منوعات

نظام التعاقد في المغرب.. رؤية إصلاحية أم معضلة تعليمية ؟

حسن فاضلي أبو الفضل

باحث وأكاديمي من المغرب
عرض مقالات الكاتب

مقدمة:

يعد نظام  ’’التعاقد‘‘ الذي طرِح في الميثاق الوطني للتربية والتكوين كشكل من أشكال الإصلاح والتجديد، يُعد معضلة تضرب المدرسة المغربية وتصيب قطاع التربية والتكوين في عموده الفقري/ المدرس؛ معضلة تنسف كل شعارات التنمية الشاملة المنشودة، وتظهر حجم الارتباك الحاصل في ترتيب أولويات الإصلاح الحقيقي وفي تدبير الموارد البشرية للقطاع.

فهل كان اللجوء إلى هذا التعاقد رؤية إصلاحية أم كان خضوعا لضغوطات الخارج؟ وهل كانت اللجنة المقترِحة واعية بأزمات التعليم الحقيقية، مدركة المفهوم الحقيقي للإصلاح، أم أنها – في الأصل- تكلمت من خارج المجال التربوي ممارسة وتنظيرا ؟ 

أولا: التعاقد في سياق الإصلاح التعليمي

أ- مسار الإصلاح التعليمي: عرفت المنظومة التربوية في المغرب مسارا من التغييرات وُصفت رسميا بأنها إصلاحات وتعديلات وتطويرات وتصحيحات بنيوية …الخ؛ انطلاقا من مرحلة ما قبل الحماية إلى ما بعدها، إلى إقرار نظام التعليم الأساسي(1985)، مرورا بالميثاق الوطني للتربية والتكوين(2000)، إلى الرؤية الاستراتيجية، وصولا إلى القانون الإطار. فلماذا الميثاق الوطني؟ وما علاقته بالتعاقد؟

اعترف الخطاب الملكي في الدورة الخريفية للسنة التشريعية الثالثة (أكتوبر 1999) المتعلقة بالتعليم، بوجود أزمة مزمنة في قطاع التعليم، جعلت الملك الراحل الحسن الثاني يُعيّن لجنة ملكية خاصة لوضع مشروع الميثاق الوطني للتربية والتكوين، هدفه – باختصار- إصلاح نظام التربية والتكوين و الرفع من جودة القطاع !

لم يرد في هذا الميثاق أي تعريف مباشر له، لكن لفظة ’’ميثاق‘‘ تدل على معنى التعاقد والالتزام حول مشروع مجتمعي يهدف النهوض بقطاع التربية والتكوين.

ولا يكون أي مشروع إصلاحي مجتمعيا إلا إذا شارك في التخطيط له وهندسته وصياغته مختلف مكونات المجتمع ذات الارتباط بموضوع الميثاق؛ من علماء وخبراء ومتخصصين وباحثين وممارسين، خبروا المجال وعرفوا إكراهات القطاع و أولويات إنقاذه و إخراجه من الأزمة.

وبالاطلاع على أقسام الميثاق ومواده ومحتوياته، يظهر أنه لم يترك أمرا تعلق بالتربية والتكوين إلا تطرق له وعمل على إصلاحه وتجديده وتطويره؛ من الغايات والأهداف الكبرى إلى التنظيم البيداغوجي، إلى تكوين المدرسين وتحسين أوضاعهم، إلى الجودة في التدبير والتسيير و الشراكة والتمويل.

غير أن هذا المشروع – للأسف الشديد- عرف مصير المحاولات الإصلاحية السابقة، وهو الفشل والاستعصاء على التنزيل. ويرجع السبب في ذلك إلى كون الدافع في وضعه – أي الميثاق الوطني-  ليس الشعور بالخلل والأزمة في القطاع، و إنما هو الحرج من التقارير الدولية، والامتثال لتوصيات البنك الدولي، ولذلك راعت مضامينه العامل الخارجي نظريا وشكليا أكثر من العامل الداخلي واقعيا وميدانيا.

ب- علاقة التعاقد بالميثاق: في بيان علاقة ’’الميثاق‘‘ بِ ’’التعاقد‘‘ جاء في المادة 135 “…ويتم تنويع أوضاع المدرسين الجدد من الآن فصاعدا بما في ذلك اللجوء إلى التعاقد على مدد زمنية تدريجية قابلة للتجديد على صعيد المؤسسة والأقاليم والجهات، وفق القوانين الجاري بها العمل”1

هكذا ظهر التعاقد مع ظهور الميثاق الوطني للتربية والتكوين، لكنه بقي في حالة كمون ينتظر فرصته للظهور والتنزيل التدريجي، وإن كان قد أُدمِج في مجالات ودعامات التغيير، لا يستطيع أحد إنكار أهميتها وضرورتها؛ من إشراك للمدرسين في مراجعة البرامج و المناهج الدراسية وتعميم للتربية غير النظامية ومحاربة للأمية و استعمال للتكنولوجيا الجديدة وغيرها.

ورغم المجهود البشري والمادي والزمني الذي بذل في صياغة مواد هذا الميثاق، إلا أن مضامينه بقية محصورة بين سطوره، لم تظهر نتائجها وآثارها في الواقع إلا نادرا، ولذلك احتاج هذا الاصلاح إلى إصلاح آخر، فكان البرنامج الاستعجالي.. وهكذا !

ثانيا: الآثار السلبية لنظام التعاقد على قطاع التعليم

أ- التعاقد وإصلاح التعليم، أية علاقة؟: إن التنمية الشاملة المنشودة في الخطاب الرسمي متوقفة على فاعلية نظام التعليم، و أي تطوير أو إصلاح أو تغيير في هذا القطاع لا يجعل المدرّس أسّ الإصلاح ومركز الثقل فيه، محكوم عليه بالفشل. ولذلك كان اللجوء إلى نظام التعاقد بمثابة إقحام مشكلة جديدة في معضلة القطاع و استدعاء أزمة أخرى إلى أزمات المدرسة المغربية.

إنه من غير الممكن أن تحصل تنمية شاملة دون تنمية العنصر البشري بما هو أولوية على رأس السلم التنموي، وتنويع الأداء التعليمي وتحسين المنتوج المدرسي/ الجامعي شرط ضروري لذلك.

لقد دعا الميثاق الوطني الذي يُعد دستورا تربويا إلى الاعتناء بالمربين و المدرسين، جاء في المادة 138 منه: ” يتم حفز جميع الأطر التربوية والتدبيرية بالاعتماد على ركائز ثلاثة: تحسين الوضعية الاجتماعية للمدرسين، والاعتراف باستحقاقاتهم، ومراجعة القوانين المتعلقة بمختلف مراتب…موظفي التربية والتكوين”، وجاء في المادة 17: ” للمربين والمدرسين…حق العناية الجادة بظروف عملهم و بأحوالهم الاجتماعية”2 .

 و إذا كان ذلك كذلك، فهل يمكن أن نعتبر اللجوء إلى التعاقد الوارد في المادة 135 إصلاحا ؟ وهل اللجوء إليه أساسا ضرورة واقعية؟ ثم هل يتوقف حل الأزمة على اللجوء إلى التعاقد وحرمان فئة من المدرسين من وضعها الإدراي الطبيعي والعادل؟

نحن – إذن – أمام مشكلة متعلقة بمفهوم ’’الإصلاح‘‘. فما يعتبره الخطاب الرسمي إصلاحا تعليميا، قد لا يكون كذلك في حقيقة أمره، بل قد تتسع دلالة هذا الإصلاح إلى أن تدل على  عكسه وما يخالفه تماما: ’’الإفساد‘‘؛ أي إفساد نظام التعليم باللجوء إلى التعاقد !

ب- التعاقد مع الأكاديميات، هل هو بداية وضعية إدارية مزرية؟: كانت نيّة الميثاق أن ينتقل وضع المدرس تدريجيا من موظف بوزارة التربية الوطنية إلى متعاقد مع الأكاديمية إلى مستخدَم في المديرية إلى أستاذ مياوم بالمؤسسة (مع احترامنا الكامل للمستخدَمين و المياومين). هذا ما تنص عليه الفقرة أعلاه من المادة 135، ولا يمكن أن نفهم منها غير ذلك. و أخطر ما في هذه الفقرة هو عبارة “مدد زمنية تدريجية قابلة للتجديد”، فإذا صار الأمر إلى المدير الإقليمي أو إلى رئيس المؤسسة، كان مصير المدرس المتعاقد بين يديه، فإن شاء جدّد هذه المدة الزمنية و إن شاء رفض، وقد يتدخل المزاج في هذا التجديد أو رفضه، دون ضمانات قانونية تحمي حقوقه، حينها سيكون المدرس مياوما يشتغل يومه ولا يضمن عمله في غده !  

وهذا ما سيؤول إليه الوضع مستقبلا بدون أدنى شك. فهل كان هذا هو المقصود بالدعامة الثالثة عشرة: “حفز الموارد البشرية و إتقان تكوينها، وتحسين ظروف عملها، ومراجعة مقاييس التوظيف والتقويم والترقية” ؟؟

لم نجد في كل دول العالم دولة يعيش فيها المدرس وضعية إدارية وقانونية و اجتماعية مزرية، استطاعت النهوض بقطاع التعليم وتحقيق تنمية جزئية، ناهيك عن تنمية شاملة. والمغرب لا يستوطن كوكبا معزولا، بل هو جزء من كوكب تحكمه السنن نفسها و قواعد التنمية نفسها و قوانين التقدم والتخلف نفسها.

وبالوقوف على الآليات التي حكمت بعض النماذج التنموية المختلفة، أوضحت الدراسات أن سر نجاح كوريا الجنوبية “هو نظام تعليمي رصين، يضع العنصر البشري في قلب العملية الإنتاجية كقوة عاملة وكقوة اقتراحية تنشد الإبداع والتجديد”3. بينما في نماذجنا المتتالية مما يوصف بالإصلاح، يغيب الإشراك ويغيب معه الاقتراح، فلا تأتي الإصلاحات إلا عمودية من أعلى الهرم إلى أسفله.

ثالثا: أي وضعية اجتماعية للمدرس في ظل نظام التعاقد؟    

أ- تحسين الوضع الاجتماعي للمدرسين شعار أم واقع؟ إصلاح قطاع التعليم في مجاله العام متعلق بنضج السياسة التربوية و وضوحها، والسياسة التربوية لا يمكن أن تكون كذلك إلا باستقلال الممارسة والفعل السياسي عن كل التعليمات والأوامر العمودية، وهو أمر غير حاصل عندنا في هذا الزمان.

ولذلك و إن كان الميثاق يبدو في ظاهره قد رفع شعار الإصلاح والتجديد، ونص على تحسين ظروف العمل والعناية بالأحوال الاجتماعية للمدرسين، إلا أن ذلك بقى حبيس اللفظ ولم يتجاوزه إلى الواقع والتنزيل. ولما ظهر أن تفسير المسؤول عن القطاع لشعارات الإصلاح بما يخالف لغة الخطاب ويُضادها؛ بحيث تم إلجاء هذه الفئة من المدرسين إلى تعاقد بدون ضمانات، اضطرت هذه الفئة للتعبير عن رفضها والمجاهرة بشكواها بالخروج السلمي إلى الشارع، في أرقى أشكال الاحتجاج والتعبير عن الظلم.

إن هذه الفئة ترفض أن تدفع ثمن التدبير الاقتصادي والمالي الفاشل للدولة، كما ترفض أن تتحمل وحدها التقليص من الأجور في الوظيفة العمومية وإدراج ميزانيتها في خانة المعدات والنفقات، تمويها للمؤسسات البنكية الدائنة !

اعتماد الدولة على ورقة التعاقد لحل أزمة الدَّين الخارجي يفتقد للرشد والحكمة والذكاء السياسي، بل قد يعد ذلك فعلا صبيانيا إذا ما تم التلاعب مع مؤسسات بنكية دولية تعرف تفاصيل الدولة ودقائق تدبيرها المالي. فلماذا ينبغي أن يتحمل المدرس المتعاقد وحده  أخطاء غيره وسوء تدبيره ؟

ب- المدرسون المتعاقدون بين ممارسة حق دستوري وعنف السلطة: لقد قررت هذه الفئة الخروج إلى الشارع والتجمهر والتظاهر السلمي، ممارسة بذلك حقا ضمنه الدستور، فقد جاء فيه أن ” حريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي، وتأسيس الجمعيات، والانتماء النقابي والسياسي مضمونة…

حق الإضراب مضمون. ويحدد قانون تنظيمي شروط وكيفية ممارسته”4. غير أننا نفاجأ بتفسير الواقع للنص الدستوري مخالف لمنطوقه؛ فقد رأينا شتى أشكال المطاردة والسحل والتعنيف الجسدي واللفظي والتحرش الجنسي. يبلغ ذلك نهايته في السوء حين يصدر من أشخاص بهيئات مدنية كأعوان السلطة وغيرهم.

لا أدري كيف يحصل ذلك وقد جاء في الفصل 23 منه: ” لا يجوز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، في أي ظرف، و من قبل أي جهة، كانت خاصة أو عامة”5 !

ألا يمكن أن نتحدث هنا عن نص دستوري، وعن تفسير وتأويل آخر في الواقع لهذا النص، يختفي في المنطوق ويظهر في سلوك الدولة؟

يظهر أن النص الدستوري ” لا يقول كل شيء من خلال منطوق لفظه. فالمضمر فيه أقوى من المصرح به، والضمني أشد وقعا في التنزيل من دلالة الملفوظ و أحكامه”6

 الدستور-إذن- له شكل وله روح؛ شكله موجه للخارج وللهيئات الحقوقية، وروحه موجه للمواطن و المدرس. هاته الروح “تلغي في كثير من الحالات ما حرمته الفصول أو حللته أو سكتت عنه…”7. فالزوائد اللفظية والتقييدات والاستثناءات الواردة فيه تعبر عن نية سلطة الدولة تجاه المواطن بصفة عامة.

عابت فئة من المجتمع- فهمت الموضوع من خلال الإعلام الرسمي الخفي- على هذه الفئة من الدرسين قبولها هذا الشكل في التوظيف والتوقيع على العقد ومحاضر الدخول. لكن الرضا والقبول الحاصل في هذا العقد مشوب بصفة الفرض، ذلك أنه لم يصدر بعد مفاوضة ومناقشة لبنود العقد وشروطه؛ فكل البنود والشروط وضعها الطرف الأقوى في العقد(الدولة)، بينما الطرف الضعيف (المدرس المتعاقد) لا يملك حيالها إلا الإذعان، وهو ما يعرف بعقود الإذعان(Contrat d’adhésion).

ففي هذا النوع من العقود تغيب الإرادة التي تعتبر العنصر الأساسي والجوهري لتكوين العقد، فيكون التوقيع في هذه الحالة أشبه بانتزاع الاعتراف تحت التعذيب، سواء كان جسديا أو نفسيا أو اقتصاديا …

لا أدري- والوضع على هذا الحال- كيف لهذا المدرس المهان في كرامته، المطارد في الشوارع، المعنّف من طرف الشرطة و أعوان السلطة…لا أدري كيف لهذا الإنسان أن يشعر بالأمن و الاستقرار؟ و كيف سيؤدي واجبه وهو مكسّر الأنف مهشّم العظام؟ بل كيف سيبدع في مجاله، ويساهم في الإصلاح والتنمية ؟

إننا نعترف أن فئة قليلة جدا من المدرسين تميل نحو الإخلال بالمسؤوليات وتتسم ممارستها المهنية بالاضطراب والتوتر وضعف التكوين، غير أن هذا الصنف يعد صنفا شاذا ونادرا، والنادر لا يعمم والشاذ لا يقاس عليه. ونحن ندعوه لتكوين ذاته وتطوير إمكانياته وتحسين كفاءته.

خاتمة

نختم بهذا السؤال: من المسؤول عن هذه الأزمة، ومن يملك حلها ؟

في مثل هذه الأزمات تكون بداية الحل في تحديد المسؤول، وفي توجيه الخطاب لمن ينبغي أن يوجه له الخطاب مباشرة. وقد رأينا الوزارة الوصية لا تتكلم في الموضوع إلا بتعليمات عمودية، ولا تجيب عن أسئلة الرأي العام إلا بعد وجود أجوبة جاهز؛ أجوبة وتعليمات تأتي من خارج الوزارة الوصية. لذلك ينبغي أن يُفهم أن الحل لن يصدر من الوزارة المسؤولة عن القطاع.

و إذا كانت لجنة الميثاق المكونة من سياسيين ونقابيين، مسؤولة عن إقحام  مشكلة نظام التعاقد في مجال التربية والتكوين، فإن حلها أو إيجاد علاج لها يبقى بيد من عيّن هذه اللجنة، هذا إذا ما تم الاعتراف بالتعاقد أزمة أصابت القطاع حالت دون تحقيق إصلاح حقيقي فيه، وستحول دون تحقيق تنمية شاملة للبلد …

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- الميثاق الوطني للتربية والتكوين، المجال الرابع: الموارد البشرية

2- الميثاق الوطني للتربية والتكوين: حقوق وواجبات الأفراد والجماعات   

3- عبد الرحيم الضاقية، الجودة في التعليم والتكوين، ص:25   

4- دستور المملكة المغربية2011، الفصل:29

5- دستور 2011، باب الحريات والحقوق الأساسية 

6- سعيد بنكراد، الدستور المغربي في سيميائيات الخطاب السياسي، ص:6

7- المرجع نفسه، ص:17

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى