قد لا نستطيع أثناء تقييمنا لأداء المعارضة السورية اغفال الظروف الموضوعية المؤثرة على مسيرة كياناتها، ولكن وفي الوقت ذاته قد لا يُعتبر إهمال هذه الظروف إجحافاً بحقهم، وهم الذين لا يتوانون في إكساب هذه الظروف طابعاً إيجابياً، في كل مرة يتعرضون فيها للنقد، وبعبارة أدق هم يُكسِبونها كل الوقت، على اعتبار أن نقد الائتلاف المعارض كمؤسسة وأعضاء وأداء، مستمراً وليس منقطعاً أو دورياً.
ألا يمكننا في حالة التقييم هذه اعتبار أداء المعارضة جزءاً من الظروف الموضوعية المؤثرة سلباً على ثورة الشعب السوري، وهي المنحازة _كمؤسسة إن جاز التعبير_ حسب كل التقييمات إلى التجاذبات الدولية أكثر من انحيازها لمصلحة سوريا الثورة والبلد والشعب، أم أننا نجهل نحن عامة السوريين السياسة التي يفهمها هؤلاء فقط؟
لكن، حتى وإن كانت الجماهير الثائرة تجهل السياسة، وتخضع لمظاهر “سيكولوجيا الحشد” السلبية حسب ما يتبادر إلى أذهان هؤلاء المقتنعين بنخبويتهم، ألا يحق لها تقييم شخصيات المعارضة ثورياً وأخلاقياً وهي التي يحق لها كل شيء؟
ففي نهاية الأمر “مؤسسات” المعارضة شُكلت بنية تمثيل هذه الجماهير أمام المجتمع الدولي، وأيدت نشأتها جموعٌ كثيرة من الثائرين، على الرغم من عدم مساهمتهم المباشرة في التشكيل، حين تلمسوا بداية انتقال الحراك الثوري إلى الحالة التنظيمية.
ولكن مجرد “نية التمثيل” إذا ما أردنا رفع سقف توقعاتنا، ألا تخول أفراد الشعب بانتقاد ومحاسبة من نوى، ووفقاً للمعايير المثالية، حتى وإن كان جزءاً كبيراً من المنتقدين غير مثاليين؟
لعل كتاب “عطب الذات” للدكتور برهان غليون رئيس المجلس الوطني السوري المشكل في الثاني من تشرين الأول من العام 2011, يضعنا أمام أكثر المحاكمات منطقيةً بحق المعارضة, على اعتباره أهم الوثائق وأولى الشهادات التي تخرج من داخل كواليس هذه المؤسسات، يكشف فيها عن صراعات الكتل المعارضة، وثنائية الاستقطاب الإسلامي والعلماني بداخل المجلس، وبالتالي فشل هذه التيارات في تشكيل واجهة سياسية تسعى لتحقيق تطلعات هذا الشعب، الذي كان يناضل ويضحي حينها على كافة الأصعدة وعلى بقعة كبيرة من المساحة السورية، في سبيل إثبات أحقيته بنيل الحرية.
ألم يكن المطلوب من هذه الكتل أخذ زمام المبادرة من الثوار وتمثيلهم خير تمثيل في المحافل الدولية؟، ألم تزل المعارضة السياسية متأخرةً باللحاق بالشارع بعد عقد كامل من الثورة؟ وألا يعتبر هذا الكتاب مرجعيةً قانونية تقود لمحاسبة هؤلاء؟
جميعها وأكثر منها أسئلةً تدور في خاطر الباحثين في ثنائية الثائر والسياسي، فيما إذا يحق للسياسي الدوس على الاعتبارات الثورية تحت مبرر “الواقعية السياسية”, هذه الواقعية التي تبرر له الفساد والاستئثار بالمنصب، بل وحتى تبرر له أن يتصرف بشيءٍ من الفوقية والعُنجهية مع الشارع!
نماذج كثيرة في هذا السياق يستحضرها الثوار، في تعدي السياسي على ما يسمونه بالاعتبارات الثورية، والتي قد تكون غير واضحة الحدود إجمالاً، ولكنها تتضمن نسبة عالية من الأخلاق العامة، والتي لا يتقيد غالبية من يمثلونهم بالحد الأدنى منها، في رأي الكثير.
تتصدر هذه النماذج حالات الاستئثار بالمقاعد، وتبادل الأدوار في قيادة الكيانات، والفساد المالي، على الرغم من الحنق الشعبي الكبير والمطالبات بوجوه جديدة، والتي وصلت إلى الحد التي يطالب به جمهور الثورة بإسقاط جميع الكيانات المفروضة، غير الممثِلة فعلياً إلا لبعض الموظفين المرتبطين بها في الداخل والخارج، وشبكة صغيرة من العلاقات والمصالح.
يشعر المراقب من خلال ردود أفعال هؤلاء الذين ندعوهم مجازاً بالساسة، بأنهم أصيبوا بعدوى متلازمة “انفصام السياسي”, التي تمنحهم الثقة بأحقيتهم في مصادرة التمثيل، وتقنعهم بأن أي مطالبة شعبية لتغييرهم هي نوع من المؤامرة التي تستهدفهم لصالح أطراف أخرى! وهم بذلك يشاركون مع النظام ذات الهواجس.
وتتيح لهم هذه المتلازمة سلك جميع الطرق الملتوية لمصادرة التمثيل، كدخول أحدهم الائتلاف عن طريق انتحاله لصفة شيخ عشيرة في مجلس العشائر (الشريك الجديد في الكعكة)، مبرراً أحقيته في المنصب بتصدر أحد أجداده لزعامة إحدى المدن السورية قبل مئة عام، وقد يعتبر هذا النموذج منوالاً، يبدع الآخرون من خلاله رسم خططٍ، قد تقضي على تاريخ شخصي كبير في النضال ضد الاستبداد.
وفي البحث ضمن إطار المطالبات الشعبية، يكشف المراقب عن سعي الكثير من الناشطين السوريين في تغيير ممثلي محافظاتهم في “مؤسسات” المعارضة أوفصلهم، دونما جدوى، ليكن أحد مبررات عدم الامتثال، هوأن نظامها الداخلي عصيٌّ على إقالة عضو لمجرد الاعتراض الشعبي على شخصه!
ولعل أوضح مثالاً على هذا، الحملة الشعبية الواسعة لأبناء دير الزور في العام 2015, المطالبة بإقالة عضو الائتلاف الممثل للمجالس المحلية عن محافظتهم، والذي ما زال يشغل مناصب عدة، متحدياً بذلك الشريحة الأوسع من الثوار.
أمثلة كثيرة على هذا النحو تضاف إلى خيبات السوريين، يظن رئيس الائتلاف من خلال قيادته لجرار زراعي “تركتور” أو غرسه لنبتة، وانضمامه لـ”دبكة” على ألحان الثورة، أن يكسر الصورة النمطية للمعارضة، المزروعة في عقول السوريين.
المشكلة ان أي رئيس ائتلاف مايظل بمكانه اذا مايطبق الأجندة المرسومة