مقالات

عندما يتحول التاريخ إلى مظاهر مشوشة!

محمد شريف كامل

مدون وكاتب مصري
عرض مقالات الكاتب

استوقفني هذا الأسبوع أمران يربطهما تاريخ مصر، الأول مسلسل يعد للعرض في شهر رمضان يتحدث عن الهكسوس والقائد أحمس ،وبقراءة سريعة لما قيل في العمل تجد أنه ولد مشوهًا لا يعرض التاريخ بل يعرض صور مغلوطه تشوش رؤية المشاهد لها وتجعله يفقد الإحساس بالتاريخ والأحداث.


وتزامن مع ذلك مع الهزل الذي شهدته القاهرة وشاهده العالم، والذي تمثل في نقل الاثار من متحف لأخر خلال مسيرة مجمعة تخترق شوارع القاهرة بتكلفة قدرها ٦٠ مليون جنيه لتبهر السذج من سكانها وتجعلهم يهللون ويفرحون لعظمة موكب نقل رفات أجدادهم، وهم لا يجدون دوائهم بل ولا غذائهم، ويفخرون ويهللون لحضارة ما تصورت هي أن يكون ذلك هو أقصى ما تعرف به.


لقد صور المصريون القدماء تاريخهم على جدران المعابد حتى يعيش شاهد على عظمة ذلك التاريخ خلال قرون شهدت انتصارات وانكسارات عديدة ،وتميزت بأنها عاشت عصرها بلا خجل ولم يشوبها إلا تلاعب بعض ملوك تلك العصور ببعض النقوشات سعيًا وراء نسب الانتصارات لهم حتى ولم يكونوا لهم أي دور في تحقيقها وإلصاق الهزائم بغيره حتى وإن تسببوا فيها، ولكنهم في جميع الأحوال لم يغيروا الأحداث ذاتها.

واستطاع المؤرخون وعلماء التاريخ أن يستخلصوا الحقيقة ،أو أقرب ما يمكن لها بربط الأحداث والتدقيق في المعلومات، وينطبق ذات الأمر تمامًا على باقي العصور منذ الفتح الإسلامي وحتى يومنا هذا، وإن كان الفارق هو أن نقوشات المعابد أصبحت مخطوطات مكتوبة

لقد اختلف الأمر تمامًا في عصرنا هذا، فأصبحت كتابة التاريخ تمثل وجهات نظر وليست حقائق، وبالرغم من ذلك وبالرغم من أنه كانت دائمًا تشوب كل أشكال الحياة عبر العصور بعض الخيانات من بعض الشخصيات صاحبة الهوى او المغرضة، إلا ان الشعب لم يفقد يوما بٌوصلته.


فلقد تكونت الشخصية المصرية ،ونضجت من تراكم الحضارات المحلية والمستعمرة، ولم تقف أي واحدة منها لترجم الأخرى، بل استمتعت الشخصية المصرية بذلك البناء، وبه تغلبت على كل الصعوبات واستطاعت دائمًا أن تقوم بعملية الفرز الذاتي التي تُصحح حركتها، واستطاعت أن تستخدم ذلك التراكم التاريخي في تحقيق الذات وتقوية البنية والسعي لبناء مستقبل أفضل.


فبناء الشخصية المصرية اعتمد على الامتزاج المصري والعربي لينتج شخصية مصر اليوم التي يسعى الكثير جاهدًا لتشويهها بخلق صراع وهمي بين الحضارة المصرية القديمة “الفرعونية”، والقبطية والإسلامية، والأمر ليس كذلك فكل منهم قد حقق الهدف المرجو منه، وما نحن اليوم إلا نتاجهم.


ان الحدثين المتمثلين في تمثيلية أحمس المشوه وتمثيليه عرض النعوش ليستا إلا صيحة تذكرة أن هناك على أرض الكنانة من يعمل جاهدًا على تشويه الشخصية المصرية وعزلها عن الواقع؛ واستخدام الأجزاء المقتطعة من التاريخ لصالح تمكين حكمه أو تثبيت مفاهيمه ولا اختلاف بينهما، فكل من يقتطع من التاريخ فهو مزور، وكل من يغازل التاريخ بمعزل عن الحاضر أو بمعزل عن مشروع حقيقي صادق لبناء المستقبل ليس إلا مغرض. كان ذلك السيسي وأجهزته التي تصور أنه امتداد لحضارة اندثرت قبل الميلاد، أو ذلك الداعي للدولة العثمانية المنحلة، والآخر الذي يصور الخلاص في عودة مصر الملكية.


إن كل هؤلاء ساهموا، كل في زمانه في بناء شخصية قوية صمدت في وجه الأعداء ومحاولات هزيمتها من الخارج أحيانا ومن الداخل أحيانا، وما محاولة خلق الصراع بينهم إلا مشروع لتدمير لتلك الشخصية بحجة تصحيح التاريخ أو تصحيح المفاهيم، ورغم كل ذلك لم ندرك بعد إننا جميعا نساهم في تدميرها، سواء رفعنا شعار حب الاستعمار أو حب الاستعباد أو حتى شعارات التحرر الفضفاضة، أن كل ماضينا لم يشهد تفريط في أي من حقوق مصر مثل ما تشهده مصر الآن من تفريط في ماضيها، وحاضرها ومستقبلها وبمباركة بعض من الشعب الذي شوشوا عقليته وعقيدته ووجدانه فتشوهت شخصيته
يجب ان ندرك ان بناء الشخصية التراكمية لن يكون إلا بالقبول بإنجازات كل العصور، ورفض كل أخطائها وبالعيش في الحاضر بكل ميزاته وعيوبه، فلن تعود عجلة التاريخ للوراء ولكننا نحن من يرتد وبسرعة عالية للوراء، وإن لم نستيقظ من غفلتنا فلن تقوم لنا قائمة حتى يوم القيامة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى