مقالات

انعكاس العقائد على الفنون “الفن الإسلامي أنموذجًا”

د. محمد القطاونة

أستاذ العقيدة والفلسفة
عرض مقالات الكاتب

الفن والجمال والابداع ليس إلا مرآة تعكس المحتوى الحضاري لأي تكتل حضاري، والعمارة قوة حضارية وكتاب مفتوح تسجل فيه الشعوب تاريخها وانجازاتها. والفن والجمال والابداع في الفكر الإسلامي لم يكن يوما بعيداً عن هذا بل كان مؤثرا وملهما لغيره من الحضارات والأمم والشعوب بما يحمل من تصور منطلق من التوحيد في نظرته إلى الوجود. وليس الفن والجمال والإبداع إلا خصيصة إنسانية اختص الله بها الإنسان دون سائر الكائنات فبيوت العنكبوت والنمل وخلايا النحل صادرة عن عقل غريزي غير متطور من خلال ذاكرة لحظية وهكذا ستظل تلك البيوت والخلايا كما كانت عليها خارجة عن دائرة الزمن. إلا أن الإنسان له عقل “إبداعي” متطور انطلاقا من مسؤوليته يقول ابن عاشور: “وإنما أمر بالسير في الأرض لأن السير يدني إلى الرائي مشاهدات جمّة من مختلف الأرضين بجبالها وأنهارها ومحتوياتها ، ويمر به على منازل الأمم حاضرها وبائدها ، فيرى كثيرا من أشياء وأحوال لم يعتد رؤية أمثالها” فانطلاقة الفن الإسلامي من روح التوحيد لم تجعل منه بعيدا عن الوجود الذي يشكل الفن جزءا منه, بل جُعل الانسجام والتناغم بدل التنافر والتباعد, فالتوحيد لم يأمر الناس باتخاذ صيغة فنية محددة كالعقائد والإيديولوجيات الأخرى ، بل أوقف الإسلام الفن المنحرف عقائدياً وسلوكياً ووضع الفن في دائرة الاختيار فكان تحرراً للفن وتحرراً للفنان ذلك الإنسان المختار الذي وضع في مكان الاختيار ودائرة (لا تفعل) أوسع من دائرة (أفعل). وعمل الفنان المسلم من خلال العقيدة وليس من خلال القيد العقائدي لوجود التوازن بين الروحانيات والماديات، في الرؤية الإسلامية للفن كان الإسلام محرراً للفن من القيد الوثني والأسر الكهنوتي، ليسمو بالإنسان بتحقيق إنسانيته، ويعمل من خلال التصور الإسلامي للوجود لبناء حضارة جمالية.

إن الحديث عن الفن في الفكر الإسلامي وانسجامه مع روح العقيدة الإسلامية لا تكتمل صورته إلا بفهم واستيعاب بنية العقل الغربي قديما وحديثا وتصوره للفن, وذلك لسيطرة التصور الغربي على الحقل التداولي المعرفي لمفهوم الفن في العالم الإسلامي بل في العالم بأسره , لذلك لا بد من تأصيل يوضح الصورة  التي بدأ ومن ثم آل إليها الفن الغربي والفن العالمي بشكل عام, والوقوف على الجذور التي أثّرت على هذا الفن في مراحله لتصل به إلى منتهاه, لذلك لا بد علينا من الوقوف على الفن في البنية العقلية الغربية وجذورها عند الإغريق واليونان, والرومان، وصولاً الى الدارونية الحديثة . 

الفن الإغريقي وعاء التجسيد الوثني إذا ما تتبعنا تاريخ الفن القديم نجد أن الفن تلازم مع الإنسان، وكان الفن يستمد مواضيعه من الدين، واستمد الدين قوته بالفن وهكذا كانت العقائد قبل الإسلام وكان الفن. ونحن نتحدث عن الفن في المفهوم اليوناني لا بد لنا أن نعلم أن معظم الآراء والمعارف والفنون _النظرية المعرفية_ لليونان انطلقت من أرضية وثنية أو فكر ملحد, نتيجة عدم إدراك عالم الميتافيزيقيا, يستوي في ذلك الفن وغيره ولذلك نجد اليونان في نظرتهم للطبيعة, ينطلقون من تقديس الطبيعة كونها مذهبا فلسفياً أخذ أبعاده من دائرة الفن, لذلك دخلت الطبيعة في قائمة “المقدسات” لدى فريق من الفنانين والفلاسفة. لذلك اتجه اليونان ليجعلوا من “الإنسان” الفنان نداً لله –سبحانه وتعالى- فإذا كانت الطبيعة من صنع الله، فان الإنسان يصنع مثلها، بل وأحسن منها، إذ يتلافى الأخطاء التي وجدت فيها، ويتم النقص الذي لم يستطع أن يتممه، وبهذا أصبح الفنان “خالقاً” وأضحى إنتاج الفن “خلقاً”

بنية العقل الروماني للفن: جاء الرومان بعد اليونان وحل محلهم بعد سقوط دولتهم سنه 146 ق.م ولئن كان اليونانيون قد هزموا عسكريا فإن “اغريقيتهم” قد سيطرت على الحياة الرومانية في جميع جوانبها. سواء أكان ذلك في ميدان الفكر أم كان في منهج الحياة.فقد سيطر الاتجاه الحسي على النظرة الجمالية للفن عند الرومان فقد نظروا إلى الإنسان من ظاهرة، أي من خلال جسمه، ولم يهتم به من حيث روحه وإنسانيته، وهكذا سيطرت النظرة الحسية فكان جمال الأجسام لتلك النساء هو الفاعل في نفوس القوم بقطع النظر عن مكانتهن في مقاييس الفضيلة والأخلاق.

وعلى صعيد الفن لم يكن الفن في مختلف فروعة أكثر من نقل للواقع وتجسيدا له فهو صورة صادقة لذلك المجتمع ولأحاسيسه ونزواته، لميوله وانحرافاته، لتطلعانه نحو جمال أرقى، فذهب الفنان يجسد ذلك في فنه، وفي تاريخ الفن الأوروبي، وقد استطاع أن يبلغ به شوطا بعيدا، وظهرت على مسرح الحياة التماثيل العارية التي تفنن صانعوها في اتقانها, حتى باتت مبعثا للشهوة, وإيقادها لنارها التي لا تخمد, وباسم الفن أمكن تزيين العري وإبراز مفاتن الجسد وما خفي من جماله.

الفن والدارونية : وما أن تخلصت العقلية الأوروبية من التجسيد الوثني عند الإغريق وتأثيراته على الرومان والكنيسة في مجال الفن حتى انتهى بهم الأمر إلى داروين ونظريته أصل الأنواع, التي تعتبر من أهم النظريات التي تأسست عليها المعارف والعلوم الأوروبية ومن ضمنها الفن, “وخلاصه هذه النظرية أن الأحياء الأرضية كلها قد نشأت من أصل واحد, ضمن الأحياء المائية ثم نشأت الأحياء البرمائية, ومن هذه الأحياء نشأت الأحياء البرية… ومن الحيوانات البرية نشأ الإنسان الذي لا يفصله عن القرد سوا حلقة واحدة”وهكذا تقررت “حيوانية” الإنسان, وبالتالي نفي الجانب الروحي “يقول التاريخ الأوروبي: إن نظرية داروين كانت نقطة تحول في نظرية العلوم, وإنها أثّرت في اتجاه التفكير البشري, بحيث يمكن تتبع آثارها في كل ما أنتجه العلماء في العهد الأخير” وقد تأثر بها فرويد, وأول ما يبدو من هذا التأثر هو نظرته للإنسان على أنه مخلوق أرضي, عالمه كله محصور في هذا النطاق الضيق القريب…وتأثر به من زاوية أخرى حيث تابعه في قوله:”أن غرائز الإنسان هي الامتداد الطبيعي لغرائز الحيوانات السابقة له في سلم الصعود “فكانت نظرية داروين حكماً بحيوانية الإنسان من خلال علم الأحياء ثم كانت نظرية “فرويد” حكما بحيوانيته مرة أخرى في ميدان علم النفس. وهكذا أصبح حيوانا جملة وتفصيلا. وهذا ما اعتمد عليه أصحاب الجمال التجريدي, فقد حاول أحد دعاة هذه المدرسة “أن يقيس شدة الإحساس ذات الطابع الذاتي الكيفي عن طريق قياس منبهاتها الموضوعية بكمية, فوضع منهجاً وقاس به لذة الشعور بالجمال وهي لذة داخلية شخصية بحته” وقد استغل بعضهم هذا الاتجاه التجريبي في مجال الدراسات الجمالية لوضع أسس مادية, أو قياس كمية لظاهرات الجمالية بصفة عامة ومن المحاولات قيام بعض المنشغلين بالفن بالمسائل العامة بترتيب مسابقات لجمال الأجسام ووضع شروط استقرائية للتحكيم في هذه المباريات” وتحول الجمال إلى مادة تقاس وتحسب هذا هو الجمال في الإنسان وزن وطول ومقاسات وربح وماده وعقود, وسلعة تباع وتشترى.

حرية الفن الإسلامي من التجسيد الوثني والقيد الكهنوتي: رأينا فيما مضى كيف كان الفن يخدم تلك العقائد، واستخدامها للفن في تأكيد العبودية وتوثيق تلك القيود. وفي ضوء ذلك يمكن القول إن الإنعتاق الحقيقي للفن من الأسر الكهنوتي كان في القرن السابع الميلادي، وذلك بظهور الإسلام وتحريمه للفن المستخدم في تعضيد العقائد المنحرفة، والتي تخدم الوثنية وتنشد الإباحية.

وهكذا يظهر أن الدين والفن شقان مرتبان, فأينما اتخذ الأول مساراً ردده الثاني, وحين تغير الأول انعكس صداه في الثاني, وكان لهذا الرباط ضرورة لتطوير الفن حتى يكون له مفهوم صحيح وواضح, فلا بد أن ينعتق من هذا القيد ويتصل بالكون والحياة والإنسان, وهو الفن الذي نبحث عنه في أرجاء الكون الفسيح الممتد.

أما عند الإسلام فالقضية مختلفة، فلم يوجه الإسلام الفن بأن يتخذ الفن مساراً بافعل كذا، بل قال الإسلام، لا تفعل كذا، أي أن العقيدة الإسلامية لم تأمر الناس باتخاذ صيغة فنية محددة كما هو الحال في العقائد الأخرى، بل أوقفت الشريعة الإسلامية الفن المنحرف “عقائدياً وأخلاقياً”, وتركت للناس الخيار في الممارسة الفنية، فالعقيدة الإسلامية أوقفت الخارج عن المنهج وتركت الداخل في المنهج أن يختار، فالتحريم يقع على الخارج من المنهج – أما ما هو في المنهج فهو مباح. وواجه الإسلام الوثنية وحرّم كل أدواتها، ومنها الفن المستخدم لهذا النوع من التعبد، وكان هذا لوضع الفن التشكيلي وكل الفنون في المسلك الطبيعي والمسار الصحيح للإبداع، وللانتقال بالفن من الأديرة والمعابد والصوامع والبيع إلى خارجها، حيث الطبيعة الرحبة والكون الفسيح. ولهذا لا نجد صورا ولا تماثيل في المساجد كتلك التي نجدها في دور العبادة الأخرى التي جسدت الآلهة, ورمزت إليها بأشياء محسوسة داخل تلك الدور. . وهكذا ابتعد الفن الإسلامي عن التجسيم, واستخدم التجريد اللانهائي, وعمل الفنان المسلم من خلال العقيدة بواسطة المجردات, وبالابتعاد عن الماديات – ليس بطرحه كلياً بل بإيقافه عند حدود المعقول – فلا تكون الغلبة للماديات على الروحانيات, بل بإيجاد التوازن بين الروح والمادة والتعامل مع كل الكائنات والنفاذ فيما وراء الطبيعة

التوحيد انطلاقه وانسجام للفن أم تقييد وتضييق ؟واجه الفن الإسلامي إشكالية فكرية ترتبط ارتباطا وثيقا بالعقيدة, وهي عدم القدرة على التعبير عن الذات الإلهية المنزهة هذه القضية “إدراك الذات الإلهية”كانت أكثر واهم قضية فكرية حضارية كبرى طرحت على الساحة العقلية المسلمة وهي فكرة “التوحيد” التي جاءت كتجريد عام وشامل لكل توحيد سابق في أي حضارة من الحضارات, فقد جاء منزهاً عن أي تشبيه أو أي رمز بل هي أكبر الحقائق وأشملها وأعمها على الإطلاق, ولكنها حقيقة فكرية عقلية مجردة منزّهة عن كل تصور ولا يمكن التعبير عنها بشكل مادي ملموس, أو حتى بشكل فني وفني إبداعي قال تعالى:”ليس كمثله شيء وهو السميع العليم”

اذاً كيف استطاع الفن والفنان المسلم التعامل مع هذه القضية منسجماً مع عقيدته أولاً ومبدعا في فنه ثانياً؟ استطاع الفن الإسلامي الاستفادة من انعكاس التوحيد في أعماله الفنيه التي اتسمت التجريد _الفن التجريدي _ Abstraction Art ومن هنا جاءت عبقرية الفنان المسلم الذي عبر عن هذه الحقيقة المنزهة وعن صفاتها معبرا عن المطلق اللانهائي كتعبير تأملي جمالي. وخذ مثالا على ذلك فأول عنصر من عناصر الفني “النقطة” التي تمتد لتكون خطا والخط يلتف ليكون دائرة ويحد مربعا وهي الأشكال الأولية والأبجدية الأولى المركزية التي تكون منها الفن الإسلامي. ففي الإسلام النقطة هي البداية، والأشكال اللانهائية التي تصدر عنها هي بمثابة تعبير ذهني تأملي جمالي يعبر عن أكبر حقيقة في الوجود وهي حقيقة الخلق وصدور كل هذا التنوع اللانهائي عن “المركز” أصل الوجود، ومن هنا فقد تناغم الفكر والإيمان مع الوجدان في نفس الفنان المسلم للتعبير عن التنزية وعدم التشبيه.

ومن هنا قدم الإسلام حلولاً جمالية مغايرة اختلفت عن الأفكار الجمالية السائدة في الحضارات السابقة، ويمكن اعتبارها تغييرا جوهريا جذريا على صعيد الفكر الفني، وهنا تكمن صعوبة إبداعية بالغة، يواجهها الفنان المسلم عند اختياره أو بمعنى أدق عند ابتكاره لمفردات جمالية مجردة تجريدا بحتا للتعبير عن فكرة او الأفكار المجردة، وعلى ذلك كان النظام الهندسي الرياضي هو أحد وسائل التعبير عن التجريد كمبدأ جمالي، ومن هنا كانت النقطة والخط والمساحة والدائرة والمربع…  ومن هنا نجح الفنان المسلم في التعبير عن نسق كوني متكامل يعبر عن المطلق والمحدود معا والعلاقة بينهما التي يحددها التوحيد كتجريد فكري، وذلك من خلال إبداعه لنسق جمال متكامل.

 يقول الفاروقي_في هذا الصدد_ : “في قصر الحمراء توجد قبة كاملة من عدد كبير من العقود التي تقوم على أعمدة متناهية الصغر لا يستطيع إدراكها وتتبعها إلا خيال متوقد, هنا تصبح الطاقة التي يخلفها فينا الفن قادرة على هز أعماق أي إنسان لديه الإرادة أن يتحرك مع تلك الإيقاعات الفنية, هكذا كانت الصفة الجوهرية للذات الإلهية وكونها غير مشابهه للحوادث أي منزهة, هي الأساس الذي استولى على الشعور الإسلامي لدرجة انه أراد أن يري هذه الحقيقة معبراً عنها في كل شيء, وكان الفنان مولعا بإيجاد الوسائل والطرق التي تساعده على نشر هذه الحقيقة لدرجة أن تفجرت عبقريته عن أعظم فيض من الرسوم المجردة عرفت تاريخ الوجدان البشري وهي نماذج الزخارف الإسلامية.

وأن الحمد لله رب العالمين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى