بحوث ودراسات

المربط الصفوي مقاربات عقدية وسوسيولوجية وسياسية وتاريخية 5

أكرم حجازي

كاتب وباحث أكاديمي
عرض مقالات الكاتب
  • بعض المقارنات مع « الإمامية»

       للإمامية طبقة إكليروس تسمى « المرجعية الدينية»، كما لـ « الزرادشتية» و« المانوية» و « اليهودية» و« النصرانية»، وعلى العامة واجب الطاعة لها. وحيثما قلبنا الأمر فلن نجد في المصنفات « الإمامية» والفتاوى والمرئيات والمسموعات والخطب والوعظ والإرشاد، قال الله، وقال الرسول، بقدر ما تواجهنا عبارات من قبيل قال: « الإمام الأكبر»، و « الإمام الأعظم»، و « القائم»، و « الغائب»، و « الحجة»، و« الوصي»، و « الآية العظمى»، …. بالإضافة إلى دعوات من نوع: « قُدس سره»، و «عجل الله فرجه»، و « عليه السلام»، و « جعلت فداه»، …. . ومن الواضح أن الدين، في مثل هذه الحالة، يؤخذ من القائمين على الكهنوت، ومرجعياتهم واجتهاداتهم وتأويلاتهم وتفسيراتهم، وليس من الكتاب الذي يزعمون أنه محرف إلا بما يوافق هواهم، ولا من السنة، التي لا يعترفون بها أصلا.

  • للإمامية مذهب يقوم على الرقم 12. به الماضي والحاضر والمستقبل. وهو يتعلق فقط باثني عشر فردا من بين 27، من ذرية علي بن أبي طالب البالغة من الذكور. وليس له أي أصل في القرآن إلا في آية السقاية التي وردت بحق بني إسرائيل في قوله تعالى: ﴿ وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾، (البقرة: ٦٠)، وفي رؤيا النبي يوسف u: ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجدين، (يوسف: 4). ومن الواضح أنه لا علاقة لهما من قريب أو من بعيد بالأئمة الاثنى عشر. لكن الرقم في « اليهودية» يتعلق بالأسباط الاثني عشر، وفي « النصرانية» بالحواريين الاثنى عشر، وفي « الزرادشتية» باثني عشر سائحا، جاؤوا إلى فلسطين لرؤية مولد الطفل يسوع، وكذلك 12000 جلد ثور دُبغت، وكُتب عليها كتاب « الأفيستا»، وفي الكون الذي خُلق قبل 12000 سنة. أما في « المانوية» فثمة حديث عن 12 حواري في الطبقة الكهنوتية، بعث بهم ماني إلى جميع البقاع للتبشير بدعوته، و12 سجودا في كل صلاة.
  • « الإمامية» تبيح زواج المتعة كما « اليهودية»، بل تحرض عليه ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وتجيز التمتع بالفتاة إذا تجاوزت العشر سنوات، وحتى التمتع بالرضيعة مفاخذة كما يُروى عن الخميني. وأكثر من ذلك يشيع بين أتبعاها نكاح الذكور، وهو ما لم تبحه « المزدكية» التي جعلت من الجنس مشاعا اجتماعيا. وينسب فتح الله الكاشاني في منهج الصادقين (ص356) لجعفر الصادق قوله: « إن المتعة من ديني ودين آبائي، فالذي يعمل بها يعمل بديننا, والذي ينكرها ينكر ديننا بل إنه يدين بغير ديننا، وولد المتعة أفضل من ولد الزوجة الدائمة، ومنكر المتعة كافر مرتد». لكن الثابت أن الجنس في الأديان الفارسية ظل أحد الثوابت، منذ عهد زرادشت و« الزرادشتية»، التي كانت تبيح زواج الابن لأمه، والأب لابنته، والأخ لأخته. ومن جهتها؛ تتحدث د. شهلا حائري، حفيدة المرجع الديني الإيراني، آية الله حائري، عن وجود شكل من أشكال الزواج المؤقت عند الإيرانيين قبل الإسلام، مشيرة إلى أنه: « عند الزرادشتيين يحق للزوج أو رب العائلة إعطاء زوجته أو ابنته من خلال إجراءات رسمية رداً على طلب رسمي إلى أي رجل من قومه يطلبها كزوجة مؤقتة لفترة محددة. وفي هذه الحالة تبقى المرأة زوجة دائمة لزوجها الأصلي وفي الوقت نفسه تصبح زوجة مؤقتة لرجل آخر. وأي طفل يولد خلال فترة الزواج المؤقـت يعود إلى الزوج
  • ·       الدائم أو لوالد المرأة وفقاً للحالة»[1].
  • نقلت« الإمامية» عقيدة التثليث عن « النصرانية»، كما سبق ونقلتها « المانوية» عنها. فـ « النصرانية» تقول باسم « الأب والابن والروح القدس»، و« المانوية» تقول بـ « العظيم الأول والرجل القديم وأم الحياة»، و« الإمامية» تقول بولاية علي بن أبي طاب، وتثلثها بالأذان في عبارة تقول « أشهد أن عليا بالحق ولي الله». وهي العبارة التي نقلها الصفويون عن فرقة شيعية غالية تدعى بـ « المفوضة»[2]، ومن قبلهم الدولة العبيدية، التي وضعت عبارة « حي على خير العمل».
  • تؤمن « الزرادشتية» بالزكاة لكنها تقر العُشر، وهو ما تؤمن به أيضا « المانوية»، والتي تطالب طبقة « السماعون» ( عامة الناس) بتقديم الغذاء لـ« الصديقين». وأما « الإمامية» فتجمع الخمس للإمام و « آل البيت».
  • تؤمن « الإمامية» بعقيدة « الرجعة»، كما تؤمن بها « اليهودية» و« النصرانية» و« المانوية»، التي يعتقد أتباعها أن ماني صعد إلى السماء ولم يمت، وأنه سيعود.
  • تؤمن « الإمامية» بأن الأئمة يعلمون الغيب، وهو ما يقول به التلمود البابلي عن الحاخامية « اليهودية». بل إن الأئمة يعلمون متى سيموتون.
  • تؤمن « الإمامية» بتناسخ الأرواح، كما « المجوسية» « البوذية»، وترقية الأئمة إلى مستوى الألوهية، بل وادعاء الألوهية، كما في « السبئية» و« الدرزية» و« النصيرية».
  • تعقد « الإمامية» الإيمان والكفر، ودخول الجنة والنار، والشفاعة والخلاص، على رضى آل البيت وحبهم. وهي عقيدة « اليهودية» في « شعب الله المختار».
  • تؤمن « الإمامية» بـ « التقية»، وتعتبرها « تسعة أعشار الدين»، وتنفي الإيمان عمن لا تقية له. وقد أخذتها عن « اليهودية» التي تؤمن بالسرية والكتمان والتنظيم. أما القيمة العقدية لها، فلا تكمن في الكذب فحسب، بل في هوية الدين ذاته. وهو ما عبر عنه « الكافي – 2/222»، في رواية له عن الإمام جعفر، حين قال لأحد

 أعوانه: « يا سليمان، إنكم على دين من كتمه أعزه الله، ومن أذاعه أذله الله».

  • شابهت « الإمامية المجوسية»، برفعها شعارات « يا لثارات الحسين»، تأسيا بشعارات المجوس « يا لثارات كسرى»، بعد الفتح الإسلامي لفارس. كما تحتفل « الإمامية» الفارسية بأعياد النيروز الفارسية، وتقدمها على احتفالاتها السنوية بذكرى عاشوراء. وتعتمد التقويم الفارسي. بل وفي العقائد ما هو أعجب من ذلك. إذ ينسب المجلسي في بحار الأنوار (14/41) رواية عن علي ابن أبي طالب يقول فيها: « إن النار محرمة على كسرى»!
  • تقول « الإمامية» بعدم وجود الجهاد قبل ظهور « الإمام الغائب»، وكذا يغيب الجهاد عن « الزرادشتية» و« المانوية» و« المزدكية». لكنها لا تمتنع عن الفتن والقتل وسفك الدماء باسم الدفاع عن المذهب وآل البيت أو المراقد المزعومة حيثما تجري صناعتها.
  • تقيم « الإمامية» طقوس استشهاد الحسين بن علي بن أبي طالب، بمراسيم مشابهة لطقوس « المانوية»، في حادثة صلب ماني وقتله، فضلا عن طقوس الكنيسة، في صلب المسيح u.
  • يتحدث علي شريعتي عن طقوس شيعية قادمة من الكنيسة، وحتى عن تماثل في بناء الحسينيات، وزينتها ووظائفها. وعن تشابهات في طقوس التطبير واللطم والضرب بالزناجير، تماثل ما لدى الكنيسة « النصرانية»، والطقوس « البوذية». ويقول: « ذهب وزير الشعائر الحسينية إلى أوروبا الشرقية وكانت تربطها بالدولة الصفوية روابط حميمة يكتنفها الغموض، وأجرى هناك تحقيقات ودراسات واسعة حول المراسم الدينية والطقوس المذهبية والمحافل الاجتماعية المسيحية وأساليب إحياء ذكرى شهداء المسيحية والوسائل المتبعة في ذلك حتى أنماط الديكورات التي كانت تزين بها الكنائس في تلك المناسبات، واقتبس تلك المراسيم والطقوس وجاء بها إلى إيران حيث استعان ببعض الملالي لإجراء بعض التعديلات عليها لكي يصلح استخدامها في المناسبات الشيعية، وبما ينسجم مع الأعراف والتقاليد الوطنية المذهبية في إيران، ما أدى بالتالي إلى ظهور موجة جديدة من الطقوس والمراسم المذهبية لم يعهد لها سابقة في الفلكلور الشعبي الإيراني، ولا في الشعائر الدينية الإسلامية. ومن بين تلك المراسيم النعش الرمزي والضرب بالزنجيل والأقفال والتطبير واستخدام الآلات الموسيقية وأطوار جديدة في قراءة المجالس الحسينية جماعة وفرادى، وهي مظاهر مستوردة من المسيحية بحيث يستطيع كل إنسان مطلع على تلك المراسيم أن يشخّص أن هذه ليست سوى نسخة من تلك».

    أما عن النوائح وما يرافقها من شعائر فيتابع القول: « أما النوائح التي تؤدى بشكل جماعي فهي تجسيد دقيق لمراسيم مشابهة تؤدى في الكنائس ويطلق عليها اسم (كر) كما أن الستائر ذات اللون الأسود التي توشح بها أبواب وأعمدة المساجد والتكايا والحسينيات وغالباً ما تطرز بأشعار جودي ومحتشم الكاشاني هي مرآة عاكسة بالضبط لستائر الكنيسة، مضافاً إلى مراسيم التمثيل لوقائع وشخصيات كربلاء وغيرها، حيث تحاكي مظاهر مماثلة تقام في الكنائس أيضاً. وكذلك عملية تصوير الأشخاص رغم كراهة ذلك في مذهبنا، حتى هالة النور التي توضع على رأس صور الأئمة وأهل البيت هي مظهر مقتبس أيضاً،

 وربما امتدت جذوره إلى طقوس موروثة عن قصص أيزد ويزدان وغيرها من المعتقدات الزرادشتية في إيران القديمة»[3].

  • ويتحدث سليم مطر، من جهته، عما يراه « التشابه الأهم من ذلك بين الشيعة والمانوية», والذي يتعلق باختيار مدينة الحلة ثم النجف, لتكون المنطقة المقدسة، ومقر الحوزة العلمية، ومركز الشيعة في العالم. وفي المقابل اختار المانويون، وقبلهم أهل الرافدين، بابل لتكون المركز المقدس لديانة أسلافهم. أما وجه الأهمية فيقع في كون الحلة والنجف جزء من جغرافيا بابل التاريخية[4].

المبحث الثالث

الحركة الشعوبية

  احتلت الشعوبية من « الإمامية» منزلة الأس، بكل ما أنتجته من تحريفات في الدين، وفرق باطنية، وعداء بغيض للعروبة والعربية، وتزييف التاريخ والخيانة على مدار التاريخ. لذا كانت خلاصة الباحث العربي الأحوازي، صباح الموسوي، ملفتة حين قال بأن: « الشعوبية زعمت بأن الإسلام مشروع تعريب وليس دينا سماويا». وفي السياق؛ ينقل الموسوي عبارة مثيرة عن الرئيس الإيراني الأسبق، محمد خاتمي، خلال اجتماعه بالجالية الإيرانية في أمريكا، لحضور احتفالات الألفية الثانية، التي أقيمت في ولاية نيويورك، بدعوة من الأمم المتحدة، قوله: « نفخر نحن الإيرانيين بأننا قبلنا الإسلام ورفضنا العربية». والحقيقة التاريخية أن أغلب الشعوب الأعجمية التي دخلت الإسلام، ظلت محتفظة بلغتها، لكنها لم تقل في يوم ما أنها قبلت الإسلام ورفضت العربية. أما إيران فقد رفضت العربية والعروبة على السواء! فكيف قبلت دينا جاء به نبي عربي، وكتابا من السماء نزل باللغة العربية؟ فإنْ كانت تقبل الإسلام فعلا؛ فبأي لغة ستقرأه أو تفهمه؟ وكيف قبلت لغتها الحرف العربي بينما رفضت العربية من الأصل؟

   تأتي مثل هذه التصريحات من رئيس جمهورية، يعلم يقينا أن العربية في صدر الإسلام، كانت تغزو العالم الإسلامي، وتستوطن في شغاف قلوب المسلمين، كمدخل، لا مندوحة عنه، للتعرف على الدين الجديد، وفهمه عميقا باللغة التي نزل بها القرآن الكريم. بل أن أميز علماء الحديث، كانوا من الأعاجم، وحتى من فارس، التي رفض شعوبيوها العربية. وأكثر من ذلك أنها صارت لغة التباهي والاعتزاز، التي يتسابق إلى تعلمها كل من دخل الإسلام، إلا عند مجوس فارس وورثتهم، فهي مرفوضة ومحقرة ومحاربة، هي وأهلها! فأي إسلام هذا الذي قبلته فارس ولم تقبل معه لغته ولا أهله وحاضنيه؟ فهل مشكلة فارس مع العربية والعروبة؟ أم مع الإسلام؟ بحسب صباح الموسوي؛ يبدو أنها مع الإسلام.

   لكنها، في الواقع، مع الاثنين معا. إذ من شبه المستحيل الفصل بين الإسلام والعربية أو العروبة. وهذا ما أقر به المفكر الإيراني، والأستاذ بجامعة طهران، صادق زيبا، لأسبوعية « صبح أزادي» الإيرانية، حين قال: « أعتقد أن الكثير من الإيرانيين يكرهون العرب، ولا فرق بين المتدين وغير المتدين في هذا المجال». وفي تفسيره للنزعة العنصرية الفجة تجاه العرب « يعتقد» أن: « هناك علاقة مباشرة بين تدني المستوى الثقافي والنزعة العنصرية»، إذ أن: « نفس المعادلة نشاهدها في أوروبا حيث أغلبية العنصريين غير متعلمين، فنراهم يعادون اليهود والمسلمين والأجانب، إلا أن هذا الأمر يختلف في إيران تماماً لأنكم ترون الكثير من المثقفين يبغضون العرب، وتجدون الكثير من المتدينين ينفرون منهم، إلا أن هذه الظاهرة أكثر انتشاراً بين المثقفين الإيرانيين، فهذه الظاهرة تنتشر بين المتدينين على شاكلة لعن أهل السنة». ويوضح بأن:« الحقد والضغينة تجاه السنة ورموزهم لدى الكثير من الإيرانيين هو في واقع الأمر الوجه الآخر للحقد على العرب»[5].

   في الحقيقة ثمة صعوبة في فهم تبريرات زيبا الثقافية! فليس من المنطق القول بأن « هناك علاقة» و« مباشرة بين تدني المستوى الثقافي والنزعة العنصرية»، ثم القول بأن الظاهرة تنتشر بين المثقفين بشكل صريح، فيما يجري التعبير عنها لدى المتدينين بلغة « لعن أهل السنة». فما الموقف مثلا من شخصيات جمعت بين السياسية والدين؟ وتتربع على قمة هرم السلطة، كمرشدَي الثورة، خميني وخامنئي، ورؤساء الجمهورية كخاتمي ونجاد؟ أو شخصيات أكاديمية رفيعة، كشريعتي، حين يقول: هجمت الخلافة مرة أخرى، وأغار سعد بن أبي وقاص آخر في قادسية أخرى. وزحف وحوش العرب من جهة الغرب هذه المرة. فنهبوا مدائن « نا ». ودفنوا لغتنا وإيماننا وثقافتنا وتاريخنا. وجاؤوا بالعبودية والجهل بستار المدنية والعلم. وهدموا الأسوار والبروج وأسقطوا الجدر والسقوف. وأطفأوا نيران المعابد[6]. هذا مع العلم أن شريعتي من المفترض أنه من أشد المناهضين للصفوية والشعوبية!!! وهل ينطبق موقف هؤلاء من العرب والعروبة على الرسول r؟ وعلى آل بيته؟ وعلى الأئمة رضوان الله عليهم؟ وهل تنطبق أحقادهم على آيات الله البينات، حين يقول عز وجل: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾، (الأحقاف:12)، وقوله: ﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾، (الشعراء: 195). بمعنى آخر: هل الفرس المجوس من ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾؟ أم من ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾؟

    الثابت الذي لا مراء فيه أن عداء فارس للعرب يسبق الإسلام. أما وجه الثبات في الأمر، فله من وقائع التاريخ والأحداث ما لا يحصى ولا يُعَد. أما أدبيا، فأبلغها جاء عبر قصيدة لَقيطِ بنِ يَعمُر بن خارجة الإيادي، أحد فحول الشعراء في العصر الجاهلي. وهو الذي كان يعمل كاتبا عند كسرى. ولعله علم بحكم مهنته، ما يدبره الفرس للعرب من حرب قادمة، فما كان منه إلا المسارعة إلى تحذير بني قومه، في قصيدة هي بحق تصلح لهذا الزمان[7]. تقول بعض أبياتها:

              يا دارَ عَمْرَةَ مِن مُحْتَلِّها الجَرَعا          هاجَتْ لي الهَمَّ والأَحْزانَ والوَجَعا

              يا قوم لا تأمنوا إن كنتمُ غيراً            على نسائكم كسرى وما جمَعا

              يا أَيُّها الرَّاكِبُ المُزْجى على عجَلٍ         إِلى الجَزِيرَةِ مُرْتاداً ومُنْتَجِعا

              أَبْلِغْ إِياداً، وخَلِّلْ في سَراتِهِمُ               إِنِّي أَرَى الرَّأْيَ، إِنْ لَمْ أُعْصَ قد نَصَعا

             يا لَهْفَ نَفْسِيَ إِنْ كانَتْ أُمُورُكُمُ            شَتَّى، وأُحْكِمَ أَمْرُ النَّاسِ فاجْتَمَعا

             أَلاَ تَخافُونَ قَوْماً لا أَبَا لَكُمُ                 أَمْسَوا إِليكمْ كأَمْثالِ الدَّبا سِرَعا

                                             ….

             في كُلِّ يومٍ يَسُنُّونَ الحِرابَ لكم           لا يَهْجَعُون إِذا ما غافِلٌ هَجَعا

            لا حَرْثَ يَشْغَلُهُمْ بل لا يَرَوْنَ لهمْ          مِن دُونِ قَتْلِكُمُ رَيّاً ولا شِبَعا

                                             .

            وتَلْبَسُونَ ثِيابَ الأَمْنِ ضاحِيَةً             لا تَجْمَعُون وهذا الجَيْشُ قد جَمَعا

            مالِي أَراكُمْ نِياماً في بُلَهْنِيَةٍ               وقد تَرَوْنَ شِهابَ الحَرْبِ قد سَطَعا


   على كل حال، فبالرغم من الوضوح النسبي في المعنى اللغوي للشعوبية إلا أن المشكلة في توصيفها ظلت حاضرة في أغلب الأبحاث التي تناولتها، سواء لجهة اعتبارها حركة أو نزعة أو عقيدة أو اتجاه أو تيار أو فلسفة أو حتى ثقافة. وإذا قبلنا فكرة أنها ظهرت مع نهايات الحكم الأموي (41 – 132هـ / 662 – 750م) وبداية الحكم العباسي، فهذا يعني أنها حافظت على الاستمرارية دون توقف لأكثر من 1250 عاما. ولا يخلو وصف د. عبدالله السامرائي للشعوبية من وجاهة معتبرة حين يقول بأنها: « مجموعة مواقف متحدية يدفعها الوعي حينا فتكون منظمة، ويدفعها الحقد والحسد حينا آخر فتكون نزعة عدائية غير منظمة».

   والثابت أن الجاحظ في كتابه « البيان والتبيين» كان أول من ذكرها رسما في التاريخ بالقول: « لم نرَ قوماً أشقى من هؤلاء الشعوبية ولا أعدى على دينه ولا أشد استهلاكاً لعرضه». وفي تفسير القرطبي قال عنها: « الشعوبية تبغض العرب وتفضل العجم»، وكذا الزمخشري في أساس البلاغة: « هم الذين يصغّرون شأن العرب ولا يرون لهم فضلاً على غيرهم»، وقال عنها ابن قتيبة: « لم أر في هذه الشعوب أرسخ عداوة ولا أشد نصباً للعرب من السفلة والحشوة». أما ابن تيمية فبعَّضَهم، بحيث لا يطال التوصيف كل الفرس، فقال: « من الناس من قد يفضل بعض أنواع العجم على العرب والغالب إن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عن نوع نفاق إما في الاعتقاد وإما في العمل المنبعث عن هوى النفس .. إن بغض جنس العرب ومعاداتهم كفر أو سبب للكفر». وقال فيها البغدادي: « الذين يرون تفضيل العجم على العرب ويتمنون عودة الملك إلى العجم». ومن جهتها اختصرت الإنسكلوبيديا البريطانية الشعوبية بالقول أنها: « كل اتجاه مناوئ للعروبة».

     والسؤال: مع أن بعض الهنود والترك، خاصة من الفرس أو المتحدثين بالفارسية، وكذا الأندلسيين الذين طالتهم الشعوبية الفارسية في توسعها التاريخي، قبل أن تندثر إلى حد ما، لكن ما الذي جعلها تتضخم عند الفرس دون غيرهم من الشعوب والأمم؟

    لا ريب أن أول الإجابات تتصل بكثرة دخولهم الإسلام. لكن المشكلة أعمق من ذلك. إذ ثمة الكثير من الشعوب والأمم دخلت الإسلام وكانت أكثر عددا من فارس. فكل بلاد الترك دخلت الإسلام، وكذلك الأكراد، والمصريين وحضارات ما بين النهرين وبلاد الشام وشمال أفريقيا وأجزاء من أفريقيا وشرقا وصل الإسلام حتى أقاصي الأرض مرورا بالهند والصين وماليزيا وإندونيسيا، وشمالا بلغ أوروبا. ومع ذلك لم تظهر الشعوبية فيها، ولم يحتج سكانها على العربية أو يرفضوها أو يعادوا ملتها. فلماذا فارس بالذات؟ ولماذا بدت نظرية ابن خلدون القائلة بأن « المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب» وكأنها، على الأقل، مهتزة إنْ لم تكن بلا جدوى مع فارس؟


[1] د. شهلا حائري، « المتعة: الزواج المؤقت – حالة إيران: 1978 – 1982»، بيروت – لبنان، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ط7/ 1996، ترجمة فادي حمود، ص 40. والكتاب رسالة دكتوراه في الأنثروبولوجيا من جامعة كالفورنيا في لوس أنجيلوس.

[2] فرقة قالت: « إن الله خلق روح علي رضي الله عنه وأولاده، وفوض العالم إليهم فخلقوا الأرض والسماوات». انظر: د. كامل الشيبي، « الصلة بين التصوف والتشيع»، بيروت – لبنان، دار الأندلس، ط2، 1982، ص156.

[3] د. علي شريعتي، « التشيع العلوي والتشيع الصفوي»، مرجع سابق، ص 208، 211.

[4] سليم مطر: « المانوية البابلية .. أساس التصوف العراقي»، مرجع سابق.                                                                 

[5] نقلا عن: عبدالله الضحيك: « الفُرس بين البربرية والحضارة»، موقع « الكادر»، على الشبكة: http://cutt.us/SRhDD.

[6] د. علي شريعتي، « دين ضد الدين». مرجع سابق، ص 138. يبدو أن القوم لم يفارقوا منهج الأكاسرة، أو بولس وهو يتحدث عن بني إسرائيل، مخاطبا قومه: « أيها الأخوة لسنا أولاد جارية بل أولاد حرة»، ] غلاطية 31: 4[. فالعرب هم أبناء « الجارية» هاجر، واليهود هم أبناء « الحرة» سارة، أم النبي إسحق. وكلتاهما زوجتا النبي إبراهيم عليهم السلام.

[7] عبدالله الضحيك: « قصيدة لقيط بن يعمر الإيادي- التاريخ يعيد نفسه‏»، موقع «الكادر»، على الشبكة: http://cutt.us/oOVf

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى