مقالات

هل تكون المعارضة المصرية كبش فداء المصالحة بين القاهرة وأنقرة ؟

جمال سلطان

كاتب وصحفي مصري
عرض مقالات الكاتب

بوادر المصالحة بين مصر وتركيا ، وتبادل الرسائل الودية مؤخرا ، ثم ما أعقبه من توقف المنابر الإعلامية المصرية عن الهجوم العنيف على تركيا وشخص رئيسها بشكل أساس ، وكذلك توقف برنامجين لإعلاميين معارضين بارزين يبثان من إسطنبول ، والإعلان عن زيارة وفد تركي خلال أسابيع قليلة للقاهرة بدعوة من وزير الخارجية سامح شكري ، كل ذلك فتح النقاش واسعا حول الملف الأكثر حساسية ، وهو مصير عشرات الآلاف من المعارضين المصريين الذين فروا من مصر ولجأوا إلى تركيا من أجل حمايتهم من ملاحقات النظام في مصر ، وإلى أي مدى يمكن أن تؤثر تلك المصالحة على وضع هؤلاء ؟ ولماذا تم وقف قنوات المعارضة ؟ وهل يمكن أن نشهد عمليات تسليم معارضين إلى القاهرة ؟ وهل تخلى اردوغان عن مبادئه بنصرة المظلوم ؟ .

هذه الأسئلة لاحظت أنها شغلت الرأي العام المصري طوال الأسابيع الماضية ، وجرى فيها كلام كثير ، واختلطت فيها الحقيقة بالخيال ، والواقع بالأمنيات ، والمعلومة بالتحليل ، كما أصبحت في بعض جوانبها ساحة للعراك السياسي والمكايدة بين أنصار النظام ومعارضيه ، وفي هذه السطور أقدم رؤيتي من خلال قربي من مناخات السياسة في تركيا ، وخاصة ما يتصل فيها بالشأن المصري .

تركيا لديها عقدة تاريخية مع الانقلابات العسكرية ، فقد ذاق الشعب التركي ويلاتها أربع مرات ، وانتهت بكوارث ، وقتلى بالآلاف ومعتقلين بمئات الآلاف ومشردين تبعثروا في بلاد العالم بعشرات الآلاف ، وحل البرلمان وحل أحزاب ، واغتصاب السلطات كاملة ، والسيطرة الكاملة على القضاء والإعلام والاقتصاد ، وانتهى ذلك كله في كل مرة بكوارث اقتصادية ، رغم أن كل قائد عسكري جاء ، قال “الأسطوانة” المعهودة للانقلابيين في كل مكان ، أنه أتى لإنقاذ البلاد من الفتنة ومن الانقسام وأنه يعد المواطنين بالمجد والرخاء والكرامة ، ثم ينتهي هذا كله إلى سراب ، وخراب على كل الأصعدة .

موقف اردوغان وحزبه “العدالة والتنمية” من الانقلاب العسكري في مصر 2013 ، يأتي في هذا السياق ، سواء كانت السلطة في مصر وقتها مع الإخوان أو مع غيرهم ، وبدون شك فإن وجود “إسلاميين” في السلطة المصرية ، زاد من غضب الأتراك ، لأن أكثر من عانوا من الانقلابات العسكرية في تركيا كانوا أحزابا لها ميول إسلامية ، حيث القانون والدستور هنا يحمي العلمانية ، وصحيح أن اردوغان وحزبه ليسوا من الإخوان ولكنهم ينحدرون من أحزاب محافظة لها توجه إسلامي واضح ، وهو تلميذ القيادي الإسلامي التاريخي نجم الدين اربكان ، إضافة إلى أن الوحشية التي جرت فيها عملية تصفية أو إبادة اعتصام رابعة العدوية ومشاهد الجثث والحرق والجرافات وغير ذلك هز الضمير التركي بقوة .

لم يتردد اردوغان وحزبه في استقبال ضحايا الانقلاب ، ومنحهم إقامات قانونية ، كما فتح الأفق أمامهم لأي نشاط سياسي أو إعلامي ، بل ودعم موقفهم في محافل دولية وديبلوماسية ، على أمل أن يكون هناك موقف دولي يستعيد الديمقراطية المختطفة في مصر .

اردوغان لم يستضف فقط المعارضة المصرية ، بل استضاف معارضات من عشرات الدول ، وهنا في تركيا بالطبع ملايين السوريين الفارين من إجرام بشار الأسد ، أغلبهم يعيشون داخل تركيا بإقامات استثنائية لحمايتهم ، ويمنحون مميزات استثنائية في التعليم والصحة وسوق العمل ، وهناك معارضون من الصين ومن ليبيا ومن السعودية ومن الكويت ومن اليمن ومن بلدان أخرى عديدة ، فتركيا حاضنة لتشكيلة واسعة من المعارضات ، وتوفر للجميع الأمن والأمان والحماية ، ويشعر الجميع بالثقة التامة في السياسات التركية ونبل مواقفها .

الموقف التركي الداعم للمظلومين في بلدان كثيرة ، كان ثمنه فادحا على الاقتصاد والمصالح التركية ، وهذا يحسب للقيادة والشعب التركي الذي دفع هذا الثمن راضيا ، فقد تعرضت تركيا لضرر كبير من موقفها مع مصر ومع السعودية ومع الإمارات ومع الصين ومواقفها في ليبيا أيضا ، إضافة إلى الجرح النازف والخطير على الأمن القومي التركي ، الملف السوري .

بعد عشر سنوات من التضحيات والصبر ، جرت مراجعة شاملة في تركيا لتخفيف الضغوط ، ومحاولة العودة إلى المبدأ السياسي الأول لحزب العدالة الحاكم “صفر مشاكل” مع العالم الخارجي ، وهي السياسة التي وضعها رئيس الوزراء الأسبق الدكتور أحمد داوود أغلو ، وكانت من أسباب نهضة تركيا ، قبل أن تأتي أحداث الربيع العربي ، لتجبر تركيا على الدخول في خصومات اضطرارية في أكثر من ملف ودولة بدافع أخلاقي وإنساني وسياسي أيضا .

الملف المصري واحد من تلك الملفات التي جرت فيها المراجعة ، وكان التقييم أن تجربة عشر سنوات أثبتت تواضع الثقل السياسي للمعارضة المصرية في الخارج ، وأن الانقلاب العسكري أسس دولته وعمق من سيطرتها وأصبح واقعا لا يمكن تجاهله ، كما ضربت الانقسامات قوى المعارضة في الخارج وتبعثرت عمليا حتى داخل الجماعة الواحدة ، وفي المقابل وجد الأتراك أن التحالف “الإسرائيلي اليوناني الاماراتي” يتخذ من هذا الخلاف الحاد مع مصر مدخلا لضرب مصالح تركيا في شرق البحر المتوسط ، وركز هذا الحلف على جذب مصر إليه ، وتورطت مصر معهم رغم خسارتها الفادحة لحقوقها القانونية في شرق المتوسط ، نكاية في الموقف التركي ، ومجاملة للإمارات التي تدعم النظام في مصر ماليا ، وهنا كان القرار التركي بكسر هذا التحالف ، ومحاولة استعادة مصر ، وهو ما بدا نجاحه قريبا مع رسائل ترحيب مصرية حريصة على المصالحة ، أتت متواترة من لقاءات استخباراتية لم تنقطع ، في المقابل كانت مطالبات مصر سطحية وشخصية ، تتعلق بشخص السيسي ومنع التجريح عنه في إعلام المعارضة الذي يبث من تركيا ، وهو ما وافقت عليه تركيا ، لأنه هامشي جدا مقابل العائد من التحالف الاستراتيجي مع مصر في شرق المتوسط .

الجهات الرسمية التركية أوصلت رسالة للقنوات ، وليس لقوى المعارضة ، أن تخفف لهجتها وأن تتوقف عن الشتائم الصريحة والجارحة للرئيس المصري ، مع التأكيد على حماية الموقف القانوني لتلك القنوات وعدم المساس بها ، والحقيقة أن هذا الطلب من برنامج معتز أو محمد ناصر ، كان هو الأصعب ، لأنها برامج تعبوية وأي تعديل في خطابها “التعبوي” سيجعلها تخسر مشاهديها أو قطاع كبير منهم ، لذلك فضل الاثنان التوقف على التعديل ، أو التحول إلى يوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعي ، لكن بقية البرامج مستمرة والقنوات نفسها مستمرة ، ولم تطلب أي جهة إيقافها ، وأساسا مسألة إيقاف قناة إعلامية أو صحيفة هنا في تركيا من المحرمات ، ويكون لها صدى سياسي عنيف للغاية ، ولذلك يصعب تخيل حدوث ذلك .

لم يحدث أن تخاطبت أي جهة رسمية أو غير رسمية تركية مع المعارضة المصرية بكل أطيافها ، لكي تغير خطابها أو تتوقف عن معارضتها ، وبالأحرى لم يتعرض أي شخص هنا لأي نوع من التهديد بالإبعاد من البلاد أو الترحيل إلى مصر أو غيرها أو حتى العتاب ، كما أن أغلب “الرموز” السياسية التي تزعج مصر حاليا ، أصبح لهم وضع قانوني مختلف تماما وخارج عن سلطات اردوغان نفسه ، وهذا يحتاج إلى شرح آخر ، ولذلك كل ما تم تداوله في هذه الدائرة هو خيالات وأماني لا صلة لها بالواقع .

اردوغان مقبل على انتخابات مصيرية في 2023 ، والانتخابات هنا انتخابات ، وليس احتفالية لتغطية تزوير ونتائج محددة سلفا كما يجري في بلاد العرب ، هنا الانتخابات ديمقراطية بالكامل ، وشفافة بالكامل ، وبأدوات سياسية ومدنية بالكامل ، واردوغان يواجه تحالفا سياسيا جنونيا في الداخل يصر على هزيمته ، وتحالف دولي أمريكي فرنسي ألماني يصر على ضربه في تلك الانتخابات ، وهو يرتب أوراقه وأوراق حزبه من الآن لتلك المعركة التاريخية ، خاصة وأنه فتح مشروعات اقتصادية وعسكرية ضخمة ـ يراقبها العالم كله حاليا ـ ستغير وجه تركيا والمنطقة عند اكتمالها وهو يحتاج إلى فرصة أخرى لإتمامها ، وتأتي عمليات التسوية السياسية في محيطه الإقليمي جزءا من هذه التحضيرات ، وبدون شك أنه دفع ثمنا غاليا من مقدرات شعبه بوقفاته الإنسانية الرائعة مع ملايين المظلومين الذين لجأوا إلى بلاده طلبا للحماية والأمان ، ويكفي تضحياته مع الإسلاميين المصريين أو مع قضية مقتل الصحفي السعودي “جمال خاشقجي” ، وقد كان بإمكانه تحويلها إلى “كنز علي بابا” ، وكان محمد بن سلمان مستعدا لدفع ـ بل عرض فعليا ـ عشرات المليارات من الدولارات للتكتم ووقف الملاحقات ونشر معلومات ووثائق الجريمة التي تهدد مستقبله في الملك ، لكنه رفض ، ومن حق اردوغان أن يجري مراجعة ذلك في ضوء واقع جديد تشكل خلال العشر سنوات ، خاصة عندما يكون الثمن الذي سيدفعه في ذلك أقرب لأمور شخصية وشكلية ، كتخفيض حدة النقد لشخص حاكم أو مسؤول .

لقد تعامل اردوغان مع المظلومين بإنسانية واضحة ونبل لا يقبل التشكيك نهائيا ، وضحى بالفعل من مصالحه السياسية ومصالح شعبه ، من أجل نصرة المظلومين ، ولكن السياسة ليست أخلاقا مجردة فقط ، بل مصالح لا بد أن تراعى أيضا ، ولا بد لمن يراقبها أن يحترم إكراهاتها ويحترم تضحيات أصحابها ومواقفهم النبيلة . و=

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى