مختارات

حبيب عيسى الوجه المشرق للناصريين

فواز تللو

كاتب وسياسي سوري
عرض مقالات الكاتب

اعتقلنا انا وحبيب عيسى في نفس الساعة والقضية، وقضينا لاحقا بعض الوقت معا في الزنازين لنختمها بأربع سنوات في الزنازين الانفرادية.
تعرفت على الراحل عن قرب بعد اعتقالنا، فكان أن نشأت بيننا صداقة عميقة خالصة لوجه الله ثم لأجل سوريا الحرة، ومن خلاله تعرفت على وجه آخر للقوميين العرب ناصريي الاتجاه تيار الراحل عصمت سيف الدولة”، وجه جميل لم أكن أعلم بوجوده وسط التشويه الذي الحقه كثيرون بهذا التيار، من المنتمين له، لكن “أبو عصمت” كان مختلفا جدا جدا لدرجة يحسبه كل من عرفه بأنه ينتمي لتياره وفكره، فعنده كنت تجد سوريا التي تحب وتحلم.
أيضا من خلال الأخ الكبير الراحل “أبو عصمت” ومثله أصدقاء قليلين رائعين، منهم من بات خارج سوريا ومنهم من بقي هناك في “الضيعة” في جبال الساحل الجميلة؛ رأيت من خلال “أبو عصمت” وهؤلاء القلة الرائعين الوجه الطيب والوطني للعلوي السوري .. وجه ظللت دائما أحلم واتمنى وجوده وتحقق حلمي بهؤلاء الرائعين ومنهم الرائع “أبو عصمت”، العلوي الوطني الذي تنسى معه الانتماء الطائفي والإيديولوجي والطبقي والمناطقي ليبقى الانتماء لوطن حر هو المشترك دون أن يلغي هوية منها.
كثير يمكن أن يقال عن “حبيب عيسى /أبو عصمت”، لكنني سأكتفي بموقف ورسالة.
أما الموقف فكان يوم دخل علينا رئيس فرع التحقيق في الأمن السياسي الوضيع “عدنان محمود” مع عناصره ، كنا في الزنزانة معا وحدنا منذ شهرين بعد سلسلة تنقلات سبقتها جمعتني أو فرقتني عنه في زنازين مختلفة، وكان القرار الذي علمنا به بعدها بدقائق هو نقلنا للزنازين الانفرادية التي قضينا فيها أربع سنوات في زنزانتين متقابلتين، لنخرج معا في نفس اللحظة، تماما كما اعتقلنا قبلها بما يقارب الخمس سنوات.
دخل علينا الوضيع رئيس الفرع مع عناصره ونظرات الحقد تنز منه، وقال “ضبوا أغراضكم” ، وهي عبارة من قاموس الاعتقال في سوريا تعني المجهول الذي يبدأ بحلم إطلاق السراح والحرية وصولا للانتقال إلى زنزانة انفرادية كالقبر كالقبر لعشرين سنة تالية.
سألت “خير إن شاء الله؟”، فكان الجواب بأن ضربني، ففهمت المآل، لم اتوجع بل تسلحت بنظرة غضب وصمت، لكن “أبو عصمت” لم يتمالك نفسه وبدأ يغلي غضبا وقد كانت تلك المرة الوحيدة التي شاهدته فيها غاضبا طوال معرفتي به حتى رحيله، فقد كان دائما هادئا متحكما بنفسه، لكنه فعلها مرة، لا غضبا لنفسه بل غضبا لأجلي.
خرجت من الزنزانة مقادا من قبل بعض العناصر وعندها انفجر غضبا بوجه العميد رئيس الفرع الذي أمر عناصره بالامساك به بإحكام خوفا من رد فعله ثم انهال عليه ضربا بينما كان “أبو عصمت” يصرخ مع كل ضربة اسمعها؛ يصرخ بصوت عال جدا (على غير عادته)، صوت ملؤه التحدي والاحتقار لسجانه الجبان المدجج بالسلطة والأعوان، كان يصرخ مع كل ضربة تنهال عليه بتحد واحتقار: “ضروب(أضرب).. ضروب.. ضروب..).
أما الرسالة فقبل أشهر، وكانت بعد سنوات من انقطاع التواصل بيننا، فأنا أدع للآخرين مبادرة الاتصال ما داموا تحت سلطة المجرمين داخل سوريا حتى لا أسبب لهم الأذى، فكانت رسالة من صديق وطني مشترك بيننا لا علاقة له بالسياسة حيث كتب يقول لي أن جاء ذكري في حديث بينهما فقال له أبو عصمت بحب وفخر في آن (واكتفي بذكر مقطع صغير من الرسالة مع صديقنا المشترك):
“المحامي حبيب عيسى صديقي, بيسلم عليك وقللي أنو مرة أنت قلت لشخص ما إذا “حبيب” بيصلي إمام أنا باقتدي فيه”.

في الزنازين الانفرادية كنا نتبادل الكلام انا وهو ورفاقنا المعتقلون عبر أبواب الزنارين ولذلك قصص طويلة تروى، لكن أكثرها حزنا كانت قصة “أبو عصمت” يوم سقطت بغداد، فمنذ ذلك اليوم التزم الصمت التام حزنا، صمتا استمر لما يقارب الثلاث سنوات لاسمع صوته من جديد يوم خروجنا .. ظننت أنه عاد كما كان، لكن الأمر لم يكن كذلك، فقد بقى بحكم الصامت حتى رحيله، صامتا من أجل بغداد فدمشق وكل ما يحيط بنا من مآسي
رحمك الله يا طيب، رحمك الله “أبو عصمت”، وجمعنا الله في جنته، مني ومن زوجتي وابنائي الذين عرفوك وهم أطفال، لكم منا أيها الكرام، يا أم عصمت أنت وأبناؤك، لكم منا كل العزاء بمن لا توفيه الكلمات نقطة من مكانته في قلوبنا.

من صفحة الكاتب على فيس بوك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى