مقالات

ميشيل كيلو بين الإسلاميّين والعلمانييّن

يوسف الحمود

كاتب وباحث سوري
عرض مقالات الكاتب

نعت وسائل الإعلام المعارضة وكثير من المواقع العربيّة ووسائل التّواصل الاجتماعي المعارض والمفكّر ميشيل كيلو الّذي قضى نحبه بسبب إصابته بفيروس كورونا، وذلك في العاصمة الفرنسيّة باريس بعد أن وجّه رسالة جيّدة ومليئة بالنّضج والنّصح الوطنيّ للسّوريّين للاجتماع على هدف الوطن الواحد والرؤية السّياسيّة الموحدّة الّتي تشكّل صمّام أمان وطني ووحدوي بين القوى والإثنيّات والقوميّات السّوريّة، وقال بأنّ النّظام أكبر مستفيد من الخطابات الإقصائيّة الإيديولوجيّة في مشروع الثّورة والمواجهة، وأنّ المشاريع الأخرى هي مشاريع تفتيتيّة تضرّ بالجميع وتفوّت فرص المشروع الوطنيّ وهي نصيحة قائمة على تجربة وعمق سياسيّ واضح من خلال هذا الخطاب، ولكن لابدّ من الوقوف أمام ظاهرتين: ظاهرة ميشيل كيلو المثقّف والسّياسيّ والمناضل، وظاهرة سلوك المؤيّدين والخصوم للرّجل الرّاحل. 

عرفتُ ميشيل كيلو عن قرب منذ ربيع دمشق ثمّ توطّدت العلاقة معه ومع بعض السّياسيّين والناشطين السّوريين إبّان لجان إحياء المجتمع المدنيّ، وسمعته محلّلاً ومحاضراً ومحاوراً، ولا يمكن إخفاء قدر وقيمة الرّجل ومهاراته المعرفيّة والثّقافيّة والسّياسيّة، فهو مثقّف نوعيّ واسع الاطّلاع على الثّقافة العربيّة الإسلاميّة وعلى التّاريخ الأوربيّ، وعلى تجربة الأحزاب السّوريّة والعربيّة، ومتابع عميق في الشأن السّياسيّ الإقليميّ والدّوليّ، وهذه حقيقة يدركها كلّ من كان على صلة بميشيل كيلو، وهذا نفسه ما جعل كثيراً من المثقّفين والسّياسيّين العرب والغربيّين شديدي الإشادة بشخصيّة الرّاحل، غير أنّ الدوغمائيّة العربيّة الّتي تتوزّع على الخارطة السّياسيّة والثّوريّة لها اتّجاه آخر، وهذه الدّوغمائيّة العلمانيّة والإسلاميّة ذهبت في تفسير مواقف وشخصيّة الرّجل بشكل إيديولوجيّ ينبثق من هذه الزّاوية والمنظور الضّيق وهذا جزء أصيل من تمظهرات العقل السّياسيّ الحالي، فالإسلاميّون لا يحفظون للرّجل سوى الزّلاّت وبعض التّصريحات غير المقبولة في حقّ الإسلام والإسلاميّين، ولكن دون النّظر إلى قيمة الرّجل وكفاحه ونضاله الصّلب على مدى عقود ضدّ النّظام الفاشيّ في سوريا، فهم أشبه بمن فقئت عينه اليّمنى فلا ينظر إلى جهة اليمين، وكذلك العلمانيّون لا يقوّمون الرّجل بمنهج نقدي معتدل ومتوازن فهم أشبه بمن عَورتْ عينه اليسرى، فهو عاجز عن النّظر جهة اليسار، فخطاب المدح والإشادة والإطراء ليس خطاباً منهجيّاً ولا سياسيّاً، لأنّه يفتقد آليّات النّقد والتّفكيك والنّظر الموضوعيّ للأشخاص والأفكار، وبهذه الصّورة يصبح العقل الدّوغمائيّ عقلاً غير قابل للقسمة ولا للتّفاهم ولا للانفتاح، لأنّ المعياريّة الإيديولوجيّة هي مصدر الرؤيا والحكم على الآخرين، وبذلك تصبح الرؤية عُصابيّة تعبّر عن حالة الاحتباس الفكريّ والسّياسيّ داخل القوقعة الواحدة، وهذا ما جعل الإسلاميّين لا يذكرون من ميشيل كيلو إلاّ بعض مواقفه من الحالة الإسلاميّة، فهو خارج دائرة القبول والإشادة، على الرّغم من أنّ المنهج الإسلاميّ للنبيّ  كان يقوم على الإنصاف والاعتراف بالقيمة الإيجابيّة للآخر، سواءً كان الآخر شخصيّة أم جماعة، كما أثنى على سهيل بن عمرو وهو رجل خصم ومشرك، وأثنى على شخصيّة خالد بن الوليد قبل إسلامه، وأُعجب بصدق وصراحة بني شيبان رغم أنّهم رفضوا الإسلام، والشّواهد والنّصوص كثيرة ومستفيضة، ولكن النّظريّة والمعياريّة الإيديولوجيّة أفقدت الرّوح الإسلاميّة على الأغلب هذه المرونة والانفتاح على المزايا الجيّدة والإيجابيّة عند المخالفين، ولا يعني هذا الكلام الموافقة لموقف ميشيل كيلو من الإسلاميّين عموماً ومن حالة الانقلاب على مرسي في مصر خصوصاً، وكيف وقف شامتاً قابلاً بالمعادلة العسكريّة، مسقطاً لخيار الدّيمقراطيّة الّتي آمن بها ونظّر لها كثيراً، وهذا موقف مشهود وغير قابل للتأويل، ومن هنا يصبح المنهج المتحيّز إذا كانت الدّيمقراطيّة تنجب جنيناً ونموذجاً علمانيّاً فأهلاً بها، وإذا كانت تنجب نموذجاً إسلاميّاً فهي مردودة، وهذا الارتداد عن دعم القيم الدّيمقراطيّة جعل كثيراً من النّخب والشّخصيّات والأحزاب العربيّة تقف في صفّ العسكرتاريا إمّا بشكل واضح ومكشوف وإمّا بشكل ضمنيّ، وهذا ما كنت آخذه على صديقي ميشيل كيلو، باعتبار أنّ نظرته العامّة للحركات الإسلاميّة كانت سلبيّة، وحتّى الحركات السّياسيّة الدّيمقراطيّة منها، وهذا ممّا يؤخذ على الرّجل رغم ماله من المواقف والنّضالات الكبيرة، فالقيم الإنسانيّة والسّياسيّة ينبغي أن ترتفع إلى درجة القيمة والمعياريّة الأخلاقيّة الواحدة بين جميع السّياسيّين والثّوريّين والمناضلين، وخاصّةً في المشاريع الوطنيّة والثّوريّة الكبرى، لأنّ المشروع الوطنيّ لا يستلزم أن يكون الإنسان مسلماً، كما أنّ المشروع والانتماء الإسلاميّ لا يستلزم التّخلّي عن الثّوابت والقيم الإسلاميّة، وهنا ندخل في دائرتين متداخلتين تتفاعلان ضمن حدودهما وتعملان على مشترك وطنيّ وقيميّ وسياسيّ، ولكن دون المساس بثوابت وخصوصيّة الآخر، وبهذا الاعتبار ممكن أنّ يتفاعل الجميع من الإسلاميّين والعلمانيّين في مشروع سياسيّ ونضاليّ وثوريّ واحد ضدّ هذا التّغوّل والتّوحش للأنظمة المعاصرة، وخاصّةً في الثّورة السّوريّة ومقاومة هذا الطّاغوت التتريّ اللّعين، وهنا تصدق وصيّة ميشيل كيلو للشّعب السّوريّ : ” لا تنظروا إلى مصالحكم الخاصّة كمصالح متعارضة مع المصلحة العامّة، فهي جزء أو يجب أن تكون جزءاً منها، لا تنظروا إلى وطنكم من خلال أهدافكم وإيديولوجيّاتكم، بل انظروا من خلال وطنكم، والتقوا بمن هو مختلف معكم بعد أن كانت انحيازاتكم تجعل منه عدواً لكم، في وحدتكم خلاصكم فتدبروا أمرها بأي ثمن وأيّة تضحيات، لن تصبحوا شعباً واحداً ما دمتم تعتمدون معايير غير وطنيّة، بل ثأريّة من خلال النّظر إلى بعضكم، وهذا يعني أنّه ستبقون ألعوبة بيد الأسد، الّذي يغذّي هذه المعايير، وأنتم تعتقدون أنّكم تقاومونه، وستدفعون ثمناً كبيراً لحريّتكم فلا تتردّدوا في إقامة بيئة داخليّة تحدّ من سلبيّاته أو تعزلها تماماً “، وقال بأنّ استقرار هذه الأسس سيضمن نجاح الدّولة فيما بعد الثّورة، وليست هناك دلالة على وطنيّة وصدقيّة ميشيل كيلو في الثّورة والكفاح ومفهوم الدّولة من هذه الوصيّة، وكلّ البشر من مفكّرين ومناضلين وسياسيّين وثوريّين لهم نصيبهم من الخطأ والصّواب إلاّ من عصم الله من خلقه، وأبى ميشيل كيلو ألاّ أن يموت وقلبه على السّوريّين ومستقبلهم وحقوقهم في دولة ما بعد الثّورة إن شاء الله.  

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. أخي الكريم رفقا بنا وباسلامنا الذي اسلمته بقلمك للاهواء المؤدلجة في ترميم صورة أدعياء المواطنة أمثال كيلو ورفاقه إذ كيف لي أن أ تعايش مع الذي يسب ديني ويهزأمنه كقوله دينكم لا يساوي لديه قرشا. .بالله عليك كن منصفا لدينك قبل إنصاف المستهزءين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى