ثقافة وأدب

سيرة الأميرة ذات الهمة،الحلم والرسالة..

زهير سالم

مدير مركز الشرق العربي
عرض مقالات الكاتب

سيرة الأميرة ذات الهمة …الحلم والرسالة
السيرة الشعبية هي شكل من أشكال التعبير عن الأحلام الشعبية المختزنة ، والتطلعات الضبايبة التي غالبا ما يتم تكثيفها وتجسيدها على أيد كتاب مجهولين، على جمالية الإبداع وفرادته وأهميته ..
يظل ضياع أسماء مؤلفي السير الشعبية لغزا ثقافيا وأدبيا قائما بذاته يستحق من الدارسين الكثير من البحث والتنقيب.
كل السير الشعبية المشتهرة في تاريخنا الشعبي، لا يُعلم مؤلفوها ولا كاتبوها، ولكن كل من قرأ هذه السير يعلم أنها قد كتبت بخلفية إسلامية، وأخلاقية مثالية، حتى تلك التي أرخت لحيوات شخصيات جاهلية ، كانت بعيدة عن الإسلام زمانا ومكانا ..
سير كتبت في مرحلة تاريحية، ربما غلب عليها الانكسار ، ربما على سبيل التعويض، وربما إرضاء لما يفتقده الضمير الشعبي، ولما يتطلع إليه في حياته من مثل وقيم .
في حديثي عن مجموعة السير الشعبية ، وقد أتيح لي في طفولتي المميزة أن أقرأها جميعا وأنا ابن عشر سنين تقريبا، سأوضح أمرين مهمين ، أن حظ الحقيقة التاريخية العلمية في مقاربة هذه الشخصيات في تلك السير ضئيل وضئيل جدا. بل أحيانا تكاد تكون الحقيقة مشوهة في السيرة الشعبية ، فمكانة آل الربيع بن زياد ، وعمارة الوهاب ، الذين تلقبهم العرب “الكملة ” لكمالهم وأصالتهم ، نراهم سيرة عنترة بن شداد مثيرين السخرية والضحك وهم موضع الاستهزاء في كل مشهد يذكرون فيه. لأن كاتب السيرة جعل من عمارة منافسا لعنتر على قلب عبلة.
من الجميل أن أذكر لكم أن واضع سيرة عنترة قد جعل له ثلاثة من الأولاد : ميسرة وغصوب والغضبان ، وكان من الضروري للسير الدرامي أن يصارعوا أباهم قبل أن يتعرفوا عليه ويتعرف عليهم، وأن يجد صعوبة في الانتصار عليهم ، ثم جعل له بعد موته ابنة ” أنثى ” اسمها عنيترة ، فأي دلالة في هذا في واقع عربي غارق في الذكورية ؟؟ ابنة انثى تحمل رفات أبيها على جمل، وتدور به على قبائل العرب طلبا لثأره !!! تنبيه مباشر على ما يمكن أن تكون عليه الأنثى المرغوب عنها ، في البيئة التي تقرأ فيها السيرة ..
الأمر الثاني هو أن جل السير الشعبية كتبت حول شخصية كان لها وجود تاريخي حقيقي . سيف بن ذي يزن ، عنترة بن شداد ، الظاهر بيبرس، ولكن شخصية مثل ” الأميرة ذات الهمة ” فهي مجرد تجلٍ مثالي قائم في فراغ الزمان والمكان.
كل شخصيات سيرة ذات الهمة هي شخصيات فنية مبتدعة ، من إبداع كاتب السيرة ..
” الأميرة ذات الهمة ” بسيرتها الجميلة المتألقة تعبير عن شوق لعالم مفقود. لم يستطع أحد من المؤرخين أن يحدد بعدا تاريخيا ولا بشريا لشخصيات سيرة الأميرة ذات الهمة …
كل الذي نعرفه عن الزمان أن أحداث السيرة تجري في العصر العباسي نظرا لذكر الخليفة في بغداد مرات ومرات في سياق السيرة .
الميدان الذي تدور فيه أحداث السيرة هو حدود الدولة البيزنطية، بين بلاد الشام والأناضول ، قبل قيام الدولة العثمانية بقرون ..وكثيرا ما تذكر مدينة “ملاطية ” كمركز من المراكز الذي يدور حوله الصراع . مدينة ما تزال لها مرتسمها في الواقع الجغرافي . وربما دراسة المراكز الجغرافية في السيرة يستحق من يتفرغ له.
تقوم فكرة السيرة على قيام تجمعا للجيش الإسلامي بقيادة امرأة لقبها “الأميرة ذات الهمة ” ومساعدة ولدها ” الأمير عبد الوهاب” ومساندة مدير مخابراتهم ” أبو محمد البطال ” مع مجموعة ضخمة من المجاهدين المتطوعين على القيام بفريضة جهاد الدفع وجهاد الطلب – تحت ظل الدولة العباسية- في تلك المنطقة ، حيث تدور رحى معارك الكر والفر بين المسلمين والروم .
وتوقفنا عند هذه السيرة هنا يرتكز على أهمية أن يخترع كاتب هذه السيرة ، أو مبدعها كما نقول في العصر الحديث شخصية نسوية ، لقيادة هذا العمل الجهادي الضخم الذي يدور على مدى ثماني مجلدات ضخام ، وفي تفاصيله الكثير من السفر والحضر ، والحرب والسلم ، والكر والفر ، وفي أكثر المواطن تثبت “الأميرة الأم ” أقصد ذات الهمة ، أنها الأكثر حكمة وصوابية من ولدها الأمير عبد الوهاب الذي كان قائدا شديد الشكيمة ، ولكنه ظل الشخصية الثانية في السيرة، ودائما تكون الأميرة الأم الأشد ساعدا ، والأقدر على الانتصار على عنيد الأقران !! فأي رسالة أراد كاتب السيرة إرسالها للمجتمع من تقديم صورة عملية : للمرأة القائد الأحكم والأمضى والأقوى؟؟؟!! ثم كيف تقبل المجتمع هذه الصورة ؟؟!! وتعشق هذه السيرة؟؟ وكيف أوصى الكثير من الدعاة في العصر الحديث بقراءتها كأنموذج ، وهي أنموذج عملي حركي لكسر النمط الذكوري ، الذي لو حاوله أحدنا اليوم ، لصدرت بحقه مراسيم الحُرم الكبير والصغير ..
ونتساءل في مواجهة هذه الحقيقة ، هل كان كاتب سيرة عنتر بن شداد ، ومخترع شخصية الابنة ” عنيترة ” التي تأخذ بثأر أبيها بنجاح، صاحبَ رسالة تنويرية يرسلها للمجتمع الذي ظل حتى عهد قريب إذا بشر بالأنثى اصفر واربد ..كان صاحب الرسالة في سيرة عنتر يقول إن الابنة عنيترة قد تكون جميلة وقوية وتنفع أباها بل وتأخذ من ثأره ما لم يستطعه إخوته الذكور ..!!
ثم أحب صاحب هذه الرسالة، أن يكمل رسالته ، فأبدع شخصية الأميرة ذات الهمة، المجاهدة القائدة الحكيمة المدبرة المنتصرة دائما، والتي كان بانتصارها انتصارا للإسلام والمسلمين …
الأميرة ذات الهمة هي الأنموذج المفقود في عالم النساء المسلمات
..وحين لم ينجبها واقع المسلمين، أنجبها خيال رجل مبدع منهم ، فأشبع تطلعات حيرى تردد في قلوب الملايين على مر العصور …
أشكر كل الذين ذكروني بالأمس بمعاجم المسلمات من راويات الحديث، ولم أغفل في مقالي عن التذكير به …
وكلنا نحفظ حديث ” ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ” ولكن من يفهمه في إطاره كنص شرعي ، بحيث لا يتعارض مع أنموذج ملكة سبأ التي قادت قومها إلى الفلاح يوم قالت بعقلها الرشيد ” رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين”
من أجمل ما دعا به رسول الله لابن عمه ابن عباس رضي الله عنه : اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل …
اللهم فقهنا في الدين وعلمنا التأويل ..
لندن : 9 رمضان / 1442 – 21/ 4/ 2021
زهير سالم : مدير مركز الشرق العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى