مقالي هذا يختلف في عرضه وطريقة طرحه عن كل ما سبق من مقالات لكنه يسير بالنهج نفسه الذي اتبعه من حث للفكر وإعمال للعقل .
وردني قبل فترة قصيرة مقطع فيديو في إحدى المدارس الإبتدائية و قد تجمع الطلاب في باحتها كأنهم قطيع ذاهب للذبح ويدور بينهم جزار بعصا التأديب ، لا يترك واحداً منهم إلا ويناله من هذه العصا الألم والصراخ ، سادية تشبع غريزة ذاك الجزار وقد تم وصفه بالمدرس والمربي والمعلم لكن هيهات …هيهات أن تنطبق عليه هذه الصفات .
فمهما كانت خطيئة هؤلاء الطلاب و مهما عَظُمت جريرتهم فلا يمكن أن تقابل بتلك السادية من هذا الرجل و كأنه ينتقم منهم ،فربما أكلوا مال والده ، وربما كانوا خطراً عليه وربما ….وربما .
إن زراعة الخوف من الخطأ وشدة العقاب عليه مهما كان هذا الخطأ لهو أشد خطراً على بناء الأمة ، فلا يوجد معصوم من الأخطاء سوى الأنبياء ، وتصحيح الخطأ لا يكون بخطأ أكبر ، فأين التعليم من الخطأ ، وأين زرع الثقة في الطلاب ، وأين القدوة الصالحة ؟
المدارس للتربية والتعليم وليس للعقاب والتجريح ، فلا يمكن لسادية شخص ما أن تنشأ جيل واعِ ومدرك لمخاطر الأمة ، ولا يمكن للعقاب أن يصلح فساد الأخلاق .
وكعادتي أتابع أولادي في تعليمهم وكذلك في أحوالهم العامة ونتكلم في أصغر الأمور و أهمها ، بالطبع الغاية التوجيه والإرشاد .
هذه الحادثة أعادتني لموقف روته لي إبنتي البالغة ثلاثة عشرة ربيعاً حصلت معهم في مدرستهم ، فهم بالإضافة لباقي العلوم يدرسون مادة تسمى المواطنة ( Citizenship ) أو ( Obywatelstwo ) في هذه المادة يعطونهم فكرة كاملة عن معنى المواطنة وكيفية ممارسة الفرد لحقوقه وعدم تعديه على الأخرين والوصول بالبلد لمصاف الدول المتقدمة و المتطورة بالطرق الديمقراطية الصحيحة وحرية الإختيار .
فيما روته لي : أنه في أحد الدروس طلبت المشرفة منهم أن يتوافق كل إثنان أو أكثر على العمل معاً ، فتم الإختيار وشرحت لهم أن تعتبر كل مجموعة نفسها حزباً يريد الوصول للبرلمان والحكومة وعليهم أن يتصرفوا على هذا الأساس .
وبدأ كل فريق بالعمل وفق المنهج الذي درسوه سابقاً ، فقاموا بإختيار إسماً للحزب يعبر عن رؤيتهم هم ووضعوا له إختصاراً وكذلك شعاراً إختاروه بأنفسهم ، ثم حددوا الرؤية العامة للحزب من خلال أفكارهم و أهدافهم التي يريدون الوصول لها ، وضعوا كل هذا على ورق وجعلوه كورقة عمل ( بوستر إنتخابي ) وقاموا بتوزيعه على الأخرين ، تعددت الأفكار التي طرحوها بتعدد رؤيتهم .
و أتت لجنة مصغرة من المدرسة لتتابع هذا العمل و كان على كل حزب أن يقوم بطرح ما لديه وشرحه أمام الجميع و أن يجيب على التساؤلات حول كيفية التنفيذ و أليته .
بعد العرض السابق يتم إجراء إنتخابات فيما بينهم لاختيار الحزب الذي يعبر عن تطلعات ورغبات الطلاب ، وبعد نجاح الحزب بمعدل الأصوات الأعلى عليه أن ينتقل للغرفة الأولى ( المجلس الأولي ) ليشكل الحكومة ويقود البلد وفي حال عدم إمتلاكه الحد الأدنى للتشكيل يجب عليه أن يتحد مع أحزاب أخرى ليستطيعون قيادة الحكومة وبالتالي ينتقلون للغرفة الثانية ( تحالف الأحزاب ) .
أين نحن من كل هذا ؟ هل فُرض علينا أم فرضناه على أنفسنا ؟ وهل نحن قادرون على كسر الطوق ؟
إن بقي لدينا مثل ذاك المدرس يزرع الخوف لدى الطلاب فسنبقى تحت نير الاستعباد ، وإن تصرف هذا السادي مع كل الطلاب بالطريقة نفسها فلا أمل من الوصول لحياة حرة شريفة ، إن هؤلاء الطلاب أمانة لدى المدرسين ولا يحق لهم بحال من الأحوال تعنيفهم بهذا الشكل ، فالوصول للمجتمع الصحيح يكون بالتعليم ، والوصول لمعرفة الحقوق والواجبات يكون بالتجربة .
إن بناء المجتمعات يكون ببناء الأفراد ،ذاك البناء القوي ذو الأساس المتين المبني على الفهم والإدراك وليس الخوف والعقاب .
فالمجتمعات العربية متمرسة بزراعة كل فاسد ، ومجتهدة بتحطيم كل هادف ،أفلا ينبغي للطوق أن ينكسر ، ولليل أن ينجلي ، وللشمس أن تسطع؟!