيم السائدة في هذا المجتمع.

     فالنظام التعليمي المستورد يحمل بين طياته العديد من الآفات القاتلة أو الفيروسات التي تقضي على آليات مقاومة المجتمع المستورد، فينهار المجتمع وأهم هذه الآفات هي(7):

أولا – الانطلاق من مرجعية غريبة عن المجتمع المستورد وعن بيئة المتعلم وظروفه وتاريخه.

ثانيا – اختلاف الأهداف المراد تحقيقها من وراء تطبيق النظام التعليمي.

ثالثا – التجاهل التام لتركيبية بيئة المتعلم الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والجغرافية، فهو يسقط مشاكل غريبة علي البيئة المستوردة.

       سوف نقوم بإلقاء المزيد من الضوء على هذه الآفات.

أولا – الانطلاق من مرجعية غريبة عن المجتمع المستورد وعن بيئة المتعلم وظروفه وتاريخه: فالنظم التعليمية الغربية لا تصلح للدول العربية لكونها نظم علمانية لا دينية (تجريبية بحته ) لا تستند إلي مرجعية دينية فهذه النظم تنكر وتهمل كل ما هو غيبي ولا تعترف إلا بالمحسوس المدرك فقط (8)، فهي تعتنق الفكرة العلمانية وتأخذها موجهة للعملية التعليمية رسالة وأهدافا، فهي تفصل التعليم في جميع مراحله عن القيم والمبادئ الدينية، أيمانا بعدم صلاحيتها لتوجيه العملية التعليمية وإرشادها، علي خلفية وجود صراع مرير بين الدين والعلم، وذلك ناتج عن الظروف التاريخية التي عايشتها أوربا في العصور الوسطي من خلاف كبير بين الكنيسة والعلماء. وهو ما لم يحدث في المجتمعات العربية، فلم يحدث خلاف بين الإسلام وبين العلماء بل العكس هو الذي حدث، فالمسلمون الأوائل كانوا قادة وعلماء و سبب نهضة أوربا.

     فالنظم الغربية التعليمية تهدف لإيجاد مواطن مادي مستهلك كل همه الاستمتاع بكل ما يقدر عليه من ملذات الدنيا وشهواتها، أما الإسلام فيحرص على بناء المسلم الصالح المصلح الذي يفقه الدين ويفهم العصر ويعي مسئوليته الإنسانية، مع إدراك المتغيرات العالمية والتبصر بأسبابها، ومعرفة كيفية التعامل معها في إطار ونطاق الدور المنوط به تجاه نفسه وأمته والإنسانية، كما أن المسلم مطالب باستيعاب الواقع وبناء العقلية المنهجية التي تدرك السنن الناظمة للحياة وتقرأ جيدا الحركة التاريخية، مع الاعتبار بتجربتها والتجارب الأخرى من خلال المعايير التي اكتسابها من معرفة الوحي في الكتاب والسنة النبوية وعطاء الخلافة الراشدة. فالمسلم يدرك أن التربية والتعليم هي السبيل الأوحد للإصلاح والبناء والنهوض والتطوير والتغيير، وإقامة مجتمعات المستقبل.

     علمانية التعليم في الغرب جزء من علمانية الحياة الغربية في كافة جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والأخلاقية، وذلك لإقصاء الدين الكنسي وقساوسته عن جميع جوانب الحياة بسبب ما حواه هذا الدين من انحرافات في العقيدة والشريعة نتيجة تجاوزات الكنيسة وفساد ممثليه من رجال الدين وجهالتهم، بحيث أصبح هذا الدين الكنسي مفسدا للحياة ومعطلا لحركاتها ومفسدا للعقول ومانعا للتفكير السليم، ونتج عن ذلك وجوب نبذ هذا الدين والانسلاخ منه إذا أرادت أوربا تقدما وحضارة، وقد فعلت أوربا ذلك، ولم يحدث هذا بين الإسلام والعرب.

     وهناك طائفة من النظم التعليمية الغربية (الشيوعية سابقا) تعتنق مرجعية مادية جدلية، تقوم علي أن المادة الشيء الأصيل في هذا الكون، وأن كل ما في الكون منبثق من المادة ومحكوم بقوانينها ولا وجود للكون خارج المادة، فالمادة هي الخالق الذي أنشأ الحياة والإنسان وكل ما في هذا العالم من أفكار ومشاعر وعواطف، فالمادة هي المرجعية العليا التي توجه أهداف العملية التعليمية في كافة مراحلها، وقد مرت دول أوربا الشرقية (الشيوعية) بظروف مماثلة لما مرت به أوربا الغربية.

     وتقوم مرجعية المادية الجدلية على أساس مادي بحت ووجود تناقض في طبيعة المادة وفي كل ما ينتج عنها من مخلوقات وكيانات، فهي تنظر إلي القيم والمبادئ باعتبارها نتيجة الأوضاع الاقتصادية السائدة في المجتمع في فترة معينة من الزمن لذلك فهي متحركة غير ثابتة وتتطور بتطور الوضع المادي في المجتمع، فلا توجد مبادئ وقيم ثابتة أبدية، بناء عليه فلا يتأسس النظام التعليمي هنا على أي مبدأ أو قيمة إنسانية، لأن هذه الأمور كلها متغيرة ومرتبطة بالأوضاع الاقتصادية التي هي من صنع المادة.

     والحقيقة أن هذه المرجعية المادية الجدلية قد نشأت ردة فعل علي الفكرة الرأسمالية التي نشأت في أوربا الغربية، والتي تقوم علي تقديس الملكية الفردية وجعل الفرد محور ارتكازها وجل اهتمامها، لذلك انطلقت الشيوعية من فكرة أن الملكية الفردية هي أساس كل شر ومنبع كل جهل وتخلف، وأنها تؤدي إلي صراعات بين طبقات المجتمع فتدمر المجتمع وتهدر طاقاته، لذلك يجب الرجوع بالناس للملكية الجماعية، لكي تتخلص البشرية من هذه الصراعات وتعيش في سلام، فالمادة هي المرجعية وما عداها خرافة(9) ولذلك أطلقوا على الغيب (خرافة الميتافيزيقا) وان الدين أفيون الشعوب.

     ورغم أن الشيوعية انهارت كمرجعية سياسية وألقيت في مزبلة التاريخ، إلا أن الأيديولوجيات لا تموت في المجتمعات بسرعة، بل تظل باقية لفترات طويلة تحكم القيم والمبادئ في المجتمعات التي كانت تعتنقها، فالمجتمعات لا تتغير ما بين يوم وليلة وخاصة في الأيديولوجيات والمرجعيات، فالمرجعيات نتيجة تفاعل وهضم كافة العناصر التي تتكون منها المجتمعات فتحمل عبق التاريخ ومناخ البيئة وتضاريس الجغرافيا، لذلك لازالت هناك نظم تعليمية تستند لهذه الأيديولوجية.

     هناك اتفاق بين المرجعتين العلمانية والمادية الجدلية في إقصاء الدين عن الحياة عامة و النظم التعليمية خاصة إلا أنهما اختلفا في أن الأولي لم تقصيه عن الحياة الخاصة للفرد وجعلته شأنا فرديا خالصا، أما الثانية فقد أقصته عن كافة جوانب الحياة ولا حتى في حياة الأفراد الشخصية، فلا مكان للدين في أي جانب من جوانب الحياة في المرجعية المادية الجدلية. وقد وصلت المجتمعات التي أخذت بهاتين المرجعتين إلي حافة الهاوية بل انهارت المادية الجدلية بالدول الشيوعية(10).

     إن نظرة فاحصة للنظم التعليمية السائدة في الوطن العربي تظهر بوضوح غربة مرجعيات هذه النظم عن المجتمع العربي بيئة وظروف وتاريخ، فهي نظم مستوردة وافدة علي المجتمع والبيئة العربية، غرسها الاستعمار وترك من يرعاها ويبذل كل غالي ونفيس يملكه المجتمع العربي في سبيلها ومن أجلها، رغم علم كافة أفراد هذا المجتمع علماء ومتعلمين وأميون أن هذه النظم التعليمية من بقايا الاستعمار، الذي لا يريد لهذا المجتمع أن ينهض ويتقدم. أي أنها وليدة بيئة مختلفة عن بيئة المجتمع العربي الذي كان الإسلام هو القيم والمهيمن علي كافة نواحي الحياة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية، فلم يحدث صراع مثلما حدث في الغرب، فالبيئة العربية مختلفة عن البيئة الغربية في كل ناحية من نواحي الحياة، فلم يعش العربي صراعا مع الدين الإسلامي بل حدث العكس فقد احتضن العرب الإسلام دينا ومنهجا للحياة، وسرى الإسلام فيهم مسرى الدم في الجسد.

      لذلك ينبغي أن يكون الإسلام هو المرجعية والمشكاة التي تعتمد وتستند وترجع إليه النظم التعليمية في المجتمعات الإسلامية والعربية، حتى تؤتي ثمارها المرجوة، فلن ولم يصلح حال هذه الأمة إلا ما حصل حال أولها.

ثانيا – اختلاف الأهداف المراد تحقيقها من وراء تطبيق النظام التعليمي: أن أي نظام تعليمي لا بد أن يكون له عدة أهداف يرجى تحقيقا من وراء تطبيقه، وتنطلق وتخرج هذه الأهداف والغايات من المرجعية فهي بمثابة القاعدة التي تنطلق منها هذه الأهداف والغايات، وعادة يوجد هدف أسمي لأي نظام تعليمي يتمحور حوله النظام بجانب عدة أهداف ثانوية، والهدف الاسمي في النظم التعليمية هو الإنسان وخلق مواطن صالح يتحدد من خلال وبناء علي ما تنطق به المرجعية للنظام التعليمي.

     فالنظم التعليمية الغربية تهدف إلي تكريس الاهتمام والمحافظة علي الملكية الفردية والدفاع عنها بكل مر تخص وغال، وهذا مبدأ لا منازعة فيه ولا مناقشة له فهي تعمل جادة علي غرس النزعة الفردية والاهتمام بالمصلحة الفردية في نفوس الأفراد، وعلي الفرد أن يكون جادا في تحقيق رغباته وشهواته المتعددة والمختلفة بكافة الطرق والوسائل المحرمة وغير المحرمة، فالغاية تبرر الوسيلة، من أجل ذلك أعتبر العمل في هذه المجتمعات مقدسا مهما قل شأنه لا لشيء إلا لأنه يحقق للفرد نفسه إشباع رغباته وشهواته، ويقاس نجاح العمل في الغرب بنتائجه المادية وما يدره من دخل مادي، كما تقاس قيمة القيم والمثل الإنسانية بما تحققه من كسب مادي. وألا فلا مكان لها في تعاملات الأفراد داخل المجتمع.

     فأن النظم التعليمية في هذه المجتمعات تصمم علي أن الحياة الدنيا هي الأساس عملا بالآية القرآنية ( إن هي ألا حياتنا الدنيا نوت ونحيي فيها وما يهلكنا إلا الدهر) وذلك من وحي مرجعيتهم العلمانية التي أقصت الدين عن الدنيا فلا دور للدين في التوجيه والإرشاد، فالمرشد والدليل في هذه المجتمعات هي المصلحة الفردية بعيدا عن القيم والمبادئ والمثل الإلهية.

     وتهدف النظم التعليمية التي كانت سائدة ولا زالت في أوربا الشرقية التي تعتنق المادية الجدلية مرجعية لها، إلي غرس النزعة الجماعية في نفوس أفرادها لإنتاج مجتمع مادي ولكنه جماعي، عن طريق تقديس الملكية الجماعية ومصادرة الملكية الفردية التي هي – في اعتقادهم – مصدر كل الشرور والآثام، ولا مكان هنا للقيم والمثل الدينية في أي مكان في المجتمع ولا في نفوس الأفراد، فلا وجود لها مطلقا، لان وجودها يعتبر حجر عثرة في إقامة مجتمع مادي جماعي، ومثل هذه المرجعيات قتلت روح المبادرة والابتكار والإبداع فأنتشر الكسل، لان ثمار كد الكادح ليست له بل للمجتمع بأسرة.

     مما سبق يبين أن الأنظمة التعليمية السائدة في كل المجتمعات الغربية تهدف إلي تحقيق أهداف مادية بحته من خلال إنتاج فرد علماني مادي ومجتمعات كذلك، وكلاهما خالي من القيم الدينية التي تغذي الروح ترتقي وتسمو بالإنسان، فهذه الأنظمة اختلفت في الهدف الأسمى والأعلى ولكنها اتفقت علي المبدأ المتمثل في خلق إنسان مادي ومجتمعات علمانية مادية، فالنظم الغربية ركزت علي الفرد بينما ركزت المجتمعات الشرقية علي الجماعة، فالخلاف ينحصر في نقطة البدء، والنتيجة واحدة.

     ولقد أدركت الشريعة الإسلامية الأهمية القصوي للتربية والتعليم، فجعلتها نقطة الانطلاق في المعالجة والنهوض والتغيير والإصلاح للواقع، حيث يبدأ ذلك كله من نظم التربية والتعليم بمفهومها الواسع وتنتهي إليها، رغم أهمية نواحي الحياة الأخرى السياسية والاقتصادية فالتربية والتعليم هي السبيل الأوحد لإصلاح والتغيير والنهوض والتقدم وإقامة أي حضارة أو مدنية.

     من أجل ذلك لم يبدأ الوحي في الإسلام بالأمر بالدعوة إلي فرائض الدين، فلم تبدأ الدعوة الإسلامية بالأمر بالجهاد في سبيلها لأن الجهاد بلا علم يؤدي إلي هدر الطاقات في غير موضعها، كما لم تبدأ بالأمر بالعبادات (الشعائر) من صوم وصلاة وحج وزكاة، لأن الدعوة إلي العبادات بدون علم تقود إلي الشرك والوثنية والبدع وتكرس الجهل والتخلف، والدعوة للإسلام بدون علم دعوة بلا بصيرة وحكمة، فالعلم والتعليم والتربية هم المدخل الصحيح والوحيد لمجمل الدين الإسلامي.(11)

   يذهب البعض إلي وجود تعارض بين العلم وثقافته وبين الدين وشريعته، ظنا منهم أن المشتغلين بالعلم هم علمانيون أو ماديون وبالتالي فهم منحرفون، ويظهر خطأ ذلك واضحا جليا في العشرات من الآيات القرآنية والعديد من الأحاديث النبوية الشريفة التي تدعو إلي طلب العلم وإعمال العقل، فقد اعتبراهما الإسلام فريضتان من الفرائض التي يأثم ويذنب المسلم إذا تركهما و لم يحرص عليهما،  وقال أحد العلماء (لا خير في علم بلا دين، ولا دين بلا علم )(12).

     إن الإسلام يشكل دين الأغلبية في الوطن العربي، وكان ومازال وسوف يظل مصدر السعادة والرخاء والرفاهية والتقدم ليس للوطن العربي فقط ولكن للإنسانية جمعاء، كما أنه لا خلاف بينه وبين العلم ولا يناهض النفس البشرية ولا يحاربها، لأنه منزل من خالق الإنسان، والأكوان فلا تضاد ولا خلاف، بل توافق وانسجام وتناغم لا تجده في أي مرجعية من إبداع الإنسان، فالإسلام رسالة رب الناس وخالقهم إليهم، بين لهم فيه كيفية استعمار الأرض والعيش فيها بتوافق وتناغم ووفاق وليس بالحرب والصراع مع الطبيعة التي خلقت من أجل الإنسان وليست هي التي خلقته، كما أنها لا تقوم علي الصدفة البحتة بل خلقت علي أسس ونظريات علمية متقنة لا مكان للصدفة البحتة فيها.  

     لذلك يجب بناء نظام تعليمي يصدر عن مرجعية إسلامية، مرجعية الوحي الإلهي الكامل في ضبط القيم وتحديدها، وعن مرجعية العقل الإنساني الجزئي المدرك للفطرة والسنن الكونية والتعامل معها بقبس إلهي، هادفا من ذلك إعداد فرد صالح ومجتمع صالح متكاملا بين الوحي الإلهي والعقل الإنساني السليم، بدلا من النظم التعليمية المستوردة الوافدة.

ثالثا: التجاهل التام لتركيبية بيئة المتعلم الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، فهو يسقط مشاكل غريبة علي البيئة المستوردة:   

    النظم التعليمية الوافدة وضعت لتطبق في بيئتها فلا تصلح لغير بيئتها، لأنها صدرت بناء علي المعطيات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والجغرافية للمتعلم، وهذه المعطيات الفكرية وغيرها تختلف من مكان لأخر ومن مجتمع لأخر، فما يصلح لمجتمع لا يصلح لغيره، بل قد يكون وبالا علي هذا المجتمع وهو ما حدث في الوطن العربي، حيث خرجت النظم التعليمية الوافدة أجيالا منفصلة تماما عن واقعها وتاريخها وحضارتها بل أن هذه الأجيال أصبحت عدوة لبيئتها ومناهضة لها، ووصل الأمر بهذه الأجيال أن تتبرأ من مجتمعاتها وتاريخ العريق الطويل الذي قامت الحضارة الغربية علي أكتافه.

     وقد أكد على ذلك العالم المصري علي مصطفى مشرفه فقال( يجب علي الأمم المتحضرة أن تكون لها ثقافة مرتبطة بتاريخ الفكر العلمي فيها، أن حياتنا العلمية في مصر بحاجة إلي الالتحاق بماضينا لاكتساب القوة والحياة والضوابط اللازمة، فنحن في مصر ننقل معارف الآخرين ثم نتركها عائمة دون صلة بماضينا ولا احتكاك بأرضنا، فهي بضاعة أجنبية غريبة بملامحها، غريبة بكلماتها، غريبة بمفاهيمها، فإذا ذكرنا النظريات ربطناها بأسماء أجنبية لا نكاد نعرف ملامحها، وإذا تحدثنا عن المفاهيم استخدمنا كلمات مخيفة تطرد الأفكار وتعكر الخيال، علينا أولا أن ننشر الكتب العلمية التي ألفها العرب وترجمها الأوربيون، مثل كتب الخوارزمي والبيروني والبتاني، وغيرهم من قادة الفكر العلمي وكبار الباحثين… ومن جهة أخري تجب العناية بتكريم علمائنا وباحثينا القدماء، فيكون ذلك حافزا لنا لتقليدهم والسير علي خطاهم ).

     إن النظام التعليمي المثالي من وجهة نظر الدكتور مشرفة ينبغي أن يتأسس على تقاليد وطنية في البحث خاصة في الفيزياء والرياضيات، وعلى إنشاء وتنظيم جماعة الباحثين الرياضيين والفيزيائيين، ويلزم لقيام هذا النظام من وجهة نظر مشرفة الخطوات التالية:

  1. إنشاء مؤسسات البحث العلمي.
  2. تعريب العلم والتعليم العلمي.
  3. إنشاء مكتبة علمية عربية.
  4. الاهتمام بالثقافة العلمية وبنشرها علي مستوي المجتمع بكاملة.
  5. التعليم والبحث في تاريخ العلوم، وخاصة في التراث العلمي العربي، لكي يتم الأنصال الثقافي والعقائدي (الأيديولوجي) مع الماضي.
  6. إقامة روابط بين البحث التطبيقي والصناعة(13).  

      وقد ترتبت آثار عدة علي النظم التعليمية الوافدة علي الوطن العربي والإسلامي، فقد آثرت ولا تزال تأثر في الأجيال ونظرتها إلي دينها وقيمها وعلاقتها بالبيئة والوطن، فقد تم إسقاط واقع وأزمات ومعطيات المجتمع الغربي العلماني المشرك والملحد علي المجتمع العربي والإسلامي رغم اختلاف الواقع والمعطيات والأفكار والأزمات مما نتج عنه أحساس أجيال المجتمع العربي والإسلامي بالغربة داخلهم وداخل المجتمع، فقد آمنت هذه الأجيال المخدوعة بأفكار ومبادئ الغرب منها ضرورة فصل الدين عن الحياة، وفهمت هذه الأجيال الإسلام فهم الغرب للأديان، لذلك خرجت أجيالا تعاني من انفصام واضطراب وتخبط في الفكر والحياة.

      لقد خرجت هذه النظم الوافدة أجيالا طليقة من كل قيد، عديمة المسئولية، لا تستطيع تحمل أي مسئولية، لذلك تري الفرد منهم مهما بلغ من العمر لا يمكن الاعتماد عليه، حتى إذا عمل في مكان تجده يأخذ من هذا العمل السلطة ويترك المسئولية يتحملها المجتمع فهي أجيال غير سوية نفسيا واجتماعيا مضطربة قلقة مهزومة من الداخل لأنها تربت وتعلمت علي تفوق الآخر والغير، فأصبحت هذه الأجيال تنظر إلي نفسها وتاريخها العريق الطويل المثمر نظرة دونية، وعمدت علي جلد الذات بدلا من العمل علي إصلاحها وتهذيبها، فأصبحت بلا هوية أو عنوان وأصبحوا أعداء لمجتمعاتهم أذباب للغرب، ومن سوء حظ المجتمعات العربية والإسلامية أن طائفة من هذه الأجيال تقلدت وأمسكت بمقاليد الحكم والسلطة السياسية في الدول العربية والإسلامية فكانت الطامة الكبرى علي هذه الأجيال والأوطان. وليس أدل علي صدق ذلك إلا الواقع الذي نعيشه ونحياه الآن،  فقد كان تبني النظم التعليمية الوافدة من أهم مخططات وأهداف الاستعمار(14).

     وقد نتج عن النظم التعليمية الوافدة أن تفشت في المجتمعات العربية والإسلامية النزعة الفردية الأنانية، وقلبت المعايير والمفاهيم، وغابت عن هذه المجتمعات قيم الصدق والأمانة والشهامة وحتى الرجولة غابت، وحلت محلها خصال الكذب والخيانة والرشوة والفساد واختلاس الأموال العامة( وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس)، وقد جر ذلك كله علي هذه المجتمعات التخلف والفقر فأصبحت قارة إفريقيا أغني قارات العالم أفقر قاراته، انتشرت الأمراض الاجتماعية الخطيرة مثل الكذب والدجل والرشوة والفساد والأنانية وعدم المسئولية، و نتج عنه الحروب الأهلية والدموية التي تجتاح أغلب دول القارة الإفريقية.

     ويمكن تلخيص تلك الآفات وإجمالها في الآتي:

  1. الفهم المقلوب للدين الإسلامي، فقد التبس فهم حقيقة الإسلام والفرق بينه وبين النصرانية المحرفة واليهودية المخرفة، واعتقد خطئا وجود صراع بين الإسلام والعلم كما حدث بين النصرانية والمجتمعات الأوربية حتى نادي البعض منهم بضرورة قيام حركة إصلاح للإسلام كما حدثت للنصرانية المحرفة في أوربا.
  2. سيادة قيم التخلف واستيلائها علي الشباب في المجتمعات العربية والإسلامية وانتشرت الأمراض الاجتماعية الخطيرة مثل الكذب والنفاق والفساد والرشوة والأنانية والحقد والمحسوبية وسوء استغلال المناصب علي أعلي المستويات إضافة إلي الكسل وحب الراحة والدعة والعيش عالة علي الآخرين، غياب القيم الإسلامية مثل النظام والانضباط والأمانة والصدق وحب العمل وإتقانه والشعور بالمسئولية الشهامة والرجولة والعفة والطهارة.
  3. الانبهار بكل آت أو وافد من الغرب، والإعجاب بالحضارة الغربية، مما أورثهم شعورا بالهزيمة الداخلية فضلا عن عقد نفسية وفكرية واجتماعية، مما جعلهم غرباء في أوطانهم بل وغرباء داخل أنفسهم من ثم فقد عجزوا عن حل مشاكل مجتمعاتهم وانهاروا وانهارت تلك المجتمعات معهم. يصدق عليهم قول الشاعر ( تاه الدليل فلا تسل لما تاهوا )

     تأسيسا وترتيبا علي ما سلف فإن النظام التعليمي البديل، يجب أن يتسم بسمات ثلاث أساسية هي:

1 – وضوح المرجعية، وصلاحيتها للقيومية والهيمنة علي الحياة.

2 – وضوح الأهداف وجلاؤها وانبثاقها من وحي المرجعية الإسلامية.

3 – ملائمة الواقع وتلبية ضرورياته وحاجاته الأساسية. (15)

                                     المراجع

1- د/سليمان إبراهيم العسكري، ثقافة العلم.. ثقافة المستقبل، مقدمة كتاب العربي رقم 67 يناير2007م،  بعنوان الثقافة العلمية واستشراف المستقبل، ص 5.

2 – الأستاذ / عمر عبيد حسنه، تقديم كتاب الأمة رقم (63)السنة الثامنة عشر مايو1998م بعنوان النظم التعليمية الوافدة في أفريقيا قراءة في البديل الحضاري، للدكتور قطب مصطفي سانو، ص10- 38.

3 – د/عبد العزيز السنبل ود/محمد شحات الخطيب ود/مصطفي محمد متولي

ود/نور الدين محمد عبد الجواد، نظام التعليم في المملكة العربية السعودية، دار المخزنجي للنشر والتوزيع، الرياض عام 1992م، الطبعة الثالثة، ص 18.

4 – د/سرحان الدمرداش ود/ كامل منير، المناهج، مكتب النسر، القاهرة، عام 1991م، الطبعة الرابعة، ص46.

5 – د/عبد الرحمن صالح هاني، الإدارة التربوية، بحوث ودراسات، عمان، الجامعة الأردنية، ص 51 وما بعدها.

6 – د/قطب مصطفي سانو، النظم التعليمية الوافدة في إفريقيا قراءة في البديل الحضاري، كتاب الأمة، إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، قطر، العدد63، السنة الثامنة عشرة، مايو1998م ص، 45.

7- د/ زغلول النجار راغب، أزمة التعليم المعاصر وحلولها الإسلامية، الدار العالمية للكتاب الإسلامي، الرياض، عام 1995م، ص، 70.

8 – محمد قطب، مذاهب فكرية معاصرة، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثانية، 1987م، ص 445.

9- د/ قطب مصطفي سانو، المرجع السابق، ص، 50- 60.

10- الأستاذ / عمر عبيد حسنة، المرجع السابق.

11- د/حامد عمار، الثقافة العلمية واستشراف المستقبل العربي رؤية بانو رامية، كتاب العربي السابق، ص 10.

12- د/قطب مصطفي سانو، النظم التعليمية الوافدة في إفريقيا قراءة في البديل الحضاري، المرجع السابق، ص، 109- 111.

13 – الأستاذ / رشدي راشد، توطين العلوم في المجتمع العربي دراسة تاريخية        تحليلية، بحث في كتاب العربي رقم (67) ص، 38- 40.

14 –د/ محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، مكتبة الآداب، القاهرة، الجزء الثاني، 1957م، ص، 216.

15 – د/ قطب مصطفي سانو، المرجع السابق، ص، 106-108.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى