مقالات

ثمن المواطن المصري لا يساوي ناقة!!

د. هاني السباعي

مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية بلندن.
عرض مقالات الكاتب
تنبيه: هذا مقال قديم بعنوان (ثمن المواطن المصري لا يساوي ناقة!!) للدكتور هاني السباعي كتبه عقب حريق قطار الصعيد عام 2002 حيث احترق فيها أكثر من 350 مسافرا. المقال نشرته حينئذ جريدة الشعب والقدس العربي وبعض المنتديات الإسلامية وموقع المقريزي.. نعيد نشره بسبب تكرار حوادث قطارات السكة الحديدة بمصر.

نص المقال

 
ثمن المواطن المصري لا يساوي ناقة!!

د. هاني السباعي

مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية بلندن

إن هذه الرزايا والحادثات السود المتكررة لقطارات الموت في مصر.. هذا الحريق الذي شب في عربات القطار!. وهذه الجثث المتفحمة وأشلاء القتلى المتعلقة بالأسياخ الحديدية!.. هذا النكد والحزن الأسود الذي شمل حياة أهل مصر خاصة أسر الضحايا.

هذه الغطرسة السلطوية واللامبالاة بمشاعر وأحزان المنكوبين من قبل المسؤولين ووسائل إعلامهم؛ تذكرني بنهر الجنون تلكم القصة الرمزية التي كتبها توفيق الحكيم قديماً؛ إذ كان الملك والوزير يظنان أن الشعب مجنون!؛ لأنهم شربوا من نهر الجنون المحظور!، وفي الوقت نفسه كان الشعب في واد معاكس؛ يعتقدون أن الملك ووزيره مجنونان!!.

فحال الشعوب اليوم؛ كأصحاب نهر الجنون؛ الحاكم وحاشيته في واد!، والشعب في واد آخر!.

الحاكم يحمي نفسه بغابة من القوانين الاستثنائية تنزله في في مقام من لا يسأل عما يفعل!! والعياذ بالله!!.

الحاكم لا يعيش مع الشعب أفراحه وأحزانه، وما أكثر هذه الأحزان!.

الحاكم لا يعيش إلا لمصلحته وما تبقى منه من فتات فلحاشيته وزبانيته.. أما الشعب فلا يصل له من هذا الفتات إلا الدمار وكوارث القطارات، وتهدم الجسور، وانهيار العمارات والمرافق الخربة، والأمراض الفتاكة، ومن ينجو من هذا وذاك فمصيره في غياهب السجون أو حياة العبيد!!

هذه المرافق المتهالكة والمتآكلة التي من المفروض أن تكون في مصانع الخردة منذ عشرين سنة على الأقل!، الوسيلة الوحيدة لملايين الفقراء الذين سلبت منهم حقوقهم، ولم يبق لهم إلا رحلة العذاب اليومي مع قطار يحمل المنايا بين جنباته وعجلاته!!.

لم يبق لهؤلاء الفقراء المساكين إلا الصراع الحياتي للحصول على قوت عيشهم!. والحكومة السنية! في مصر المحروسة لا تستحي وتصنع ما تشاء.. ولا حياة لمن تنادي!.

وبعد هذه التقدمة السريعة:

 أود أن أضرب مثالاً على قضية بسيطة لكن دلالتها عظيمة وهي القوانين التي من المفروض أنها سنت لحماية المجتمع من العابثين والمجرمين والمستهترين بأرواح الأبرياء.

هذه القوانين التي من المفترض أن تكون زاجرة رداعة، وفي نفس الوقت منصفة جابرة لخاطر الضعيف والمضرور!.

لكن هذه القوانين نفسها؛ ساعدت في حماية المسؤولين ومنحتهم حصانة تعفيهم من المساءلة الجنائية!! ومن ثم الإفلات من العقاب!! هذه القوانين تميز بين طبقات الشعب الواحد!؛ فالقوي يزداد طغيانا، والضعيف تدوسه رحى هذه القوانين!!.  فمثلاً أجازالقانون المصري في قضايا التعويض لمن أصابه ضرر سواء المجني عليه، أو أهل القتيل الذي يصطلح عليه قانوناً (المدعي بالحق المدني)؛ أن يلجأ للقضاء ويطالب بتعويض لجبر هذا الضرر. لكن هل أنصف القانون المضرور؟! وهل طبق القانون مبدأ المساواة وجبر الضرر بين أفراد الشعب؟! بالطبع لا.

فالمحاكم حين تقررهذا التعويض تراعي مركز الشخص الاجتماعي وماله وما أصابه من ضرر وما فاته من نفع؛ فلو أن موظفاً كبيراً وعاملاً في شركة ما أصيبا في حادث واحد وبإصابات متماثلة؛ فطالبا بتعويض لكان التعويض الذي يحكم للموظف الكبير كبيراً، ولكان التعويض الذي يحكم به للعامل ضئيلاً!؛ فالقانون يحمي الأغنياء وذوي المراكز الكبيرة حتى وهم أموات أما الفقير فمكانه دائماً في القاع!!

فأي قانون هذا الذي يميز بين أصحاب الوجاهة، والمناصب الرفيعة وبين غيرهم من أبناء الشعب؟!!

أين هذا القانون المتحيز من القانون الجنائي الإسلامي الذي لا ينظر إلى هذه الحيثيات، ولا إلى هذه المراكز الاجتماعية فالناس تتكافأ دماؤهم، والكل سواء أمام القانون؛ لا فرق بين تابع ومتبوع، ولا بين غني وفقير، ولا بين وزير وغفير، ولا بين رئيس الدولة وأي فرد في المجتمع، الكل يسأل جنائياً والكل يجبر في حالة الضرر بنفس المقياس الشرعي.

فالتعويض في الفقه الجنائي الإسلامي: هو المال الذي يحكم به على من أوقع ضرراً على غيره؛ في نفس، أو مال، أو شرف. فتعويض النفس هو الدية تعطى لورثة المقتول عوضاً عن دمه أو عن حقهم فيه؛ وهي جبر لخاطر هؤلاء الذين فقدوا عزيزاً لهم..

والأصل في هذه المسؤولية ومستند مشروعيتها قوله تعالى:(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا ) النساء/92 . تأمل قيمة الإنسان لجبر الضرر في قتل الخطأ، وهو تحرير الإنسان من رق العبودية تقرباً إلى الله مع دية تعطى لأهل القتيل.

فالقانون الجنائي الإسلامي يحمي حرمة الإنسان حياً وميتاً؛ ففي القتل الخطأ يحكم بالدية كاملة مائة من الإبل تعطى لأهل القتيل حسب التفاصيل الواردة في كتب الفقه الإسلامي..فالدية تعطىى لأي قتيل لا فارق بين قتيل غني وقتيل فقير فمدير الشركة والعامل معه سواء لا تمييز!!

فلو أنزلنا هذا الحكم المقرر والثابت في الفقه الجنائي الإسلامي على أرض الواقع لوجدنا أن أكثر من 350 قتيلا نتيجة احتراق القطار الذي هو ملك للدولة التي هي بمثابة العاقلة، إذن فالجاني (السائق) موظف حكومي؛ فالدولة يجب أن تدفع دية القتلى 100 من الإبل بالوصف المذكور في كتب الفقه أو 2000 شاة أو 200 بقرة بالشروط والأوصاف المنصوص عليها في كتب فقه الجنايات الإسلامي..

ولما كانت هذه الحوادث متكررة نتيجة الإهمال والرعونة وعدم اتخاذ الحيطة، والحذر، فمن ثم تضاف إليها عقوبة تعزيرية حسب التكييف الجنائي لجريمة قطار الصعيد طبقاً للمعطيات المذكورة والسوابق الجنائية لمرفق السكك الحديدية، ومن ثم يستحق كل أهل قتيل ثلث دية تضاف إلى الدية الكاملة مع التنبيه أنها ليست جريمة عمد ولا شبه عمد؛ وإنما قتل خطأ؛ فمسألة تغليظ العقوبة هنا من باب التعزير فقط نظراً لتكرارها..

 ثم إنه بحسبة بسيطة يحصل أهل كل قتيل على 100 ناقة؛ تدفع حسب الضوابط المنصوص عليها في الفقه الإسلامي.  

أما القانون الوضعي فأهل القتيل يظلون سنوات بين أروقة المحاكم من محكمة ابتدائية، إلى استئناف عال، إلى محكمة النقض؛ بغية الحصول على بعض التعويض!؛ عبارة عن مبلغ من المال حوالي خمسة آلاف إلى سبعة آلاف جنيه مصري في المتوسط!!

لأن هذا المبلغ الذي تحكم به المحكمة يكون عادة لصغار الموظفين وفقراء الناس؛ وهم غالبية قتلى القطارات والكوارث العامة الأخرى!! يقسم على المحامي الذي يحصل على ثلث المبلغ!، والباقي لأهل القتيل!!

.

وخلال هذه المدة يمل أهل القتيل من طول الانتظار؛ فمنهم من يضيع بين الزحام، ومنهم من يموت جوعاً ومنهم من يضيق ذرعاً بهذه القوانين الظالمة؛ فيسير في طريق الغواية، ويبيع نفسه للشيطان!؛ ومن هنا تختل المعادلة في المجتمع ومن هنا تنتشر الجريمة، ويكون الأمر فوضى، والدماء البريئة مهدرة لا قيمة لها!!.

أما آن لهذه الأنظمة الحاكمة أن ترجع إلى قانون الجنايات الإسلامي وتحكّم الشريعة الإسلامية في كافة المناحي الحياتية؛ بدلاً من هذا التشرذم والضياع والاستهتار بحياة الشعوب في ظل قوانين “خردة” عفا عليها الزمن كقطارات الموت!! هذه القوانين لم تكن يوماً صالحة لردع الأشقياء أو لجبر الأبرياء.

أما آن لهذه الأنظمة أن ترجع إلى هذا القانون العظيم الذي رفع من قيمة؟!، وقدر الإنسان حياً وميتاً، حتى وهو جنين فهو محاط بالعناية والحماية وحرمته مصونة شرعاً، فلو أن شخصاً قتل جنيناً نزل من بطن أمه حياً ولو لساعة واحدة؛ وقتله عمداً فعليه القصاص نفساً بنفس، ولو قتله خطأ؛ فلأوليائه دية كاملة مثل دية الكبيرلا تزيد ولا تنقص.

صفوة القول

إن قيمة الإنسان في الشريعة الإسلامية؛ تفوق أي تقدير لقيمة الإنسان في أي قانون أرضي. فانظر إلى قيمة الإنسان في هذه الآية القرآنية الكريمة: (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) المائدة آية 32. لكن للأسف الشديد! رضيت هذه الأنظمة الحاكمة الغاشمة الجاثمة على صدور أمتنا؛ أن تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير!! فصار دم الإنسان المعصوم بالإسلام؛ رخيصاً لا يساوي ثمن ناقة!! بل غالباً لا يساوي شيئاً!!  فبئس للظالمين بدلاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى